العنوان هنا
تقييم حالة 22 مايو ، 2019

حرب العاصمة الليبية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية

أحمد قاسم حسين

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير تحرير دورية "سياسات عربية"، ومدير تحرير الكتاب السنوي "استشراف للدراسات المستقبلية". عمل أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة فلورنسا بإيطاليا. له العديد من الأبحاث والدراسات المنشورة في مجال العلاقات الدولية. تتركز اهتماماته البحثية في نظريات العلاقات الدولية. صدر له كتاب "الاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية: القضايا الإشكالية من منظور واقعي" (المركز العربي، 2021). حرّر العديد من الكتب، منها: "ليبيا: تحديات الانتقال الديمقراطي وأزمة بناء الدولة" (المركز العربي، 2022)؛ "حرب حزيران/ يونيو 1967: مسارات الحرب وتداعياتها" (المركز العربي، 2019)؛ "استراتيجية المقاطعة في النضال ضد الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح" (المركز العربي، 2018).

مقدمة

منذ أن أطلق اللواء المتقاعد خليفة حفتر العملية العسكرية في الشرق الليبي "عملية الكرامة"، في أيار/ مايو 2014، وهو يضع نصب عينيه السيطرة على العاصمة طرابلس؛ لرمزية هذه الخطوة وإلا ستلاحقه صفة "متمرد" عسكري، يسعى لإخضاع المدن الليبية بالقوة العسكرية. ويدرك حفتر أن الانقلابات العسكرية يُحكَم على نجاحها أو فشلها بالاستيلاء على العاصمة، ومؤسسات الحكم فيها، لذا سعى جاهدًا لإخضاع العاصمة ومحيطها، من خلال الهجوم العسكري الذي بدأه في 4 نيسان/ أبريل 2019 على طرابلس وما زال مستمرًا.

لم يحسم عنصر المفاجأة الحرب لمصلحة حفتر حتى الآن، وهو ما عكس فشلًا في تقديراته العسكرية لقوة حكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج، والمكونات العسكرية التي تقاتل إلى جانبها. فقد استطاعت تشكيلات الجيش الليبي، والكتائب المسلحة التابعة لحكومة الوفاق المنتشرة في طرابلس ومحيطها، امتصاص الصدمة، وتوحيد صفوفها، ومقاومة الهجوم العسكري الذي جاء عشية ترتيبات سياسية، تقودها الأمم المتحدة بين حفتر والسراج؛ بهدف التحضير للملتقى الوطني الجامع الذي كان يُفترض أن ينطلق منتصف نيسان/ أبريل لدفع الحل السياسي في البلاد.

نحاول في هذه الورقة الوقوف على الواقع العسكري والسياسي في ليبيا، قبل حرب حفتر على العاصمة، ورصد مواقف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في ليبيا من المعارك الدائرة في طرابلس ومحيطها، واستشراف مسارات تلك الحرب التي دخلت شهرها الثاني، من دون أن تحقق الهدف المرجو منها، وتداعياتها المحلية والإقليمية.

أولًا: الواقع العسكري والسياسي في ليبيا قبل حرب العاصمة

لم تنجح الحكومات الليبية المتعاقبة، خلال السنوات الماضية، في ضبط الأمن والاستقرار في ليبيا، وبقيت أسيرة الكتائب المسلحة. وقد حاولت حكومة الوفاق الوطني منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2016- والتي جاءت وفق قرار مجلس الأمن رقم 2259،[1] الصادر في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2015 الذي أقرّ بشرعية المجلس الرئاسي الليبي - ضبط السلاح المنتشر في عموم ليبيا، وتحديدًا في العاصمة ومحيطها حيث تنتشر الكتائب المسلحة، لكنها فشلت بفعل عوامل داخلية مرتبطة بحالة التناقض بين توجهات الكتائب المسلحة ومصالحها في طرابلس ومحيطها، وبين دخولها في حالة من الاحتراب والاقتتال في ما بينها؛ إذ تميزت علاقتها بحكومة الوفاق بالتوتر، فتارة تكون قريبة منها، وتارة تدخل في نزاع وخلاف سياسي معها. ومع سعي القوى الفاعلة في ليبيا لتحقيق مصالحها المتعارضة، وعدم مساندة حكومة الوفاق الوطني في بناء مؤسسات أمنية وعسكرية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، اعتمدت حكومة الوفاق على بقايا تشكيلات الجيش الليبي، إضافة إلى الكتائب المسلحة.

