العنوان هنا
تحليل سياسات 08 أبريل ، 2020

أزمة كورونا العالمية: حدث وبائي يقلّد هجومًا بيولوجيًا

نبيل زكاوي

أستاذ العلوم السياسية، في جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.

مقدمة

تجادل هذه الورقة بأن جائحة كورونا الوبائية وتداعياتها الممتدة على نطاق عالمي تجعلها تظهر كأنها هجوم بيولوجي في ذاتها (بوصفه مستقلًا) وليس لذاتها (بوصفه تابعًا)، وذلك على الرغم من كونها تطابق مواصفات التفشي الطبيعي للمرض، وهو ما ستجهد الورقة في إثباته بالاستناد إلى نموذج تحليلي شائع في أدبيات حوكمة الصحة العالمية؛ هو نموذج تحليل "حدث وبائي غير عادي" Unusual Epidemologic Event. كما تفترض الورقة، تبعًا لذلك، أن ما جعل دينامية انتشار الجائحة تخرج عن السيطرة هو تردد الفعل المنتظر توجيهه لمكافحة المرض، بحيث جرى ترجيح الاستجابات المحلية للوباء على جهود مكافحته على المستوى العالمي.

أولًا: تهديد بيولوجي جديد في سياق أمننة الصحة العامة العالمية

عمومًا، إن أحداث تفشّي الأوبئة هي مجموعة فرعية من أحداث الطوارئ الصحية، إنها جزء من مجموعة من الأحداث المَرضية غير المتوقعة التي صارت تتحدى أنظمة الصحة العامة على مستوى العالم وعلى نحو مستمر، وهو ما أدى إلى تحويل الصحة العامة من التركيز الإنساني على الصعيدين الوطني والدولي إلى تركيز أمني، مع ما ينتج من ذلك من تغييرات في الأولويات، أي إن أسس رصد الأمراض انتقلت من العمل الإنساني نحو حماية التجارة الدولية والأمن القومي.

العلاقة بين الجائحات والتجارة الدولية قديمة تعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك حينما عُقد أول مؤتمر دولي للصحة في باريس عام 1851 في محاولة للحد من التأثير السلبي لممارسات الحجر الصحي المختلفة في التجارة الدولية، وكان السبب في وضع اللبنة الأولى للتنظيم الصحي الدولي، وذلك مع إحداث المكتب الدولي للصحة العامة عام 1907، الذي تلاه إنشاء منظمة للصحة تابعة لعصبة الأمم.

إن أمننة الأوبئة على المستوى العالمي هي ظاهرة حديثة نسبيًا، ارتبطت بالحاجة إلى منظمة صحية عالمية جديدة؛ إذ منذ المداولات الأولية في عام 1946 بشأن تأسيس منظمة الصحة العالمية، كان هناك ارتباط قوي بين الصحة العامة والأمن الدولي، "وقد ظهرت عبارة ’الأمن الصحي‘ في تقرير عام 1994 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي دعا إلى أنه في أعقاب نهاية الحرب الباردة، كانت هناك حاجة إلى إطار مرجعي جديد يبتعد عن وجهات النظر الأمنية التي تركز على الدولة إلى نهج أكثر تركيزًا على الإنسان"[1].

رفضت منظمة الصحة العالمية في البداية وجود علاقة رسمية بين الصحة والأمن، إذ كان هناك تخوّف من إساءة استخدام العمل الصحي المحايد لأغراض سياسية. لقد روّجت منظمة الصحة العالمية "لمفهوم ضيق للأمن الصحي محوره الدولة تأثر أيضًا بأحداث 11 سبتمبر 2001، والتهديدات المحتملة للأسلحة البيولوجية والإرهاب"[2]، وكان ذلك مع الاجتماع الأول للمبادرة العالمية للأمن الصحي GHSI، المشكَّلة بعد رسائل الجمرة الخبيثة لعام 2001، وهي المبادرة السياسية الجديدة التي تم إطلاقها في اجتماع لوزراء من كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والمكسيك إلى جانب ممثلي المفوضية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية، وذلك لمواجهة تهديد الإرهاب البيولوجي، ولكنها تطورت وتوسعت بسرعة لتشمل التهديدات الوبائية كذلك. وقد أرسلت هذه المبادرة إشارات سياسية قوية عن بداية التقارب بين مجالي الصحة والأمن على نحو أوثق من أجل مواجهة الأخطار البيولوجية مواجهةً أفضل في المستقبل. وقد كانت مشاركة منظمة الصحة العالمية في المبادرة مهمة، لأنها أشارت إلى مزيد من التوسع الجغرافي لشواغل الأمن الصحي، خاصةً في ما وراء حدود البلدان المرتفعة الدخل.

في ما بعد، ستكتسب فكرة الأمن الصحي قوةً أكبر بكثير في النظام الدولي، حيث صارت تتخلل على نطاق واسع السياسة الرسمية والخطاب السياسي الدولي. كما أن العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم أصبحت تدرك أهمية تهديدات الأمن الصحي وتقوم بدمجها في استراتيجياتها الأمنية التي فرض تطوّرها الاستجابة للتصورات المتغيرة للتهديدات.

ومع أزمة اندلاع متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد، أو ما عرف بوباء "سارس" SARS، عام 2003، تبيّن أن الأمراض لم تعد مجرد قضايا تقليدية للطب السريري أو الصحة العامة، ولكن أيضًا باعتبارها تهديدات أكثر انتشارًا للأمن القومي، وحتى الدولي. ولا يعني هذا أن جميع المشكلات الصحية تعتبر تهديدات أمنية، ولكن أخذت تظهر بعض الأمراض على نحو بارز في جداول أعمال الأمن الدولي، وهناك بالتأكيد مجموعة فرعية من الأمراض تجذب قلقًا أمنيًا أكثر شمولًا ومستدامًا؛ ذلك لأن هذه الأمراض يمكن أن تسبّب بسرعة مستويات كبيرة من الإصابات والوفيات، وتسبّب أيضًا صدمات اقتصادية شديدة، كما يمكن أن تثير الخوف على نطاق واسع واضطرابات اجتماعية لدى السكان.

