العنوان هنا
تقييم حالة 11 أبريل ، 2011

مصر 2011، من الحراك إلى الثورة

الكلمات المفتاحية

مصطفى حمارنة

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في الدّوحة. حاصل على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة جورج تاون. كان مدير مركز الدّراسات الاستراتيجية في جامعة جورج تاون منذ ما يقارب 15 عاما، كما شغل منصب رئيس مجلس إدارة مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، و هو رئيس مجلس إدارة مجلّة السجلّ الشهرية، و عضوٌ مؤسّس لــ"اليوروميسكو"، و المعهد العربي للدّراسات و الاتصالات.

تتّسم ظروف الاحتجاج والرفض والانتفاض أو الثورة بطابعها الشمولي، وترتبط أساساً بقضايا تؤثّر في حياة الناس اليومية، ولا بدّ أن يكون لها انعكاسٌ على طبيعة حياة المجتمع. وتختلف هذه الظروف الموضوعية من حقبة إلى أخرى، لكنها في معظم الحالات محصّلة تاريخية وثقافية.

ولا تشكّل مصر 2010/2011 استثناءً للقاعدة، إلاّ أنّ التجربة المصرية تختلف عن غيرها من الانتفاضات المكلَّلة مثلها بالنجاحات، في مجال حيوي وأساسي؛ يتجلّى في أنّ الأحداث الشّعبية التي أدّت إلى ما يُعرف اليوم بـ "ثورة 25 يناير" كانت تفتقر إلى قيادة معروفة، وإلى بيان مكتوب، وبرنامج سياسي. 

في مرحلة مبكرة جداً وحاسمة من الفترة الانتقالية التي شهدتها مصر، وفي أعقاب تنحِّي حسني مبارك عن منصب رئاسة الجمهورية رضوخاً للضّغط الشعبي، لم يكن لجماهير المتظاهرين ممثّلون في المجلس العسكري أو في الحكومة.

ومع ذلك، فإنّ ثورة 25 يناير عرفت نوعا من "القيادة الغائبة"، التي تتشكل من تجمّع غير متماسك من الشبّان (في معظمهم)،ينتمون إلى خلفيّات سياسية وعقائدية واجتماعية شتّى. وكان الهدف الأوّلي الذي وحّدهم يكمن في الرّغبة العارمة في الحرية، وفي رفع مستوى الحياة -بمعناه الأوسع- للأغلبية العظمى من المصريّين. وكان القاسم المشترك بين هؤلاء الشبّان أيضاً مستوى الانضباط والمثابرة والمقدرة على إرساء أشكال تنظيم عصري بهدف تحقيق مطالبهم، فكانوا متحرّرين من الانقسام العقائدي والأنانيّة والعقيدة الحزبية التي وسمت علاقات الجيل القديم للسّياسيّين المصريّين. وقد ارتضى هؤلاء القادة الشبّان المساومة حالما تطلّبت المتغيّرات على الأرض ذلك، فيما لم يغبْ أبداً عن أنظارهم هدفهم الرئيس. ومن هنا حقّق التنظيم نجاحا عظيما خلال مرحلة الإعداد لتظاهرة 25 كانون الثاني/يناير، وخلال ما أعقبها من أحداث.

وما لا شكّ فيه، أنّ هذا الجيل من المصريّين منفتحٌ على الحداثة ومتجذّر فيها؛ لذلك كان من الطبيعي أن يلجأ أفراده إلى الفضاء الافتراضي عند تخطيط الأنشطة وتعزيز التنظيم والتعبئة. وبعد أن اعتقدت أجهزة النّظام القديم أنّها ستنجز الاستقرار، وتحمي سطوة نظام "سلالة" مبارك بتضييق الخناق على الحريات العامّة، نراها قد تلقّت ضربة قاسية، إذ لم تكن لديها معرفة بالانترنت وبتطبيقاتها وبمدى نفوذها. ولم ينطلق هؤلاء القادة الشبّان في تعبئتهم من فراغ، حيث إنّهم كانوا منخرطين في الحراك السّائد في مصر، وسعوْا إلى تغيير الوضع السّائد فيها، وبدأت حكاية الأغلبيّة منهم مع حركة "كفاية" في سنة 2005.

