العنوان هنا
تقدير موقف 11 أغسطس ، 2012

سيناء التائهة بين غياب الدولة والاستثمار السياسيّ

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

استهدفت مجموعةٌ مسلّحة نقطةً أمنيّةً مصريّةً مساء يوم الأحد 5 آب / أغسطس 2012، وأدّى الهجوم إلى مقتل ستّة عشر جنديًّا مصريًّا وجرح سبعة آخرين، واستولى المهاجمون على مدرّعتين عسكريّتين اقتحموا بهما الحدود الإسرائيليّة. وبحسب الرواية الإسرائيليّة، فإنّ طائرةً إسرائيليّةً قصفت المدرّعتين وقتلت سبعةً من المهاجمين.

لم يكن الهجوم تطوّرًا مفاجئًا، أخذًا بعين الاعتبار الأحداث الأمنيّة التي شهدتها سيناء على الحدود المصريّة المشتركة مع قطاع غزّة وإسرائيل خلال السنوات الماضية، والتي زادت وتيرتها منذ ثورة 25 يناير قبيل سقوط النظام المصريّ السابق، وما تبعها في الفترة الانتقاليّة من انفلات أمنيّ، واستهدافٍ لأنابيب الغاز وعمليات تهريب للأسلحة.

تحاول هذه الورقة تقديم قراءةٍ تحليليّة عن الحادث ودلالاته وتداعياته بعد أن سبّب صدمة للرأي العام المصريّ، وأحدث ارتباكًا على مستوى القيادة السياسيّة والعسكريّة والقوى المختلفة في مصر، لا سيّما أنَّ العملية حدثت في منطقةٍ حسّاسةٍ قادتها الظروف التاريخيّة والدوليّة إلى أن تدير نفسها بنفسها بعد انسحاب الدولة.


خصوصية سيناء بوصفها منطقة تخوم

لقد تآلفت مجموعةٌ من العناصر لتشكّل خصوصيّة سيناء التي ميّزتها عن باقي مناطق جمهوريّة مصر العربيّة. إضافة إلى كوْنها منطقةً طرفيّة بالنسبة إلى المركز الحضريّ، فقد أثّر وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيليّ بعد حرب حزيران / يونيو 1967 ثمّ استرجاعها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في طبيعة الشخصية الاجتماعية لأهل سيناء، إذ قادت بنود الاتفاقية مع إسرائيل -والتي سحبت الدولة المصريّة عمليًّا من المنطقة- إلى بروز جماعات عشائريّة وأخرى عقائديّة أدارت مصالح أهل سيناء وجعلت نفسها الحاكم الفعليّ لهم[1].

لم يعِ النظام المصريّ السابق أهمية ارتباط السيناويّين بقطاع غزة وتأثير سياسته تجاه القضية الفلسطينيّة في أهالي سيناء، فقد كانت منطقة شمال سيناء تاريخيًّا مشدودةً إلى مدينة غزة بوصفها مركزًا حضريًّا تقليديًّا قديمًا وجاذبًا للأعمال التجاريّة، وسوقًا تجد فيها التجمّعات الصغيرة المتناثرة في شمال سيناء وجنوبها ما تحتاج إليه من السلع. وقد استمرّت هذه العلاقة على الدوام، وتوثّقت بالذات عند وقوع قطاع غزّة تحت الإدارة المصريّة بعد حرب عام 1948.

ولقد عزّزت أشكال العلاقة التجاريّة والارتباط الإداريّ العلاقات الاجتماعيّة بتصاهر العائلات والإقامة والسكن بين الفلسطينيّين والبدو. وأصبحت العلاقة الوجاهيّة العائليّة راسخةً بين أهالي منطقتي خان يونس ورفح الفلسطينيّتين ومنطقة الشيخ زويد، وبين قبائل وسط سيناء ونظرائهم في النقب الشماليّ[2]، وسيكون لإعادة ترسيم الحدود بين مصر وإسرائيل لاحقًا في عام 1979 الأثر السالب في تقطيع هذه العلاقة بين الجهتين، ووقوع أهالي سيناء تحت الحكم الأمنيّ الدائم، والتأثر بكل التطورات السياسيّة التي تجري في غزة بفعل سياسات الاحتلال الإسرائيليّ، ومنها أخيرًا تطوّر شبكة الأنفاق بين رفح الفلسطينيّة والمصريّة، والتي أصبحت منفذًا رئيسًا للتهريب بين الجانبين على نحو مطّرد مع نشوب الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية في عام 2000، وتطوّرت لاحقًا مع تحوّل بعض الحركات السلفيّة إلى جماعات جهاديّة في سيناء وارتباطها بالمقاومتين الفلسطينيّة واللبنانيّة[3].