إذًا، فهذا الفهم للصحة بوصفها مقابلًا للأمن، هو ما سيقود إلى إعادة صياغة عقد التفويض الرسمي للصحة من أجل الأمن في لوائح منظمة الصحة العالمية عام 2005، بحيث لم يعد يُنظر إلى الصحة على أنها وسيلة لضمان الأمن الدولي، ولكن بدلًا من ذلك، أصبح يُعترف بها أنها قضية أمنية مشروعة في حد ذاتها. وهكذا، وانطلاقًا من عام 2007، صار الأمن ضمن مفردات منظمة الصحة العالمية، وأصبحت المنظمة تستخدم رسميًا مصطلح الأمن الصحي العالمي مرادفًا للإنذار بحدوث الأوبئة والاستجابة له. وأصبح يعني ذلك، إلى جانب معالجة الصحة بوصفها قضية دولية، التعامل معها بوصفها مسألة أمنية، بما يفرض استجابات جماعية وتضامنية للتهديدات الأمنية، سواء كانت ذات طابع بيولوجي (تفشٍّ متعمد للأوبئة) أو ناجمة عن انتشار الجائحات العالمية (تفشٍّ طبيعي للأوبئة).

وهكذا يتغير الأمن في القرن الحادي والعشرين، لأن الطريقة التي نتخيل بها الحياة تتغير أيضًا، ما يفرض إدماج الأبعاد غير التقليدية لمفهوم الأمن والتوسع في تعريف التهديدات لتشمل أحد المظاهر غير الصلبة وهو خطر تفشّي الأوبئة. فالتحول المهم في فهمنا الأساسي للحياة يُنتج بالفعل مخاوف قوية بشأن عدد من التهديدات الكامنة على المستوى الجزيئي، حيث تفشّي الأمراض التي لا يمكن التنبؤ بها والتي تحدث على نحو طبيعي تمثّل محور الأخطار البيولوجية التي تواجه العالم اليوم.

إن رهان منع استيراد العدوى مع سيولة تنقلات الأفراد والبضائع في ظل حركة العولمة الفائقة من خلال تطوير نظام عالمي شامل للإنذار المبكر ومكافحة الأمراض الوبائية، يصطدم بتحدّي سؤالٍ عن كيفية أن تكون كل دولة في الجانب الآمن في مواجهة مستوى غير معروف من التهديد يتعلق بعامل بيئي جزيئي كما هو الشأن بالنسبة إلى فيروس كورونا الذي لم يعُد مضادًا للأمن الصحي العالمي فحسب، ولكن مؤثرًا في مفاعيل العلاقات الدولية برمّتها، وذلك بالنظر إلى تداعيات انتشاره التي سيتم التعرض لها في المحورين التاليين.

لقد أدى فيروس كورونا إلى معاناة إنسانية كبيرة. كما تسبّب في إيقاف حركة الملاحة الجوية والبحرية والنقل البري في معظم أنحاء العالم، وإغلاق الحدود بين الدول، وفرض الحجر الصحي على السكان، وإلغاء الاجتماعات والأنشطة الثقافية والرياضية الدولية والمحلية، وإغلاق المحلات والمرافق، وشلّ الدراسة والعمل؛ فانهارت بذلك البورصات، وانتشر الهلع بين الناس، وعمّت أحيانًا الفوضى الاجتماعية.

ثانيًا: تفشٍّ طبيعي يحاكي هجومًا بيولوجيًا

ترددت في بعض الأوساط الإعلامية والسياسية تفسيرات تآمرية لانتشار مرض كورونا، على الرغم من أن الفيروس أثبت قدرته على إصابة الجميع، سياسيين وغير سياسيين، وعبر العالم، حيث لا يمتلك أحد، إلى الآن، القدرة على التحصين منه بلقاح أو الدفاع المسبق ضد العدوى. ومع ذلك، لم يسلم كورونا من تسييس حينما أخذ "يتم تصوير التهديد القادم من الفيروس بأنه أجنبي"[3]، وهو ما ظهر على الخصوص مع تبادل الاتهامات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية حول أصل الفيروس القاتل.

وقد تحوّل سؤال منشأ الفيروس الجديد إلى أداة للوصم وحملة للتشويه المتبادل بين الولايات المتحدة والصين، حيث زعم المتحدث باسم الخارجية الصينية، تشاو لي جيان، أن "الجيش الأميركي جلب فيروس كورونا إلى مدينة ووهان" التي ظهر بها أول مرة. وفي مقابل ذلك، استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبارة "الفيروس الصيني"، وبدوره سعى وزير خارجيته، مارك بومبيو، لتحميل الصين مسؤولية تفشّي الوباء، وأطلق عليه مرارًا تسمية "فيروس ووهان"[4]. وتعكس هذه التسمية غير الحيادية ما ذهب إليه تقرير لصحيفة ذاديلي ميل البريطانية The Daily Mail احتملت فيه أن يكون اندلاع الفيروس ناتجًا من تسرب بيولوجي من مختبر ووهان الوطني للسلامة الأحيائية الذي يهتم بدراسة مسببات الأمراض الأكثر خطورة[5].

غير أن انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والصين في مجال التسلح البيولوجي، أو حتى بالنسبة إلى الحوادث البيولوجية، ليس بالجديد؛ فقد استمر في الحضور حتى بعد انضمام البلدين معًا إلى معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية، حيث سبق للأميركيين أن اتهموا الصين في تسعينيات القرن الماضي بزراعة داء البروسيلات[6]. وفي المقابل، احتمل خبراء عسكريون صينيون أن تكون جراثيم الجمرة الخبيثة في هجمات عام 2001 على مكاتب أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين قد تسربت من معامل الجيش الأميركي، بل أكثر من ذلك، ذهب البعض الآخر منهم إلى أن الولايات المتحدة هي من قامت بتسليح مرض "سارس" وإنفلونزا الطيور في عامي 2002 و2003. وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات المتبادلة بين الطرفين لم يتم إثباتها من قبلُ بأدلة موثوقة، فإن المنشورات العلمية الرسمية لنتائج الأبحاث الجارية في مختبرات الكيمياء البيولوجية لديهما تشير بالفعل إلى نشاط بحثي مستمر ومنظم يتعلق في بعض أبعاده بسباق تسلّح بيولوجي من خلال السعي لتطوير التقنيات البيولوجية وتخليق الفيروسات أو تعديلها وراثيًا.