وقد بيّنت لهم حركة "كفاية" أنّ المرء باستطاعته أن يكون جريئاً وقادراً على التعبير عن رأيه أمام الملأ. وكان هؤلاء القادة الشّبان يعلمون أنهم سيدفعون الثّمن نظير ذلك، إلاّ أنهم لم يهابوا شيئا؛ فشكّل النّقاش الحادّ بشأن توريث السّلطة، إضافة إلى المظاهرات المحدودة في أماكنَ شتّى ولاسيّما المدن الكبرى، وإطلاق الشّعارات المحظورة؛ معالمَ أساسيّة في تطوّرهم السّياسي.

رأى المجتمع المصري أنّ النّخبة العليا، داخل السّلطة وخارجها، فاسدة ومتلاحمة فيما بينها؛ بغية تحقيق هدف واحد ألا وهو مضاعفة ثروتها وتعزيز سلطتها، فيما كان جهاز الأمن يحمي هذا التّحالف بدلاً من أن يطبّق القانون، وباتت الحياة العامّة تخضع -خضوعًا شبه كلّي لسلطة الجهاز الأمني: المخابرات في كلّ مكان، ترصد حركة النّاس، وتعترض سبيلهم عند محاولتهم حضور اجتماعات مجالس إدارة الشركات الكبرى، إذ إنّ مواقع المحافظين، ووظائف الدولة العليا، كانت حكراً على مناصريهم، وبهذا صار الفساد أشدّ وأدهى؛ حيث بات تعيين أساتذة الجامعات يخضع لموافقة الجهاز الأمني، ومن ثمّة تدهور مستوى مؤسّسات التعليم العالي، وبدلا من أن تكون مؤتمنة على تخريج شبّان وشابات مؤهّلين بمهارات ترتقي بمجتمعاتهم، أصبحتْ مؤسّساتٍ منظّمة لتصدير الجهل، ما تسبّب في آثار وخيمة على رأس المال البشري في مصر.

وعلاوة على ذلك، كانت قوى الشّرطة في مصر (يقدّر عددها بحدود 500000) مكروهةً في كلّ أرجاء البلاد، لتعاملها الوحشي مع الشّعب، وسوء معاملتها له. وقد كانت تشكّل قوة شرسة تعذّب المواطنين وتؤْذيهم، حتى أنّ عدداً منهم قضى تحت التعذيب في بعض الحالات. والأهمّ من ذلك، أنّ الشرطة باعتبارها قوّة مؤتمنة على فرض تطبيق القانون، لم تعمل على توفير الأمن، وعانى أغلبيّة المصريّين من سوء أداء أفرادها ومن تجاوزاتهم. وكان إعلان مبارك يوم عيد الشرطة في 25 كانون الثاني/يناير عطلة رسميّة ما يعيد إلى أذهان الشّعب ذكرى كابوس محدق، إذ كانت وفاة الشابّ خالد سعيد تحت التعذيب، وهو قيد الاعتقال في الإسكندرية، هي الحادثة التي دفعت بالجيل الشابّ إلى حشد قواه. وكانت وفاته قد أطلقت أوّل مبادرة على الفضاء الافتراضي (الانترنت)، سعت لاستنهاض الدّعم الجماهيري بشأن مزيد من الانفتاح والديمقراطية، بالطريقة نفسها ، تقريباً ، التي أضرم بها محمد بوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على الإهانة التي تعرّض لها من عناصر أمن البلدية، وكان ذلك الحافز الذي أشعل الثّورة التونسية.

ووفقاً لما أظهرته التطوّرات اللاّحقة، خطت الحركة المصريّة الشابّة خطواتها الأولى على طريق الثورة الذي انتهجته نظيرتها التونسية، كما يتبيّن من دعوتها إلى تحقيق مطالب على المستوى نفسه من الجدّية في المجالات الاجتماعيّة والسّياسية والثقافيّة.