المشهد الآخر الذي عزّز المزاج العام السلبيّ من النظام المصريّ لدى أهالي سيناء هو موقفه من العدوان الإسرائيليّ الدمويّ على قطاع غزة في شتاء 2008-2009. ليس من باب التعاطف أو الشعور بالانتماء للقضية الفلسطينيّة القوميّة فحسب، بل لأنّ العدوان الإسرائيليّ الذي قوبل بتواطؤ من نظام مبارك، كان يمسّ مباشرةً عائلاتٍ سيناويّة لها أقارب في الشطر الفلسطينيّ من مدينة رفح، ومنهم من استشهد أقارب له في هذا العدوان أو في الاعتداءات السابقة. وقد بلغ عدد قتلى أبناء سيناء على يد عناصر الأمن المصريّ من عام 2001 وإلى بداية 2011 نحو 240 شخصًا معظمهم كان لهم ارتباطات عقائديّة أو مصلحيّة مع الفلسطينيّين في غزّة، ولم يكونوا مهرّبين كما ادّعى النظام، ولم يخضع أيّ من الضبّاط الذين أطلقوا الرصاص -أو أمروا بإطلاق الرصاص- للمحاسبة.

أدّت هذه الظروف وغيرها إلى التحاق شباب سيناء -في ظلّ تقييد الحرّيات وانعدام فرص العمل- بالحركات الإسلاميّة المتشدّدة، من باب معارضة النظام السياسيّ السابق الذي هو بالنسبة إليهم نظام غير وطنيّ، ولا يتبنّى القضايا العربيّة والفلسطينيّة، ولا يهمّه أمر سيناء وسكّانها. وفي الحقيقة، كانت سيناء أوّل من هتفت بسقوط مبارك عمليًّا، ولأسباب تتعلّق بالقضايا العربيّة والقوميّة. وكانت أوّل مرّة ردّد فيها هتاف "إسقاط النظام" على إثر العدوان الإسرائيليّ على لبنان في عام 2006، والعدوان الإسرائيليّ على غزّة عام 2008-2009.

وقد انعكست هذه الحالة على الطريقة التي التحقت بها سيناء بثورة 25 يناير والحوادث التي تزامنت مع الاحتجاجات السلميّة، إذ هاجم سلفيّون جهاديّون قادمون من رفح المصريّة مراكز عناصر الأمن في يوم 11 شباط / فبراير 2011، وقتلوا عددًا من عناصر الشرطة، ثمَّ خطفوا ثلاثةً من الضّباط من ذوي الرتب العالية إلى منطقة الشيخ زويد وقتلوهم هناك. واستمرّ الانفلات في سيناء طوال الفترة الانتقاليّة، إذ أُعلن حتّى تاريخ 22 تموز / يوليو 2012 تفجير خطّ أنابيب الغاز خمس عشرة مرّةً.

لم تكن إذًا سلسلة الهجومات التي استهدفت مصالح للدولة المصريّة أو مراكز أمنيّة في شبه جزيرة سيناء، وليدة ثورة 25 يناير، إنّما المنطقة تعاني منذ عقودٍ من توتّرات أمنيّة كان سببها الأساس انسحاب الدولة وما نجم عنه من انتعاش الجماعات تحت وفوق الوطنية، وظهور سوقٍ غير خاضعة لمراقبة الجهات الرسميّة، اعتمدت أساسًا على التهريب مستغلّةً الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزّة.