وفي ظل استمرار عدم الثقة المتبادل بوصفه رمزًا إلى معضلة أمنية كلاسيكية بين الطرفين، فإن الادعاء بأن الفيروس التاجي الجديد هو سلاح بيولوجي يظل غير مدعوم علميًا، لكن نقيضه مدعوم تمامًا من الناحية العلمية كما سيرد تاليًا؛ فقد أشار العلماء إلى أن الطفرات في الفيروس "تتوافق تمامًا مع التطور الطبيعي". ووفقًا لـمجلة ذا لانسيتThe Lancet، استنتج علماء من دول متعددة على نحو ساحق "أن الفيروس التاجي الجديد نشأ في الحياة البرية"[7].

وحتى تتضح الرؤية أكثر، سنعتمد طريقة فلادان رادوسافليفيتش للتمييز بين التفشي الطبيعي والتفشي المتعمّد في حالة حدث وبائي غير عادي، وذلك استنادًا إلى "حدث وبائي غير عادي"، وبمقارنة العناصر المتقابلة التالية: "خزان أو مصدر العدوى مقابل الجاني، والعوامل المسببة للمرض مقابل الفاعل البيولوجي، وآليات وعوامل انتقال المرض مقابل وسائط ووسائل التوصيل، والسكان المعرضون مقابل الهدف"[8].

1. خزان أو مصدر العدوى مقابل الجاني

ما يقابل الجاني في هجوم بيولوجي هو خزان أو مصدر العدوى في وباء طبيعي. في الهجوم البيولوجي الذي يقوم على السِّرّية، فإن الفترة الفاصلة بين نشر سلاح حيوي وآثاره طويلة بما يكفي لمنح الجاني فرصةً للهروب، لذلك يمكن أن يكون من الصعب جدًا العثور على مرتكب الجريمة. يتدرج الهجوم البيولوجي من تكتيكي ضيق النطاق، إلى عملي متوسط المدى، إلى استراتيجي واسع النطاق. وإذا اعتبرنا أن النطاق الواسع لاجتياح فيروس كورونا على مدى أكثر من ثلاثة أشهر يجعله يبدو كأنه هجوم بيولوجي، فينبغي أن يقوم دليل على تورط مؤسسات الدول، مثل القوات العسكرية أو أجهزة المخابرات أو المنظمات الممولة جيدًا وربما المدعومة من الدول، ففي ارتكاب مثل هذا الهجوم البيولوجي، وهو الأمر المستبعد إلى الآن، لم تستطع الصين في اتهامها للجيش الأميركي أن تثبت علامات أو مؤشرات على أنشطة استخباراتية سرية تتزامن أو تتعلق بتفشي الفيروس داخل ترابها، ولذلك لم تذهب أجهزتها إلى إطلاق أي تحذير مسبق من هجوم بيولوجي محتمل.

أما في الأوبئة التي تنتشر طبيعيًا من دون أن يكون لها مسبّب بشري يمكن التعرف إليه وتحميله مسؤولية، فإن مصدر أو خزان العدوى يتصرف دائمًا وفقًا للخصائص الوبائية. فحيث لا توجد سرّية، يمكن اكتشاف مصادر العدوى عن طريق الاستقصاءات الروتينية الوبائية والميكروبيولوجية المعتادة. ولا توجد اتجاهات تُبقيها غير معروفة، حيث يرتبط "عدد مصادر العدوى وتوزيعها بفترة الحضانة وفترة انتقال المرض [...] وتنتشر العدوى عن غير قصد وعلى نحو فردي، وترتبط على نحو صارم من خلال فترات حضانة المرض وتواصله"[9]. فبالنسبة إلى فيروس كورونا، و"على الرغم من أن السلطات الصينية قللت في البداية من إمكانية انتقال العدوى من الإنسان إلى الإنسان، أصبح واضحًا الآن انتقال العدوى بين الناس على نحو كبير ومستمر. وقد حذّر علماء صينيون من أن بعض المصابين قد ينقلون الفيروس إلى آخرين حتى قبل أن يصابوا بالمرض أو يعانون أيَّ أعراض"[10]، وهو ما يؤكد أن الفيروس ينتشر عشوائيًا وليس على نحو مدبر كما في حالة الهجوم البيولوجي.

2. العامل المسبّب للمرض مقابل الفاعل البيولوجي

يرجع التفشي الطبيعي للمرض إلى عامل ممرض، في حين يعتمد التفشي المتعمّد على فاعل بيولوجي. لكن "قد يشير حدوث مرض حيواني مفاجئ، في غياب المضيف أو الخزان الحيواني الطبيعي ومصادر انتقال أخرى محتملة، إلى سبب غير طبيعي [...] وفي حالة ما يسمى ’الانتشار العكسي‘، حيث يسبق المرض البشري المرض الحيواني، أو يحدث المرض البشري والحيواني في وقت واحد، يجب على المرء أن ينظر في انتشار غير طبيعي"[11].

وبخلاف ذلك، يظهر أن فيروس كورونا المستجد حيواني المنشأ، إذ قبل سنوات "توصّل علماء في مجموعة EcoHealth Alliance البحثية من خلال تحليلهم لعينات جمعوها في الصين لحيوان الخفاش إلى أنها تحمل نحو 400 سلالة من الفيروسات التاجية، وأن أحدها كان السبب في انتشار مرض ’سارس‘"[12]، ومعلوم أن فيروس كورونا المستجد قريب جينيًا من فيروس "سارس" ولذلك فاسمه العلمي الدقيق هو SARS-CoV-2.