احتلّت جماعة النظام القديم عالَماً موازياً لباقي المجتمع المصري، ومنعزلاً عنه، معتمداً حصراً على قوّات الأمن لضمان الاستقرار السياسي من وجهة نظرهم، فلم يردعهم رادع عن تأمين فوزهم في انتخابات 2010 البرلمانية بطرق غير قانونية ولا ديمقراطية؛ حيث عمد الحزب الوطني الحاكم، بالتعاون مع قطاعات قوّات الأمن المصرية كافّة، إلى تنظيم تصويت علني، وتزوير الانتخابات، وشراء الأصوات بالجملة، وإثارة الشّغب؛ فنجم عن ذلك برلمان يهيمن الحزب الوطني عليه بالكامل. وشكّل هذا الحدث إهانة لا تغتفر للشعب بأسره؛ إذ شعرت الجماعات والأحزاب السياسية كلها، تقليدية أو ناشئة، بأنها مُقْصاة.

كان إغلاق الباب المتعمّد في وجه أيّة إمكانية محتملة للانفتاح السياسي تحت نظام مبارك بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، حيث لم يبق أمام المصريّين إلاّ سبيل واحد ممكن: تغيير النظام. ومع ذلك، لم يكن واضحاً على الإطلاق لمنظّمي المظاهرات أنهم قادرون على فرض هذا التغيير وبهذه السرعة، إضافة إلى أنهم لم يطمحوا إلى كلّ ذلك في بداية المطاف، وكانت المفاجأة السارّة يوم 25 كانون الثاني/يناير، حين بدأت الجماهير نفسها تهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام"، فأتت هذه الصّرخة صدى لصّحوة الشعب التونسي في وجه بن علي، إذ رغب المصريون، مستمدّين قوّتهم من التونسيّين، في مجاراة تجربتهم.


حراك ما قبل 25 كانون الثاني/يناير

لم يخطّط الشبان المتحمّسون، منظّمو التظاهرات المنضبطون والمنفتحون، لقلب النظام حين شرعوا في التعبئة قبل ذلك بعامين، ولم يكن دافعهم حزبياً أو طائفياً أو عرقياً أو جغرافياً، بل وحده الحسّ الوطني كان وراء ذلك؛ فأنجزوا ما لم ينجزه أيّ حزب آخر، أو أيّة جماعة أخرى على مدى عقود، في توحيد الشعب وإحداث تغيير في السّياسات والبرامج. وكان النظام، على مدى سنين، قد بذل جهوداً حثيثة لتحييد الشعب عن السياسة، فجاءت جماعةٌ صغيرة من القادة الشبّان لتحبط تلك الجهود، وتنتهز فرصة تاريخية، فوحّدت البلاد عبر مطالب سياسيّة ووطنية ضمن فضاء الحّيز العام، فمهّدت الدّرب أمام قيام مصر الحرّة.

بدأ كلّ ذلك في المحلّة في 6 نيسان/أبريل 2008، حين قرّرت مجموعة ناشطين التظاهر في هذه الضّاحية الصّغيرة البعيدة عن القاهرة تأييداً لمطلب رفع الحدّ الأدنى للأجور. ومن وجهة نظر هؤلاء الناشطين، كان التجمّع ناجحاً نسبياً، فقرّروا الاستمرار في جهودهم السّياسية. وبعد تظاهرة المحلّة، رمت استراتيجية الناشطين في البداية إلى التجمّع في تظاهرات صغيرة، كلّ منها في وقت مغاير في حيّ من أحياء القاهرة التي تضم الفقراء وأصحاب الدّخل المتدنّي. وكان المتظاهرون يرفعون دوماً شعارات تنادي بمطالب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالهمّ الاقتصادي: الحاجة إلى تأمين وظائف للعاطلين عن العمل، والتوزيع الأفضل للدخل وغير ذلك. وفي بعض المظاهرات، وزّع المنظمون مناشيرَ تلقي الضوء على قضايا اقتصادية. ولم تكن شاملة، إلاّ أنها بدت مشجّعة في أعين المنظّمين.