وفي ظلِّ هذه الظروف، ينبغي التذكير بأنّ المجموعات المسلّحة المجهولة الانتماء لم تكن هي الوحيدة التي تستهدف القوّات المصريّة في سيناء، فقد سبق أن قتلت إسرائيل جنودًا مصريّين في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، واغتالت بعد الثورة جنديّين تابعين لقوّات الأمن المركزيّ جنوب رفح في آب / أغسطس عام 2011، أثناء ردّها على هجومٍ فلسطينيّ على مدينة إيلات، لتندلع بعد ذلك أزمة اقتحم فيها آلاف المتظاهرين مقرّ السفارة الإسرائيليّة في القاهرة.

ولم تخلُ المنطقة بعد ثورة 25 يناير من هجماتٍ متكرّرة على المراكز الأمنيّة، ومن حوادث خطف السيّاح، فضلًا عمّا شهدته منطقة العريش في حزيران / يونيو 2011 تزامنًا مع "مليونيّة" الإسلاميّين في ميدان التحرير، المعروفة إعلاميًّا بـ"جمعة قندهار"، حين هاجم مسلّحون يرفعون الرايات السود مركزًا للشرطة مشيعين أجواء من الرعب في المنطقة، بعد توزيعهم بيانات تدعو إلى إقامة "إمارة سيناء الإسلاميّة". وبحسب المعطيات المتوفرة، فقد تصاعدت وتيرة الهجمات المسلّحة على قوّات حرس الحدود المصريّة في شمال سيناء حتّى تجاوز عددها 28 هجومًا، خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أشهرًا معدودة، من بينها أكثر من هجوم منظّم على أقسام الشرطة.

لقد ضعُفت هيبة الدولة أكثر، وزاد الفراغ الأمنيّ في شبه جزيرة سيناء بعد سقوط نظام مبارك، فشهدت المنطقة تصاعد نشاط التنظيمات الإسلاميّة المرتبطة بتنظيم القاعدة، مثل تنظيم "أنصار الجهاد". ونذكر أنّ شهر تموز / يوليو 2012 شهد أعلى عدد من تلك العمليات، إذ سُجّل وقوع أكثر من عملية استهدفت جنودًا مصريّين، بداية بمقتل مجنّدين وإصابة ضابطٍ وأربعة من أفراد الشرطة في هجوم مسلّح على نقطة أمنيّة في منطقة وادي فيران في محافظة جنوب سيناء، ووصولًا إلى قتل جنديّين مصريّين في مدينة الشيخ زايد خلال قيامهما بدوريّة في المدينة، كما اختطف أفرادٌ من بدو شمال سيناء سائحين أميركيّين ومرشدهما المصريّ، وطالبوا بإطلاق قريب لهم تحتجزه السلطات، مقابل الإفراج عن المخطوفين.

لكن أيًّا من العمليات السابقة لم تثر زوبعةً سياسيّة كالتي حصلت بعد العمليّة الأخيرة، كما لم يحظ الجنود الذين قُتلوا في هجمات سابقة بجنازات عسكريّة رسميّة، وهو ما يشير إلى سياسات استثمار تقوم بها القوى السياسيّة المختلفة في مرحلةٍ حرجةٍ أفرزت الديمقراطية فيها رئيسًا منتخبًا منقوص الصلاحيات. وبدأ الاستثمار من ردود الفعل مرورًا بالجنازة العسكريّة، وانتهاءً بالقرارات التي أصدرها الرئيس المنتخب محمد مرسي والتي مسّت مسؤولين أمنييّن كبارًا. لقد أصبحت هذه العمليات موضوعًا للصراع بين قوى سياسيّة تخاطب رأيًا عامًّا وتحشده في ظلّ النظام الجديد.


الاستثمار السياسيّ للجريمة

الجديد في جريمة قتل الجنود المصريّين في 5 آب / أغسطس 2012، أنّها أتت في خضمّ مرحلةِ الانتقال الديمقراطي الذي تشهده مصر بعد الثورة، فقد أسفرت الانتخابات الرئاسيّة عن فوز ممثّل الإخوان المسلمين محمد مرسي أمام منافسه الفريق أحمد شفيق المدعوم من الجيش والمحسوب على النظام السابق.