إذًا، فنشوء فيروس كورونا في البرية، وتحديدًا في حيوان الخفاش، يعكس "التهديد الثلاثي" الذي يتخطى الحدود بين الصحة البشرية والحيوانية والبيئية، بل يجعل العلاقات متبادلة بينها وفق ما يصطلح عليه نهج الصحة الواحدة، حيث العوامل المُعدية يمكن أن تنتقل من مضيفات الحيوانات إلى مضيفات البشر والعودة والتكيف مع البيئة الطبيعية المتغيرة باستمرار. ولذلك "فأكثر من 60 في المئة من أحداث الأمراض المُعدية الناشئة ينجم عن انتقال عامل مُعدٍ من الحيوانات (الأمراض الحيوانية المنشأ)، حيث ينشأ 75 في المئة من هذه الأمراض من الحياة البرية"[13].

3. آليات وعوامل النقل مقابل وسائط ووسائل التوصيل

إذا وجدنا نوعًا من "التذخير" أو نظام التوصيل أو نظام نشر المرض في بؤرة التفشي، فيجب أن يكون ذلك دليلًا على وباء متعمد، فقد يعتمد التفشي الممنهج للمرض على الطعام أو الماء وسيلةً للتوصيل، أو قد يعتمد على تسخير حيوانات تجلب إصابات جديدة إلى مناطق لم تتأثر من قبل. كما يمكن أن يعتمد على عوامل الطقس، خاصةً اتجاه الريح[14].

وفي المسارات الطبيعية للعدوى التي تستبعد أيّ نشر متعمّد للعوامل البيولوجية، فالعرض الإكلينيكي للمرض مختلف إلى حد بعيد، حيث فترات الحضانة ومعدلات الوفيات تعتمدان على طريقة انتقال الفيروس.

صحيح أن عاملي الحرارة والرطوبة محدِّدان مهمان لانتشار فيروس كورونا، ولكن ثبت أنه لا ينتقل عبر الهواء إلا عن طريق رذاذ العطاس أو السعال، حيث "يمكن للمرض أن ينتقل من شخص إلى شخص عن طريق القُطيرات الصغيرة التي تتناثر من الأنف أو الفم عندما يسعل الشخص المصاب بمرض كوفيد-19 أو يعطس. وتتساقط هذه القُطيرات على الأشياء والأسطح المحيطة بالشخص. ويمكن حينها أن يصاب الأشخاص الآخرون بمرض كوفيد-19 عند ملامستهم لهذه الأشياء أو الأسطح ثم لمس أعينهم أو أنوفهم أو أفواههم. كما يمكن أن يصاب الأشخاص بمرض كوفيد-19 إذا تنفسوا القُطيرات التي تخرج من الشخص المصاب بالمرض مع سعاله أو زفيره"[15].

وفي ظل ذلك، وحيث الكثير من الناس أكثر قدرة على الحركة والتفاعل مع المصابين، فإن لديهم إمكانات أكبر لنقل المرض إلى مناطق لم تكن متوطنة به من خلال النقل غير المعروف لعوامل أو لأشخاص مصابين أثناء الحضانة أو مراحل الأعراض السريرية. ولذلك، فسرعة انتشار الوباء تتحدد بالنظر إلى درجة العدوى وشدة انتقاله، أي تبعًا لضراوته وتركيز العامل الممرض وقدرة السكان على الممانعة.

4. السكان المعرضون مقابل الهدف

في التفشي الطبيعي لا يوجد هدف، ولكن هناك مجموعة سكانية حساسة (متأثرة أو مهددة). وفي كل من الأوبئة الطبيعية والمتعمّدة، يمكن أن يكون هناك نوعان من العواقب: مباشر (المرض و/ أو الموت)، وغير مباشر (سياسي واقتصادي). ومع ذلك، وفي تفشٍّ متعمّد، عادة ما تكون الآثار غير المباشرة مقصودة ولها تأثير كبير. وفي الأوبئة الطبيعية، تكون الآثار غير المباشرة في كل مرة "أضرارًا جانبية" أو عواقب متوقعة في بعض الأحيان من الكوارث. إضافةً إلى ذلك، فإن استخدام بعض العوامل البيولوجية، وحتى التهديد باستخدامها، يمكن أن يكون له آثار نفسية شديدة في السكان بوجه عام. وفي الأوبئة التي تحدث على نحو طبيعي، تتأثر الأهداف "الرخوة" على نحو أساسي، لأن الأهداف "الصلبة" (مثل رؤساء الدول أو الشخصيات المهمة الأخرى) محميةً أفضل من الأهداف "الرخوة" (مثل السكان غير المحميين)[16].

وعندما تكون آثار الديناميات الطبيعية لانتشار المرض صارخة، يظل من الصعب التمييز بين الهجوم البيولوجي والتفشّيات التي تحدث على نحو طبيعي. فالتسبب العمدي في تفشّي المرض على نحو كبير ليس سوى هدفٍ ثانويٍ لبلوغ الهدف النهائي المتمثل في إحداث أضرار سياسية واقتصادية، وذلك عبر نشر الخوف والقلق وعدم اليقين بين السكان، وزعزعة الثقة بالحكومة، وتعطيل السفر والتجارة.

وهكذا، فالحصيلة البشرية المرتفعة لمرض كورونا المستجد، التي بلغت إلى غاية تاريخ كتابة هذه السطور، أكثر من مليون مصاب حول العالم وأكثر من 51 ألف حالة وفاة، وهي حصيلة حرب كما وصفها بعض زعماء الدول، على الرغم من أنها ليست دليلًا على تفشٍّ متعمّد للمرض عند النظر إليها فرديًا، إلا أنه ينبغي النظر إليها بمعيّة التداعيات الاقتصادية للتفكك الاجتماعي، وما يليها من تبعات سياسية؛ ذلك أن إجراءات مثل التباعد الاجتماعي والانفصال والعزلة المفروضة على السكان بدافع الحجر الصحي، لا تتوافق بطبيعتها مع العوامل التي تحفز الإنتاج والنمو الاقتصادي والعمالة، إذ مع بداية الوباء "وفي خضم تباطؤ الاقتصاد الصيني مع انقطاع الإنتاج، تعطّل عمل سلاسل التوريد العالمية، وبدأت الشركات في جميع أنحاء العالم التي تعتمد على التوريدات من الصين تشهد تقلصات في الإنتاج. وأدى النقل المحدود، وحتى المقيد بين البلدان، إلى مزيدٍ من التباطؤ في الأنشطة الاقتصادية العالمية، والأهم من ذلك أن بعض حالات الذعر بين المستهلكين والشركات قد شوّهت أنماط الاستهلاك المعتادة وخلقت تشوّهات في السوق، وقد استجابت الأسواق المالية العالمية أيضًا للتغييرات وانخفضت مؤشرات الأسهم العالمية"[17]، وهكذا سيدخل الاقتصاد العالمي في الركود عام 2020. وسيكون الانكماش مفاجئًا وحادًا، بحيث خفّضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخرًا توقعاتها لنمو عام 2020 إلى النصف، من 2.9 في المئة إلى 1.5 في المئة[18].