ولأنّ الناشطين كانوا مدركين تماماً لسطوة الشّرطة والمخابرات، فإنهم لم يكشفوا أبداً عن خططهم على الملأ، ولا حتى أمام المتظاهرين الذين شاركوا في تلك التجمعات في البدء. فلو أنّ حدثاً ما احتاج إلى ثلاث مجموعات أو خمسٍ على سبيل المثال، كان قائد كلّ مجموعة وحده ملماً تماماً بالخطّة بكاملها، كما أنّهم استخدموا الانترنت، وغيّروا أرقام هواتفهم المحمولة على الدوام. وفي إحدى المظاهرات، توجّه عددٌ من القادة إلى الحيّ المزمع تنظيم تظاهرة فيه قبل عدّة أيام من التظاهر، حاملين مؤقِّتا  (كرونومتر)، فحسبوا المدّة الضرورية للعبور مشياً من منطقة إلى أخرى، وحدّدوا مسافة أقرب مقرّ شرطة في المنطقة من مكان انطلاق التظاهرة، ووجهة تدفّق سير العربات، بطريقة تمكّن رفاقهم من تجنّب أيّ تدخّل لقوى الأمن. وكان الحدث ناجحاً، فقد جرت التظاهرة، ووُزّعت المناشير، بل إنّ بعض الواقفين على الأرصفة صفّقوا للشبّان المتظاهرين، وتمكّن الجميع من الفرار.

كانت الانترنت وسيلة التّواصل بين جماعة 6 نيسان/أبريل وحزب الجبهة الديمقراطية والعدالة والحريّة ومجموعة "كلّنا خالد سعيد" وحملة البرادعي وشباب الإخوان وآخرين غيرهم، واتّصلت بهذه الحلقة من الناشطين السياسيّين ، مجموعةٌ طريفة من مناصري الأهلي والزمالك (فريقيْ كرة القدم المصرييْن  الشعبييْن). ويعدّ هؤلاء المناصرون بالآلاف، وكانت الشّرطة قد أساءت إليهم خلال عدّة مباريات، ووجدوا على الأرجح في عيد الشرطة مناسبة للتشويش عليها في يومها الوطني. وقد أدّى هؤلاء المناصرون المشاكسون والأشدّاء والمنظّمون دوراً أساسياً في مواجهة الشّرطة، حين اندفعت حشود المواطنين إلى ساحة التحرير يوم 25 كانون الثاني/يناير.

لم يشارك قادة الإخوان المسلمين وأحزاب أخرى في حدث 25 كانون الثاني/يناير 2011، غير أنّ شباب الإخوان الذين يشكّلون نسبة عالية من أتباع الحركة، قرّروا المشاركة مع زملائهم العلمانيّين، الذين كانوا على اتّصال بهم منذ أحداث المحلة في سنة 2008، وهو ما وحّد المنظّمين تحت شعار غير مدوّن، ألا وهو: الرّغبة في مصر أكثر ديمقراطيّة وعدالة.


ردّة فعل الدولة

لم تتصوّر جميع الأحزاب السياسية في مصر، ولا كبار مسؤولي الدولة، أنّ حدثاً نظّمه مجهولون يفتقرون إلى برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي يعلنونه للناس، سيشهد هذا الانتشار السّريع بين الجماهير على نحو ما جرى؛ فانتهج نظام مبارك المسلك التقليدي للنظام السّلطوي ، متمثّلا في عنف الدولة ، وهي الطريقة الوحيدة للقضاء على التمرّد غير المرغوب فيه.

 وهكذا، قامت استراتيجية الشرطة على الحيلولة دون وجود تجمّعات كبيرة، ومنْع الجماهير من الوصول إلى ساحة التّحرير، لكن الحشود كانت هائلة، حيث تدفّق مئات الآلاف من المواطنين إلى الساحة من جميع الاتجاهات، وانطلقت عدّة مظاهرات في أنحاء البلاد قاطبة. وما إن حلّ المساء، حتى بدأت الجماهير تصل إلى ساحة التّحرير، فيما تداعت بعض تحصينات الشّرطة بفعل تدافع الحشود، ثم استنفدت الشرطة كلّ ما لديها من القنابل المسيلة للدموع والطّلقات المطّاطيّة. وانتظرت أجهزة النظام البوليسية حتى قرابة منتصف الليل قبل أن تعاود هجومها على الجماهير؛ التي كانت من خلفيات اجتماعية واقتصادية مختلفة ، مع غلبة لأبناء الطبقة الوسطى؛ لكن هذا الهجوم عزّز صلابة المتظاهرين، وأشعل فتيل الغضب الجماهيري أكثر على مبارك ونظامه، فرُفع شعار "يسقط النظام".