لذلك، فقد كانت أغلب ردود الفعل التي صدرت عقب الجريمة نابعةً من مواقف سياسيّة حاول عبرها الفريق الخاسر استرداد بعض مواقعه عبر التجييش الإعلاميّ ضدّ الرئيس المنتخب، لا سيّما أنّ المشهد السياسيّ كشف عن معركةِ صلاحياتٍ يستخدم فيها كلّ طرف ما أُتيحَ له لانتزاع مزيدٍ من السلطة وتحجيم الطرف الآخر شعبيًّا.

فقد قامت وسائل الإعلام المدعومة من فلول النظام السابق وبعض القوى السياسيّة المعارضة بتحميل مؤسّسة الرئاسة المسؤوليّة عن الحادث لأسباب تبدو غير مفهومة من دون استيعاب مصلحة هذه القوى السياسيّة في استغلال الجريمة. ووصل الأمر من الخطورة أن تزعم أنَّ سبب الجريمة هو التسهيلات التي قدّمها الرئيس المصريّ بشأن مواعيد فتح معبر رفح وإغلاقه، ثمَّ ربطتها بالعلاقة التاريخيّة للإخوان المسلمين في مصر بحركة المقاومة الإسلاميّة حماس في غزة، والهدف بالطبع هو اتّهام الرئيس بالفئويّة وأنّه ليس رئيسًا لكلّ المصريّين. وهذا محض تحريضٍ يفتقر إلى أيّ صدقيّة. فلا توجد أيّ علاقة لحركة حماس بالحادث ولا بالحوادث السابقة التي استغلّها النظام السابق أيضًا، ولم يحاربها، ولا أعدَّ لمواجهتها، فضلا عن أنّه لم ينظِّم لضحاياها جنازات عسكريّة.

وقد تعدّى الأمر ذلك إلى أن يتّهم الفريق نفسه الرئيس المنتخب بالخيانة العظمى رادًّا الجريمة إلى قراره في تموز / يوليو الماضي بالإفراج عن مئات المعتقلين في السجون ممّن صدرت ضدّهم أحكامٌ عسكريّة أو لم تصدر بحقّهم أحكام، وأغلبهم من الثوّار الذين اعتُقلوا على خلفية مشاركتهم في احتجاجات الثورة المصريّة.

أمّا الفريق الآخر الداعم للرئيس المنتخب، فقد حمّل مسؤولية الجريمة لإسرائيل، ودعا مرّةً أخرى إلى إعادة النظر في معاهدة كامب ديفيد وضرورة تعديلها، خاصّةً أنّها السبب الأساس الذي يقيّد حركة القوّات المسلّحة المصريّة في مساعيها للتصدّي للتحدّيات الأمنيّة في سيناء، فهذه الاتفاقيّة لا تسمح للجيش المصري بالوجود في أجزاء واسعة من سيناء إلا بأعدادٍ محدودة وعتادٍ خفيف.

وقد تبيّنت حدّة الاستثمار السياسيّ للعملية بعد أن أقام الجيش جنازةً عسكريّة للضّحايا في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، استغلّها جمهور مسيّس لرفع شعارات تهاجم جماعة الإخوان المسلمين، وجرى خلالها الاعتداء الجسدي على رئيس الوزراء الجديد هشام قنديل وعلى شخصياتٍ مؤيّدة للرئيس المنتخب الذي غاب لسببٍ تبيّن فيما بعد أنّه فشلٌ من الحرس الجمهوريّ في تأمينه.