أما التبعات السياسية للغزو الوبائي المعلوم فتتمثل في "ترديد الجدل السياسي الحالي في الولايات المتحدة وأوروبا حول فيروس كورونا لصدى الانعزالية وسياسة الأبواب المغلقة، ويستغل بعض الأميركيين، وأيضًا بعض الأوروبيين المتشككين في الوحدة الأوروبية، عاملَ الخوف من الوباء لفرض المزيد من الحواجز وأمن الحدود"[19].

لكل ذلك، فإن مصدر فيروس كورونا وعامله الممرض وآليات انتشاره تقدّم الدليل على أنه وباء طبيعي، غير أن استهدافه للسكان، بمن فيهم قادة وزعماء سياسيون، حينما يقترن بترتيب مظاهر الهدم الاجتماعي والتدمير الاقتصادي والضغوط السياسية التي خلّفها توسعه على نطاق عالمي، فإنه يقدّم كذلك سمة لتعقّد الوضع الوبائي الراهن، حيث إن تقييم تفشّي المرض يمثّل صعوبةً للتحقيق في تفشٍّ غير مسبوق أدخل العالم برمّته إلى غرفة الإنعاش، ما يمكن معه إدراج المرض في عداد الوباء المختلط، حيث التفشّي الطبيعي يحاكي هجومًا بيولوجيًا يقوده الفيروس نفسه على نحو اعتباطي غير واعٍ.

ثالثًا: فيروس خارج السيطرة أم حسابات السياسة والاقتصاد؟

إن تأمين الحياة الإنسانية وفق رؤية أحيائية دقيقة يفرض تدخلات جزيئية جديدة في إطار "المعالجة الدوائية" لسياسة الأمن التي لا تضمن فقط حماية السكان ضد الأخطار البيولوجية وإنما حتى الاقتصادات المدنية؛ "ذلك أن الوصول على نطاق واسع إلى مثل هذه الدفاعات الدوائية يمكن أن يساعد أيضًا في التقليل إلى أدنى حد من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي الهائل المرتبط بتفشّي الأمراض المعدية، حيث قد لا تضطر الحكومات حتى إلى فرض سياسات الصحة العامة الأكثر تقييدًا وغير المرغوبة في الماضي، مثل الحجر الصحي وحظر السفر وإغلاق المدارس، وهلم جرّا. فمن شأن التوافر السريع للتدخل الدوائي الآمن والفعال أن يعني أن التدفقات المختلفة من الأشخاص والسلع والخدمات اللازمة لدعم النشاط الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن تستمر إلى حد بعيد خلال الحالات الطارئة"[20].

ومع ذلك، حينما يكون الخطر البيولوجي من درجة فيروس شرس كما هو حال السلالة المستجدة لفيروس كورونا، فإن المشهد العلاجي يبدو ضبابًيا، والحالة هذه حيث الخيارات الطبية في الأمراض الفيروسية أقل بكثير مقارنةً بنظيرتها البكتيرية؛ ذلك أن "الفيروسات تميل إلى أن تكون فيزيائيًا أصغر بكثير من البكتيريا. كما أنها تتكاثر داخل الخلايا البشرية. وهذا يجعلها أكثر صعوبة في الاستهداف دوائيًا، خاصةً من دون تدمير الخلايا البشرية المضيفة في هذه العملية"[21].

من الواضح أن الترسانة من القوة العسكرية أو الردع النووي أو القدرات الاستخباراتية السرية لن تفي بالحماية المرجوة ضد غزو الفيروسات، ومن ثمّ لا يمكن حماية السكان على نحو أفضل من مثل هذا التفشي الفتاك، إلا من خلال الاستثمار في دفاع بيولوجي مدني، وتحديدًا الدفاع الدوائي.

بالتأكيد، ترغب حكومات الدول الصناعية في أن تكون لديها القدرة على تطوير تدابير طبية جديدة بسرعة استجابةً لمخاطر تفشّي الانتشار الوبائي كما هو حاصل مع جائحة كورونا. ولهذا، فقد بدأت العمل عن كثب مع الشركات الخاصة لتطوير الدفاعات الدوائية المضادة للمرض. غير أن "تطوير الأدوية الجديدة هو إلى حد بعيد من اختصاص الصناعات الدوائية، والشركات التي تشكّل هذه الصناعة مدفوعة في الغالب بالمنطق التجاري وقوى السوق وليس بسبب المخاوف الأمنية"[22]، حيث تميل الدول التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الوطنية أو الاقتصادية إلى النظر إلى العلوم على نحو أكبر من خلال عدسة تنافسية بدلًا من التعاون، ويمكن للأدوية واللقاحات أن تدرّ عائدات ضخمة[23].