وعاودت حشود الشبّان العُزّل بقيادة شباب الإخوان وجماهير مناصري كرة القدم، فأحضر أحد قادة حركة 6 نيسان/أبريل الخيمة الأولى ونصبها في ميدان التحرير، واعتبر قادة الحركة أنّ تلك الخطوة يجب أن تشكّل بداية احتلال السّاحة حتّى تحقيق مطالبهم. وإلى غاية ليلة 25 كانون الثاني/يناير لم تشتمل لائحة المطالب التي رفعوها على مطلب تنحِّي حسني مبارك، وهو ما صرّح به أعضاء القيادة الشّابة بعد أسابيع على سقوط مبارك، بأنه لو عمد إلى إقالة وزير داخليته في تلك الليلة، لكان المتظاهرون عادوا إلى منازلهم، و لشعرت القيادة الشابّة بأن هدفاً أساسياً قد تحقّق. لكن هذا الإحساس بالإنجاز لم يكن ليدوم طويلاً في ضوء تركيبة نظام مبارك البشعة. وكما اتّضح فيما بعد، فقد دفعت ردّة فعل النظام بالمتظاهرين إلى رفْع سقف مطالبهم.

في أعقاب حادثة 25 كانون الثاني/يناير انطلقت مظاهرات عفويّة في القاهرة كلها، وفي مدن أخرى مثل الإسكندرية والسويس وغيرهما، وشكّل ذلك ضغطاً على الشّرطة في محاولتها إنهاء موجة المظاهرات والحراك الشّعبي في مصر بأسرها. وبما أنّ المتظاهرين آنذاك اشتبكوا مع الشرطة، فقد كانوا يتلقّون النّصح من زملائهم في تونس بشأن كيفية التعاطي مع الشرطة والقنابل المسيلة للدموع وغيرها من وسائل القمع.

ومرة أخرى، كانت ردة فعل النظام متوقّعة، إذ شملت إغلاق قنوات الاتصال والتنظيم، وعُطّلت خدمات الهاتف والجوّال والانترنت، وفُرض حظرُ التجوّل، لكن  شبكة أخبار الجزيرة كانت تذيع المعلومات عن التظاهرات المخطّط لها عبر بثّ القمر الصناعي، ولجأ الناس إلى وسائل الإعلام الرّقمية للحفاظ على التّواصل، فتدفقّت الجماهير ثانيةً للمشاركة في التظاهر.

وهكذا، أثمر حظر التجوّل، الذي رأت فيه جماعة مبارك وسيلة لضبط الوضع، نتائج عكسية؛ حيث أُغلقت المصارف والشركات، ووجد المحافظون أنفسهم بلا عمل يقومون به، إضافة إلى انهيار قوّات الشرطة، فرغم أنّ أعدادها كانت غفيرة، إلاّ أن حدّة المظاهرات حالت دون نجاح هذه القوّات في تقديم مزيد من الدّعم للنظام.

ولاحقاً تم سحب الشّرطة، وانتشر الجيش، واندلع فجأة العنف الثأري في أرجاء مصر، مستهدفاً رموز نظام مبارك المبغوضين، وأُحرقت مباني الحزب الحاكم في قلب العاصمة وفي مدن أخرى، وأُضرمت النّيران في مراكز الشرطة، وهوجمت السّجون وأُطلق السجناء. ومع أنّ تحرير معتقلي حماس وحزب الله أشار إلى أنّ العملية نظّمتها مجموعات لها مصلحة واضحة في تحرير رفاقهم، إلاّ أنّ اقتحام السّجون لم يقتصر على تحرير السّجناء السّياسيين، حيث شمل سجوناً أخرى، وفرّ منها مجرمون محكوم عليهم في قضايا جنائية. وشهدت القاهرة، وغيرها من الأماكن، أعمالَ عنف ونهب، اتُّهم المجرمون الفارّون بتنفيذها؛ وجاء ردّ الجماهير سريعاً ومنظّماً، وعملتْ اللجان الشعبية، التي انتشرت في مختلف الأحياء، على وضْع حدٍّ للأذى الذي استهدف الناس والممتلكات، فمنعت ممارسات العنف التي كانت على وشك أن تجعل الحركة الشعبية برمّتها تحيد عن مسارها.

