العنوان هنا
تقدير موقف 16 يونيو ، 2011

خيارات ليبيا

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

انطلقت ثورة 17 شباط/فبراير متأثّرةً بنجاح ثورتيْ تونس ومصر. وحاول شباب ليبيا محاكاة النّموذجين السلميّين السابقين، لكن سياسة النّظام الليبي بقمْعها عسكرياً، والتصدّعات التي حصلت في بنيته عقب انطلاقتها أنتجت ظاهرة ثوريّة مختلفة تجلّت في وجود معارضة شعبيّة مسلّحة هدفُها مواجهة خيار النّظام وأْدها عسكرياً.

ونظراً لاستهداف كتائب القذافي للمدنيّين، وغياب مبادرة عربية باستثناء تفويض مجلس الأمن لفرض منطقة حظْر جوّي فوق ليبيا، صدر قرارٌ أممي تحت عنوان "حماية المدنيّين"، ما أضفى بعداً جديداً على الواقع العربي، تجلّى في صورة تدخّل دولي عسكري ضدّ نظام القذّافي. وانحصر هذا التدخّل في 28 آذار/مارس 2011 في حلف الناتو الذي تولَّى القيادة الكاملة للعمليّات العسكريّة في ليبيا، وتجاوز حدود قرار مجلس الأمن بالحظر الجوّي وحماية المدنيّين إلى حدّ استهداف القذافي شخصياً واستخدام أدواتٍ جديدة.

تدلّل المعطيات العسكريّة من جهة والمواقف الدوليّة من جهة أخرى على أنّ مرحلة نظام القذّافي في حكم المنتهية واقعيًّا. بيْد أنّ المرحلة المقبلة لا تزال غير واضحة المعالم لعدم وجود قوّة عسكريّة ليبيّة منظّمة واضحة الولاء، وترتيبات سياسيّة قانونية جدّية لمرحلة ما بعد القذافي، خاصّةً فيما يتعلّق بشكل النّظام السياسي المقبل. وهو ما يجعل الوضع في ليبيا ينطوي على العديد من المخاطر، خصوصًا في شأن دور القوى الدولية الفاعلة ومدى تأثيره مستقبلاً في موقع ليبيا الجيو-ثقافي عربيًّا، ودورها السّياسي في قضايا العالم العربي المركزية . وتتجلّى هذه المخاطر في ما يلي:


أوّلاً: شرعية التمثيل

رغم اعتراف العديد من الدول بالمجلس الوطني الانتقالي ممثّلاً للشّعب الليبي أو ممثّلاً شرعياًّ وحيداً له وإجراء الاتّصالات معه، إلاّ أنّ الكثير من الغموض لا يزال يكتنف الواقع الدولي عمّا ستؤول إليه الدّولة الليبية بعد سقوط القذافي؛ خاصّةً أنّ أفكار المجلس وبرامجه لم تحصلْ على توافقٍ وإجماع وطني ليبي وخصوصًا في مدن الغرب المنتفضة. إضافةً إلى وجود تباينات سياسيّة عدّة بين المجلس الوطني وائتلاف شباب 17 شباط/فبراير، واتّحاد شباب الثورة وغيرهما من المبادرات الوطنيّة.

وتقوم على الأرض مبادراتٌ ثوريّة مسلّحة عديدة تتراوح بين مستويات المدينة والناحية، ولكن لا توجد قيادةٌ موحّدة ذات استراتيجيّة واضحة لتحرير طرابلس وذات علاقة واضحة مع المجلس الوطني الانتقالي الذي انشغل كثيرًا بالعلاقات الدولية.

قدّم المجلس الوطني الانتقالي مقترحَ "خارطة طريق" ينصّ على إقامة حكومة تصريف أعمال مؤقّتة يختارها المجلس بعد سقوط القذافي. وتضمّ بالإضافة إلى ممثّلي المجلس شخصيّاتٍ عسكريّة وتكنوقراطية عملت في النّظام السّابق إلى جانب شخصيّة قضائية من المحكمة العليا. يدعو بعدها إلى مؤتمر وطني عام يندمج معه المجلس الانتقالي، وينحلّ فيه عمليًّا. وتكون مهمّة المؤتمر الإعداد لدستور ليبي جديد في غضون أربعة أشهر. وتُجرى بعده انتخاباتٌ برلمانية بإشراف دولي. وينتخب البرلمان الجديد رئيس الدولة، الذي يختار رئيس الوزراء ليشكّل الحكومة الوطنية.