ومع ذلك، فإن ثقة الجمهور بالعلوم والطب غير كافية لإنقاذ البشرية من قبضة الأوبئة المستجدّة؛ ذلك أن إعادة تشكيل نظام الأمن الصحي العالمي[24] التي فرضها في كل مرة ظهور وباء غير متوقع كانت، وستظل، عمليةً سياسيةً جدًا، وليس مجرد حلول تقنية. "فقد تطلّب هذا الواقع الجديد من الدبلوماسيين وصنّاع السياسات الانضمام إلى الممارسين الصحيين والعلماء لتطوير طرق جديدة للتصدي للتهديدات التي تواجه صحة الإنسان بسبب تفشّي الأمراض المعدية. وكانت النتيجة ظهور الصحة باعتبارها أحد الشواغل الرئيسة المعاصرة للسياسة الخارجية والأمنية وميلاد ’دبلوماسية الأمراض‘، حيث حاولت الدول التفاوض حول طرق لتعزيز جماعي للنظام العالمي لرصد الأمراض ومكافحتها"[25]، وهي الجهود التي تُرجمت في سعي الخبراء والحكومات ومنظمة الصحة العالمية مجتمعة لاحتواء وباء "سارس" سابقًا وتحقيق هذا الهدف بنجاح في غضون أربعة أشهر من العمل.

لقد كان وباء "سارس" بمنزلة تحذير من التهديد الذي يمثّله تفشّي المرض الطبيعي، وتبيّن أن الحاجة إلى معالجة مثل هذا التهديد من خلال شبكة عالمية أكثر فاعلية لمراقبة الأمراض، من الواضح أنه ليس شيئًا يمكن أن تحققه دولة بمفردها، لقد "كانت النتيجة شعورًا شائعًا بأنه لم يعد في الإمكان احتواء مسببات الأمراض داخل حدود الدولة (إن أمكن ذلك) وأن هناك حاجةً إلى مقاربة جديدة للاستجابة لتفشي الأمراض"[26]، وذلك خاصة في ظل حركة العولمة الموسومة بتواتر وسرعة السفر والتجارة الدولية وعمليات أخرى مثل زيادة الهجرة.

لكن لماذا تبدو دبلوماسية المرض مع جائحة كورونا في حيرة من أمرها، علمًا أن الفيروس يستمر في تهشيم الأجهزة التنفسية لعشرات آلاف الأشخاص، فضلًا عن الديناميات الاجتماعية للسكان والقدرات الإنتاجية للدول؟

لقد ظهرت منظمة الصحة العالمية بوصفها الهيئة الوصية المغلولة الأيدي في ظل صيرورة عدم الإبلاغ الفوري والشفاف عن تفشّي الأمراض، الذي أصبح ممارسة شائعة، خاصة من طرف الصين التي ظهر فيها المرض أولًا؛ فمخاوف البلد بشأن سمعته ومكانته أخّرت الإبلاغ عن تفشّي المرض، ومن ثمّ لم تمتلك المنظمة معلومات للتحقق منه رسميًا والتصرف بناءً على ذلك، ولذا، فإن فاعلية لوائح منظمة الصحة العالمية بوصفها وسيلة للتحكم في الانتشار الدولي للمرض قد أعاقها بوضوح مواجهة مثبطات كبيرة لامتثال الدول والاعتماد على الحكومات في الوفاء بالتزاماتها.

إن توفير بيانات وبائية دقيقة في الوقت المناسب هو الأداة الوحيدة الأكثر أهمية في منع تفشّي الأمراض واحتوائها، طبعًا البيانات الوبائية الخام في حد ذاتها غير كافية، إذ تحتاج المنظمة إلى تفسيرها وتطبيقها من أجل تطوير تدخّلات صحية فعالة. صحيح أن المعلومات التي تُبلَّغ بها المنظمة عن حالات تفشّي المرض تنشرها وتعمّمها على الدول الأخرى للسماح لها باتخاذ التدابير المناسبة، غير أن كونها مجرد متلقٍ لتقارير تفشّي المرض، يجعلها تفتقد لدور رسمي في احتوائه، حيث ليس هناك في لوائحها ما ينص على كيفية تعاونها مع البلد المتأثر في منع انتشار المرض؛ ذلك أن المنظمة مصممة لتعمل بوصفها سلطة توجيه فحسب، حيث تضييق نطاق تدخّلها لا يراد منه تحصين الدول ضد انتهاك سيادة هذه الأخيرة فحسب، وإنما كي لا تقود الحاجة إلى الحد من انتشار المرض على الصعيد الدولي إلى تعطيل السفر والتجارة الدولية. ولذلك فالمنظمة تكتفي بدور منسّق الاستخبارات الوبائية ومستشار السياسات الصحية من دون دور المُقيِّم والناقد للحكومات.

وفي الوقت الذي تظل فيه منظمة الصحة العالمية مسؤولةً من الناحية السياسية أمام الدول الأعضاء عن تحقيق مهمتها، فإنها تفتقر عمليًا إلى الوسائل المادية اللازمة للقيام بذلك. وفي الواقع، قُدرت ميزانيتها في عام 2001 بما يعادل نحو ساعتين ونصف الساعة من الإنفاق العسكري العالمي[27]. وسيكلفنا التأهب لمواجهة الأوبئة القدر نفسه الذي ننفقه اليوم لحفظ السلام[28]، ولا سيما أن تطوير علاجات خاصة بالجينات لمهاجمة وعلاج الأمراض عند ظهور التفشّي يحتاج إلى مساهمات مالية دولية، لذلك "فنظرًا إلى أن التهديد عالمي، وأن الموارد اللازمة لتمويل مثل هذه الأبحاث تفوق بكثير قدرة أي دولة بمفردها، فمن الضروري تطوير طريقة لتمويل جهود البحث الدولية والموافقة عليها وتنفيذها"[29]، يمكن أن ترعاها الهيئة الدولية ذات الصفة والصلاحية.

كذلك ظهر قصور نظام الأمن الصحي العالمي في تركيزه بعيدًا عن احتواء تفشّي المرض في المصدر، إلى الضوابط المفروضة على الحجر الصحي ومراقبة الحدود، وهو ما جعل الدول التي شكّلت بؤرًا لاندلاع الفيروس لا تستحضر مسؤوليتها تجاه جيرانها في الإجراءات القائمة لاحتواء انتشار المرض.