وقد حظي مبارك ببعض التعاطف أعقاب خطابه الثاني على شاشة التلفزيون يوم 10 شباط/فبراير، حيث بدا أنّ هناك فسحة أمل للنظام في شقّ صفّ المعارضة من خلال إطلاق حوار مع بعض المجموعات، لكن اليوم التالي للخطاب شهد اشتباك "بلطجية" يمتطون الخيول والجمال مع المتظاهرين، فهاجموهم بالعصيّ والقضبان، مطْلقين شعارات مؤيّدة لمبارك (ولا بد أن تدوّن هذه الحادثة التي أطلق عليها المصريّون اسم "موقعة الجمال" بحسّهم السّاخر، بهذا الاسم في التاريخ السياسي). وقد قضت هذه الحادثة التي استغرقت أقلّ من ساعة على أيّ تعاطف كانت الجماهير تشعر به تجاه نظام مبارك، كما أنها طرحت تساؤلات ستبقى سنوات ، من قبيل: مَن هؤلاء "البلطجيّة"؟ ومن أين جاؤوا؟ وإن كان هناك مَن أرسلهم فمن هو؟

بعد هذه الحادثة، ساد شعورٌ عام في مصر بأنّ أيام مبارك رئيساً لمصر باتت معدودة، فقد رفض المنظّمون الشبّان الموافقة على دعوة النّظام للحوار مع عمر سليمان؛ بل على النقيض من ذلك، ضاعف الشّباب مطالبهم، ومارس شباب الإخوان، الذين كانوا مشاركين في التظاهرات في مصر بأسرها، شتّى الضّغوط على قيادتهم لحثّها على الانسحاب من عملية الحوار التي بدأها عمر سليمان مع المعارضة.

كانت دائرة مبارك الداخلية تتألف من حفنة من السياسيّين الذين لم يخضعوا لمساءلة سلطة منتخبة أو لمؤسّساتهم نفسها، وقد كانوا في خدمة مبارك لا في خدمة الرئيس، وكانوا يسْدون له النصح قرابة عقْد، ويزوّدونه بالمَشورة التي تخدم مصالحه الذاتية؛ ما أدّى في نهاية المطاف إلى سقوط مبارك ودائرته.

ونظراً لتشرذم عملية اتّخاذ القرار على مستوى الدولة، وعزلة مبارك ومَن حوله، وانهيار قوّات الأمن، وحياديّة الجيش؛ بات على الدّولة أن تواجه، ليس حفنة من الشبّان المنظّمين الذين كانوا مستعدّين للمضيّ حتى النّهاية فحسب، ولكن ما بدا وكأنه الشّعب بأكمله الرّافض للنظام؛ فاضطرّ مبارك إلى الاستقالة.


الفترة الانتقالية

غادر مبارك ودائرته المشهد، لكن تركيبة الدولة التي أرساها ما زالت قائمة، ويبدو النقاش الدائر في مصر بشأن مسار العمل من أجل مستقبل البلاد حادّاً. على الرغم من أنّ الجيش بدا حيادياً، إلاّ أنّ إصراره على مرحلة انتقالية تستمرّ ستة أشهر، يجري بعدها انتخاب رئيس الجمهورية والبرلمان، نتج عنه أثران؛ أولهما: رسالة قوية مفادها أنّ الجيش لا يطمح إلى دور سياسي في البلاد، ويضاف إلى ذلك رغبة الجيش في تعديل الدستور لضمان إنصاف العمليّة السياسية لانتخاب الرئيس والبرلمان ونقائها؛ وثانيهما: الخوف من أن القوى الداعية إلى الديمقراطية، التقليدية منها والشابة، ترى أن فترة الأشهر الستة غير كافية لنشوء أحزاب سياسيّة جديدة،  قادرة على التّنافس وعلى إحداث تأثير.