لقد توضّح إذًا بعد مشهد الجنازة العسكريّة التي قامت وسائل الإعلام المعارضة بنفخها إعلاميًّا، أنَّ هناك مناورةً سياسيّة تُجريها القوى السياسيّة المحسوبة على النظام السابق ووسائل إعلامها لإضعاف الرئيس شعبيًّا أو إظهاره في موقف الضعيف، ممّا حدا بهذا الأخير إلى إصدار حزمةٍ من القرارات التي مسّت مسؤولين أمنيّين وعسكريّين وسياسيّين، وهي الخطوة التي عدّها المراقبون أوّل ممارسة للرئيس لصلاحياته. وفي الحقيقة، استغلّ الرئيس التسييس الإعلاميّ للغضب على الجريمة لقلب الطاولة على القوى التي حاولت استغلالها. فإذا كان هنالك من مسؤول مباشر يمكن اتّهامه بالإهمال على الأقل فلابدّ أن يكون الأمن.

فقد قرّر مرسي إحالة رئيس المخابرات العامّة إلى التقاعد وتعيين قائمٍ بأعماله بدلًا منه، وتعيين رئيسٍ آخر للشرطة العسكريّة، وقائد جديد للحرس الجمهوريّ، وإقالة كلّ من محافظ شمال سيناء ومدير أمنها، وتعيين السفير محمد فتحي رفاعة الطهطاوي رئيسًا لديوان رئيس الجمهورية، وهو المدنيّ الأوّل الذي يتبوّأ هذا المنصب.

ومع أنَّ القرار يبدو في ظاهره ثوريًّا، إلا أنّ جميع المعيّنين العسكريّين الجدد هم أيضًا قريبون من القائد الأعلى للقوّات المسلّحة المشير حسين طنطاوي، ممّا يرجّح أن لا نيّة للرئيس المنتخب في التصادم مع مؤسّسة العسكر. ومع ذلك، فقد قام المشير طنطاوي بتعيين اللواء حمدين بدين -وهو رئيس الشرطة العسكرية المُقال- مساعدًا له و "مستشارًا لشؤون سيناء"، وهو الأمر الذي قد يُفهم على أنّه انتقاصٌ من هيبة قرار رئيس الجمهورية.

وتزامنًا مع رزمة القرارات التي لاقت قبولًا متفاوتًا من مختلف القوى السياسيّة المصريّة وبخاصّة الثوريّة منها، توحي الصورة الحالية بأنَّ مؤسّسة العسكر تعوّل على العملية الأمنيّة التي يشنّها الجيش منذ يوم الأربعاء 8 آب / أغسطس لـ"تطهير" المنطقة من المجموعات السلفية المتمرّدة وللسيطرة على حالة الانفلات الأمنيّ في شبه جزيرة سيناء. ومع أنَّ الرئيس المنتخب كان أعلن حازمًا منذ شيوع نبأ الجريمة بأنّه سيسيطر على سيناء، إلا أنَّ تقارير المؤسسة العسكريّة عن الإنجازات التي تحقّقها تقدّمها مباشرة ومنفردة إلى وسائل الإعلام باسم الشرطة والجيش، وهو ما يدلّ على رغبة العسكر في استعراض القوّة واحتكار الحملة الأمنيّة غير المسبوقة في سيناء لصالحهم شعبيًّا ممّا قد يعزّز فرصهم في الصراع مع مؤسّسة الرئاسة، مع أنّه من غير الواضح إذا كان الجيش سوف يحسم مسألة الإرهاب في سيناء.

على أيّ حال، ليست هذه الحادثة هي الأولى التي يناور من خلالها مختلف اللاعبين السياسيّين، فقد سبق وناور كلا الطرفين باستغلال قضايا عديدة كان آخرها قرار إعادة مجلس الشعب المصريّ المنتخب ثمَّ إلغاء القرار بقوّة المحكمة الدستوريّة، علاوة على التهديد المستمرّ بحلّ الجمعية التأسيسيّة، ممّا يعني أنّنا قد نشهد انتقال الصراع إلى داخل أجهزة الدولة التنفيذيّة. وبغضّ النظر عن تحرّكات الطرفين المقبلة، فإنّه أصبح من الواضح أنَّ ثمّة شريحة مهمّة مستفيدة من التناقض بين مؤسّسات الدولة (الجيش والرئاسة) وقد تعيق بذلك مسيرة التحوّل الديمقراطيّ في مصر.