وإذا تكشّف مع أزمات صحية عالمية سابقة استعداد المجموعة الدولية لإدارة المخاطر التي تهدد الصحة العامة والاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي، فإن فيروس كورونا أظهر مدى انخفاض التعاون الدولي وأن القوى الكبرى على استعداد للتعاون فقط عندما تعاني دولٌ أخرى الأوبئة، أما عندما تختبر كل دولة منها قصة لمحنة خاصة، فإنها تنشغل بالتنافس على الموارد، ومن ثم العودة إلى الاقتصاد الطبيعي والتحرك نحو الاكتفاء الذاتي ومنع تصدير الإمدادات الحيوية نتيجةً لاتباع سياسة الاعتماد على الذات، بل بلغ الأمر أحيانًا حد اندلاع صراع على هذه المواد، حيث "فجّرت أزمة كورونا حربًا وتهافتًا غير مسبوقين بين دول غربية على استيراد الكمامات، وأجهزة التنفس الصناعي لمواجهة المرض، بل اتهمت دولٌ دولًا أخرى بالاستيلاء على شحنات معدات طبية كانت موجّهة إليها"[30].

عادة ما تنتج الأمراض المُعدية فرصًا للتعاون الدولي؛ إذ خلال حقبة الحرب الباردة، قام العلماء في الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة بتطوير وتحسين لقاح شلل الأطفال، كما أدت روح التعاون نفسها إلى تنشيط الاستجابة الأميركية - الصينية لتفشي فيروس "سارس"[31].

أما أوروبا التي ترزح في قبضة الوباء الفتاك وبدت أضعف بكثير من وحدتها الظاهرة، فقد أخذ منها فيروس التفكك ما أبقاه فيروس المرض؛ ذلك أن "إغلاق الحدود الفاصلة بين الدول الأوربية، وعدم تمكّن الاتحاد من إنقاذ الدول الأكثر تضررًا بسبب تفشّي كورونا، يثير انتقادات حادة حول جدوى وجود الاتحاد ذاته، والتضخم الحاد في البيروقراطية والمؤسسات التابعة له، والقيود المالية التي يفرضها على الدول الأعضاء"[32].

وقد ظهر أن القوتين اللتين كان من الممكن التعويل عليهما لمواجهة أزمة الوباء العالمي الحالي، لم تدركا حجم المخاطر المشتركة ولم ترتقيا فوق خلافاتهما. فقد "أدى افتقار بكين إلى الشفافية إلى تفاقم الأزمة الصحية العالمية والتعاون المحدود، في حين أن تركيز واشنطن على المنافسة قد زاد من عدم الثقة"[33]، ولذلك فالتوترات بين الصين والولايات المتحدة تعرقل التقدم في البحث عن الدفاعات الدوائية المطلوبة لمكافحة الفيروس القاتل، خاصة أن التعاون العلمي بين البلدين قد خمد قبل سنوات في ظل مخاوف الولايات المتحدة بشأن التجسس الصيني ونقل التكنولوجيا.

لقد اتضح أن القوة الأولى في العالم لم تكن رائدة في الاستجابة العالمية للفيروس التاجي الجديد، وتنازلت تحت ضغط قبضة الفيروس نفسه عن هذا الدور لغريمتها. ففي مقابل التركيز الداخلي لسياسة الولايات المتحدة، الذي تعلَّق إلى حد بعيد بالإدارة المحلية لأزمة تفشّي الفيروس بدلًا من منظور الجغرافيا السياسية، تريد الصين أن تبدو قادرة على إدارة تفشّي الوباء من تلقاء نفسها، وبوصفها زعيمًا عالميًا في الاستجابة للوباء، حيث تعمل على تقديم المساعدة المادية للبلدان الأخرى، خاصة أن الكثير مما يعتمد عليه العالم لمكافحة كورونا يُنتَج في الصين. وهكذا، وفي الوقت الذي شرعت فيه الصين تتخلص من سوء إدارتها لأزمة اندلاع وتفشّي الفيروس في البداية، وحيث أخذت تسيطر على الوضع الوبائي، فإنها تعمل على تحويل علامات هذا النجاح المبكر إلى رواية أكبر لبثّ الأمل إلى بقية العالم، وهي الرواية التي ستجعل الصين اللاعب الأساسي في الانتعاش العالمي القادم.

الآن، ومع استشراء هذا التهديد الصحي الشامل والمدمر، وحيث بدت حركة العولمة هشة، سيكون من الصعب إعادة تشغيل اقتصاد عالمي مترابط. ولن يبدأ هذا الاقتصاد في التعافي إلا عندما تتأكد لدى الناس حصانتهم ضد الفيروس بعد احتوائه على أيدي مسؤولي الصحة العامة. وفي الانتظار، مع ما تبقى من دبيبٍ في الحياة الاقتصادية في إطار ما يسمى اقتصاد الأزمة "ينبغي أن يكون الهدف الرئيس (وربما الوحيد) للسياسة الاقتصادية اليوم هو منع الانهيار الاجتماعي [...] حيث أهم دور يمكن أن تؤديه السياسة الاقتصادية الآن هو الحفاظ على الروابط الاجتماعية قويةً تحت هذا الضغط الاستثنائي"[34]، لأن الخسائر البشرية المتواصلة سوف لن تكون، على فداحتها، سوى التكلفة التي قد تؤدي إلى ما هو أكثر فداحة منها في صورة تفكّك مجتمعي؛ ذلك أن هاجس الإصابة بالمرض والخوف من الموت هما اللذان يفرضان توقف مجموعة من الناس عن العمل، على خلفية الحجر الصحي، وفقدانهم لدخولهم، ومن ثمّ عجزهم عن تأمين حاجاتهم.

وفي نهاية المطاف، يجدر التأكيد أن معركة كل دولة ضد عدوى سريعة الانتقال ترتبط بطبيعتها منذ البداية بمكافحة جيرانها، سواء الأصدقاء أم الأعداء، ولذلك فالجميع يحتاج إلى كسب المعركة، حيث في ظل تمدد حالة الجائحة العالمية الراهنة، فإن أفق قيمة التعاون يظل مفتوحًا بوضوح. وهو ما يمكن فقط أن يرجِّح، بخصوص توقعات مسار الأزمة، السيناريو "القائم على فرضية نجاح إجراءات الاحتواء في الحد من انتشار الفيروس خلال الربع الثاني من العام والبدء في الرفع من الحظر وإجراءات الاحتواء تدريجيًا. ليبدأ النشاط الاقتصادي في استعادة عافيته تدريجيًا في الربع الثالث من العام"[35].