للوهلة الأولى، تبدو خارطة الطريق واقعيّةً لجهة تنظيم مرحلة ما بعد القذّافي، لكنها تنطوي على إشكاليّات عميقة. فالمجلس الانتقالي تمّ تشكيله بسرعة للحاجة إلى عنوان سياسي بديل لسلطة القذافي، ولم يقم بطرق تؤهّله لكي يحكم. كما أنّ مقياس الشرعيّة الشعبية لم يختبر واقعياً بعد، باستثناء اكتسابه الشرعيّة الدولية اللازمة لمحاصرة نظام القذافي وطلب العوْن.

المشروعيّة مسألة سياسيّة وقانونية، والمجلس الوطني الانتقالي مطالَبٌ بحسم هذه المسألة من خلال العمل على إنتاج صيغة موحّدة تؤطّر جميع القوى الفاعلة المنضوية تحت لواء الثّورة أو التّابعة لها كائتلاف شباب 17 شباط/ فبراير والمجلس العسكري ووحدات الثوّار المقاتلة في كافّة المناطق، وخاصّةً في الغرب، ثم الدّعوة لمؤتمر وطني.


ثانياً: افتقاد المؤسساتية

تميّزت ليبيا في عهد القذافي عن سائر المنظومة العربية بعدم استيفائها التّعريف الإجرائي للدولة المتمثّل في العقد السّياسي (الدستور) و البنية البيروقراطية المؤسّساتية (الجيش، البرلمان، الأمن، الشرطة) إضافةً إلى غياب البنية السّياسية والاجتماعيّة خارج النّظام (الأحزاب والنّقابات وغيرها من المؤسّسات). ويشكّل هذا تحدّيًا كبيرًا للمجلس الوطني خلال المرحلة الانتقاليّة لجهة إنضاج مؤسّسات سياديّة كالجيش الوطني والأمن والوزارات المختلفة، إضافةً إلى تهيئة مناخ سياسي يسمح ببلورة الأفكار السياسيّة على اختلاف التوجّهات؛ وبما يساهم في توفير البيئة اللازمة لتشكيل التكوينات المنظّمة بمختلف تسمياتها في مرحلة ما بعد سقوط نظام القذّافي.


ثالثاً: الغطاء العربي

باستثناء دولة قطر والمملكة الأردنيّة الهاشميّة، ومؤخّرًا دولة الإمارات العربيّة المتحدة، لم تعترف أيّ دولة عربيّة بالمجلس الوطني الانتقالي في ليبيا حتّى تاريخه. ويمكن الارتكاز في تفسير هذا السّلوك إلى الاختلالات البنيويّة التي تعانيها الأنظمة العربيّة نتيجة للواقع العربي الجديد وما تمخّض عنه من ثورات وحركات احتجاجيّة. غير أنّ هناك دولاً عربية قد تكون بعيدة عن هذا الواقع، كالمملكة العربية السعودية وبعض الدول الخليجية، لكنها وبالرغم من عدائها المعلن لنظام القذافي إلاّ أنها لم تطوّر موقفًا واضحًا لجهة الاعتراف بالمجلس الانتقالي. وبالرغم من أنّ تخوّف هذه الدول من الإقدام على مثل هذه السوابق التي قد يتمخّض عنها تداعياتٌ مستقبليّة يفسّر عدم قيامها بهذه الخطوة، إلاّ أنّ حراك المجلس المبادر تجاه الدّول العربية لا يزال هو الآخر محدودًا وهشاً رغم أهميّة "الشرعيّة" العربيّة في ترتيب المرحلة المقبلة بعد سقوط النظام. لذلك فالمجلس مطالَبٌ بإنتاج فاعلية اتّصاليّة ودبلوماسية للاعتراف به عربيًّا، وقد يكون المدخل الأمثل من الدّول التي نجحت فيها الثّورات الشعبية كتونس ومصر.