السيناريوهات المتوقّعة بعد الجريمة

تفتح تداعيات الحراك السياسيّ بعد جريمة سيناء المجال لبعض التوقّعات:

أوّلًا: من المتوقّع أن تلجأ السلطات المصريّة إلى التواصل مع الجانب الإسرائيليّ بشأن ضرورة مراجعة الالتزامات الأمنيّة المنصوص عليها في اتفاقية كامب ديفيد، لا سيّما إعادة انتشار القوّات المصريّة في المناطق المحدودة التسليح، ومن المرجّح ألّا تقبل الحكومة الإسرائيليّة بهذه المطالب، في ظلّ رؤيتها لأمنها القوميّ الذي يشترط أن تكون سيناء خالية من أيّ قوّةٍ عسكريّةٍ ذات وزن، إلّا أنّ إسرائيل قد تستغلّ الطلب المصريّ لوضع شروط متعلّقة بتعزيز التعاون الأمنيّ والعسكريّ مع القوّات المسلّحة المصريّة لضبط الحدود، وتحييد التهديدات الأمنيّة.

ثانيًا: قد تعقّد الهجمة التي شنّتها وسائل الإعلام والقوى السياسيّة المحسوبة على النظام السابق على الفلسطينيّين من مساعي فكّ الحصار عن قطاع غزة التي شرع في خطواتها الأولى الرئيس المنتخب، لكن ما يُطمئن بخصوص هذه المسألة هو أنَّ الرأي العام المصريّ لا يرضى أن تعود مصر إلى سابق عهدها في محاصرة الفلسطينيّين.

ثالثًا: إذا نجح الجيش في الحسم الأمنيّ في سيناء، فمن المستبعد أن يفوّت المجلس العسكريّ فرصة الاستثمار السياسيّ من أجل إعادة الثقة إلى العسكر الذين عانوا من هجومٍ متواصل طوال الفترة الانتقاليّة، وهو ما يعني إكسابهم مزيدًا من أوراق التفاوض على مكتسباتهم.

رابعًا: من المتوقّع أن يستمرَّ التجاذب والصراع بين مؤسّسة العسكر ومؤسّسة الرئاسة حتّى يستطيع الطرفان الاتّفاق على حلٍّ وسطٍ تمرّ به المرحلة الانتقاليّة بسلام ويتمّ إقرار دستورٍ جديدٍ تجرى بموجبه انتخابات برلمانيّة جديدة. وفي حالِ لم يتحقّق ذلك، فسوف يستمرّ العسكر والقوى السياسيّة المعارضة في الاستثمار السياسيّ لحوادث أخرى قادمة ممّا يعزّز الاستقطاب الجاري في مصر، ويهدّد مسيرة التحوّل الديمقراطي.

خامسًا: إنَّ استمرار القوى السياسيّة المعارضة في إعاقة الجهود التي يقوم بها الرئيس المنتخب، أي المعارضة لأجل المعارضة، سوف يؤدّي إلى تشديد نزعة "المظلوميّة" لدى الإسلاميّين، وبذلك يزداد الفرز الأيديولوجي، وقد ينسف ذلك أيّ أفقٍ للحوار ممّا يقود البلاد إلى كارثة.


 

[1] من البديهي أيضًا القول إنَّ سيناء ليست استثناء، فالمناطق التي يضعف فيها حضور الدولة تزدهر فيها الجماعات تحت وطنية أو فوق وطنية، خذ على سبيل المثال جنوب ليبيا وجنوب تونس.

[2] فيصل صالح الخيري، "قبيلة التياها بفلسطين تنسف الحق التاريخي لليهود"، الأهرام العربي، 23/10/2010.

http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=379461&eid=1385

    [3] أسامة خالد وصلاح البلك، "خريطة جماعات التكفير في سيناء: الأمن يقدّرهم بـ1200.. والأسلحة الحديثة من ليبيا وفلسطين"، صحيفة المصري اليوم، 8/2/2012،

http://www.almasryalyoum.com/node/646021