[1] Adam Kamradt-Scott, Managing Global Health Security: The World Health Organization and Disease Outbreak Control (New York: Palgrave Macmillan, 2015), p. 84.

[2] Ibid., p. 154.

[3] محمد الشرقاوي، "التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية (الجزء 2)"، مركز الجزيرة للدراسات، 30/3/2020، ص 8، شوهد في 5/4/2020، في: https://bit.ly/3bVbez0

[4] "فيروس كورونا: اتهامات بشن حملات تشويه بين واشنطن وبكين وترامب يدافع عن عبارة ’الفيروس الصيني‘"، فرانس 24، 17/3/2020، شوهد في 5/4/2020، في: https://bit.ly/2V33p3F

[5] "هل هرب فيروس كورونا القاتل من مختبر بيولوجي صيني؟"، الجزيرة نت، 25/1/2020، شوهد في 5/4/2020، في:

https://bit.ly/2x3JlpS

[6] هو مرض حيواني المنشأ شديد العدوى، ينتج من تناول حليب غير مبستر أو لحم غير مطهو جيدًا، من منتجات الحيوانات المصابة، أو من الاتصال المباشر بإفرازاتها. كما يعرف أيضًا بـ الحمى المتماوجة والحمى المالطية وحمى البحر المتوسط.

[7] Yanzhong Huang, “U.S.-Chinese Distrust is Inviting Dangerous Coronavirus Conspiracy Theories,” Foreign Affairs, 5/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://fam.ag/2UHd9lg

[8] Vladan Radosavljevic, “A New Method of Differentiation Between a Biological Attack and other Epidemics,” in: Iris Hunger et al. (eds.), Biopreparedness and Public Health (Dordrecht, Netherlands: Springer, 2013), p. 18.

[9] Ibid., p. 20.

[10] Sidney Osler, Coronavirus Outbreak all the Secrets Revealed about the Covid-19 Pandemic: A Complete Rational Guide of its Evolution Expansion Symptoms and First Defense ([n.c.]: [n.p.], 2020), p. 10.

[11] Radosavljevic, p. 21.

[12] Nurith Aizenman, “New Research: Bats Harbor Hundreds of Coronaviruses and Spillovers aren't Rare,” NPR: National Public Radio, 20/2/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://n.pr/2x2nb7i

[13] Ronald M. Atlas, “One Health: Its Origins and Future,” in: John S. Mackenzie et al. (eds.), One Health: The Human-Animal-Environment Interfaces in Emerging Infectious Diseases: The Concept and Examples of a One Health Approach (Berlin: Springer, 2013), p. 13.

[14] Radosavljevic, p. 22.

[15] "مرض فيروس كورونا (كوفيد-19): أسئلة وأجوبة"‏، منظمة الصحة العالمية، شوهد في 5/4/2020، في: https://bit.ly/3aIMTfK

[16] Radosavljevic, p. 23.

[17] Warwick McKibbin & Roshen Fernando, “The Economic Impact of COVID-19,” in: Richard Baldwin & Beatrice Weder di Mauro (eds.), Economics in the Time of COVID-19 (London: Centre for Economic Policy Research, 2020), p. 46.

[18] Mohamed A. El-Erian, “The Coming Coronavirus Recession and the Uncharted Territory Beyond,” Foreign Affairs, 17/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://fam.ag/2XhGdRM

[19] الشرقاوي.

[20] Stefan Elbe, Pandemics, Pills and Politics: Governing Global Health Security (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 2018), p. 9.

[21] Ibid., p. 37.

[22] Ibid., p. 2.

[23] Mahlet Mesfin, “It Takes a World to End a Pandemic: Scientific Cooperation Knows No Boundaries-Fortunately,” Foreign Affairs, 21/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://fam.ag/2yDQP3v

[24] المقصود نظام الاستجابة العالمية للأمراض والأوبئة الذي تقوده منظمة الصحة العالمية على المستوى الدولي.

[25] Sara E. Davies, Adam Kamradt-Scott & Simon Rushton (eds.), Disease Diplomacy International Norms and Global Health Security (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 2015), p. 1.

[26] Ibid., 20.

[27] Ibid., 40.

[28] ججيجوش كوودكو، حقائق وأخطاء وأكاذيب: السياسة والاقتصاد في عالم متغير، ترجمة رحاب صلاح الدين يوسف، ط 2 (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2012)، ص 481.

[29] Michael C. LeMay, Global Pandemic Threats: A Reference Handbook (Santa Barbara, CA: ABC-CLIO, 2016), p. 108.

[30] "حرب كمامات وأجهزة تنفس.. كورونا تضع الدول الغربية وجها لوجه"، الجزيرة نت، 4/4/2020، شوهد في 5/4/2020، في:

https://bit.ly/2UKagjr

[31] Yanzhong Huang, “The U.S. and China Could Cooperate to Defeat the Pandemic, Instead, Their Antagonism Makes Matters Worse,” Foreign Affairs, 24/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://fam.ag/3dW5siM

[32] محمد عبد الله يونس، "كيف ترسم المفاهيم المتداولة ملامح ’عالم ما بعد كورونا‘؟"، دراسات خاصة (مركز المستقبل للدراسات المتقدمة - أبوظبي)، العدد 2 (آذار/ مارس 2020)، ص 9، شوهد في 5/4/2020، في: https://bit.ly/2ReQgU1

[33] Paul Haenle & Lucas Tcheyan, “Can the United States and China Cooperate on the Coronavirus?” Carnegie Endowment for International Peace, 20/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://bit.ly/2UY3d5K

[34] Branko Milanovic, “The Real Pandemic Danger Is Social Collapse: As the Global Economy Comes Apart, Societies May, Too,” Foreign Affairs, 19/3/2020, accessed on 5/4/2020, at: https://fam.ag/39KCwHd

[35] "وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقارير، العدد 2 (نيسان/ أبريل 2020)، ص 34، شوهد في 5/4/2020، في: https://bit.ly/3e68eSC