وفيما عدا قلّة قليلة من المسؤولين ورجال الأعمال الفاسدين الذين اعتقلوا في أعقاب تولّي المجلس العسكري شؤون البلاد (ويقبع هؤلاء الآن في السّجن في انتظار المحاكمة)، فإنه لم يطرأ أيّ تغيّر أساسي على تركيبة النّخبة؛ فما زالت القوانين القسرية البالية والأعراف غير المدوّنة قيد التّنفيذ، من ذلك أنّ رؤساء الجامعات ما زالوا ملتزمين بالقانون القديم الذي يقضي بأن لا يتمّ تعيين أيّ أستاذ في هيئة تلك الجامعات من دون موافقة الأمن؛ كما بقي معظم مسؤولي الدّولة السابقين في مواقعهم: وزارة الخارجية بطاقمها، والمحافظون في مناصبهم، بالإضافة إلى أنّ الضبّاط الذين اصطفاهم مبارك مازالوا في الخدمة. وأخيراً، غادر رئيس الوزراء أحمد شفيق منصبه بعد مرور 20 يوماً على خلع مبارك بتأثير ضغط القاعدة الشّعبية.

وما زالت إحدى القضايا موضع النقاش الآن في صفوف المثقّفين وموظّفي الدولة، تلك التي تطرح السّؤال: أين نحن الآن؟ ما يعيد إلى الأذهان الأحداث التاريخية التي جرت في مطلع سنة 2011، والتي يدعوها القادة الشبّان والجماهير التي تظاهرت "ثورةً"، في حين أنّ نخبة الدولة، في الداخل والخارج، تسمّيها "حركةً".

لا بدّ أن ينجم عن أيّ ثورة تغييرات بنيوية جذرية، تعود بالفائدة على توجّه البلاد في السياسة الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء، إلاّ أنّ ذلك لا ينطبق على مصر . وإذا كان لمصر أن تحقّق قفزة نوعيّة إلى الأمام، فلابدّ أن يتواصل الضّغط الجماهيري على الرغم من الخسائر الاقتصاديّة وعلى ما يبدو أنه فوضى.

وعلى المدى الطويل، ستبني مصر ديمقراطية تجذب مزيداً من الاستثمارات العربية والأجنبية، ومع اتّساع فسحة الحريّة، سيزدهر الإعلام المستقلّ، ويتمكّن المجتمع المسيّس من إنتاج سياسيّين يقدّمون برامجَ أفضل من المجتمعات المتشرذمة التي تنتج أفراداً ضيّقي الأفق محدودين ووجهاء قرى؛ وبوجود برلمان حيوي ومندفع، ستكون السلطة التنفيذية في مصر أكثر فعالية واستقلالاً.

لا بد أن تغيّر مصر ديمقراطيةٌ شخصيةَ المنطقة؛ وبالتالي ستشعر الأنظمة الأخرى بالضّغط المتواصل والدائم من أجل التغيير، وإلاّ ستلقَى مصير نظامَيْ بن علي ومبارك وغيرهما على الطريق.

ومرةً ثانية، يكمن أمل التّغيير في أيدي القادة الشبّان الذين أطلقوا هذه العملية، وتُظهر استقالة أحمد شفيق بوضوح أنّ منظّمي المظاهرات حافظوا على مقدرتهم على حشد الآلاف، لا بل الملايين، وتعبئتهم بعد استقالة مبارك، وهي أيضاً شهادة دامغة على أنّ مجموعة صغيرة من الشّبّان المسلّحين بمُثلهم فقط، وبوضوح في الرّؤية، وبالتّصميم، قادرة على الاستمرار في عملية تحويل مصر إلى مجتمع ديمقراطي.


* ترتكز هذه المقالة على مقابلات أجريت مع عدد كبير من القادة الشبّان الذين نظّموا الحركة/الثورة، ومع زعماء الأحزاب السياسية المحلية (و مع الإخوان المسلمين)، ومع سياسيين في الحزب الحاكم السابق، ومع أعضاء في البرلمان المنحلّ، ومع أكاديميين وصحافيين وناشطين آخرين أثناء رحلة ميدانية إلى القاهرة، من 19 إلى 25 شباط/ فبراير 2011، وكان الغرض منها محاولة إعادة بناء الواقع التاريخي المصري خلال الأشهر القليلة الماضية.