تعتبر قوة حماية طرابلس القوة المسلحة المساندة لحكومة الوفاق الوطني، وتسهم في ضبط الاستقرار في العاصمة ومحيطها، وقد أُسست بعد هجوم اللواء السابع (الكانيات) المتمركز في مدينة ترهونة، أواخر عام 2018، على العاصمة. ووفقًا لبيان أصدره اللواء السابع، فإن هدف الهجوم "استرداد الدولة من براثن العصابات التي نهشتها وعبثت بها، وتطهير البلاد من سيطرة العصابات المسلحة التي نهبت الوطن، وغيبت المواطن"[2]. وبعد ذلك، تألّف تحالف قوة حماية طرابلس، فضمّ تسع كتائب مسلحة، هي: ثوار طرابلس، وكتيبة النواصي، وقوة الردع، وأم العقارب، والكتيبة 92 مشاة، والكتيبة 155 مشاة، وكتيبة يوسف البوني، والأمن المركزي أبو سليم، والسرية 42، وكتيبة الضمان؛ بهدف حماية العاصمة وتأمينها من أي اعتداء خارجي.

اللافت أن التحرك العسكري لمكون أساسي من كتائب مصراتة كان متسقًا مع ما أعلنه اللواء السابع، من حيث ضرورة تحرير طرابلس من الميليشيات المسلحة التي تسيطر عليها[3]، ولكن سرعان ما تغيّر تحالف كتائب مصراتة بعد إطلاق حفتر عمليته العسكرية في طرابلس؛ إذ تحالفت مع قوة حماية طرابلس في الدفاع عن العاصمة، ومنع حفتر من دخولها، وهو ما يدل على الطبيعة الهشة للتحالفات العسكرية في ليبيا عامة، والمنطقة الغربية خاصة، فهي تُبنى في جزء كبير منها وفق مصالح الكتائب المسلحة، وبحسب تعريفها لأمنها وعوامل بقائها، والأمر ذاته ينسحب على الكتائب المسلحة التي تقاتل مع حفتر.

وقبل بدء حرب العاصمة، بدأ حفتر، بعد بسط سيطرته على الشرق الليبي في منتصف كانون الثاني/ يناير 2019، عملية عسكرية سماها "تطهير الجنوب"، هدف من خلالها السيطرة على إقليم فزان في الجنوب، وهو إقليم يعاني سلسلة أزمات اجتماعية بين المكونات القبلية المتنازعة (أولاد سليمان، الطوارق، التبو، المقارحة، القذاذفة ... إلخ)، وواقعًا اقتصاديًا صعبًا في ظل غياب شبه تام لمؤسسات الدولة، وأوضاعًا أمنية متردية بسبب الحدود الرخوة التي يتنقل عبرها الأفراد والجماعات المعارضة التشادية والسودانية المسلحة. استثمر حفتر تلك العوامل في سبيل إحكام قبضته على أهم مدن الجنوب الليبي، واستطاع دخول مدينة سبها التي تبعد نحو 700 كيلومتر جنوب العاصمة، ومدن مرزق والقطرون وأم الأرانب، كذلك بسط سيطرته في هذه المنطقة على حقلي الشرارة والفيل، وسلمهما للمؤسسة الليبية للنفط التابعة لحكومة الوفاق الوطني. فحفتر يدرك أنه غير قادر على وضع مصادر الطاقة الليبية تحت تصرفه، إذ حاول القيام بمثل هذه الخطوة عند سيطرته على منطقة الهلال النفطي في الشرق الليبي، فأصدرت آنذاك حكومات كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا بيانًا يطالبه بإعادة تلك الموارد إلى المؤسسة الوطنية للنفط[4]. فمقاربات هذه القوى للأزمة الليبية ترتبط في الأساس بالمناطق الجيوسياسية الغنية بالطاقة، ولا تعبأ غالبًا بالحرب الأهلية التي تعصف بالبلاد، إلا في حدود تهديد أمنها ومصالحها. لم تتعامل حكومة الوفاق الوطني تعاملًا جديًا وفاعلًا في مواجهة تحركات حفتر العسكرية في الجنوب الليبي؛ لذلك، باتت مصادر الطاقة في ليبيا - في الهلال النفطي الذي يضم حقولًا مهمة (السدرة، ورأس لانوف، والزويتينة)، وفي الجنوب حقلا الشرارة والفيل - تحت سيطرة قوات حفتر وحمايتها.

وقد وفرت قاعدة الجفرة الجوية في الجنوب الليبي، إلى جانب قاعدة الوطية غرب مدينة غريان، نقاط الدعم الجوي اللوجستية في حرب حفتر على العاصمة، فضلًا عن مجموعة من الكتائب المسلحة الموالية له التي تنتشر غرب العاصمة، في مناطق الجميل ورقدالين وصبراتة وزليتن. لكنّ نطاق تحركها العسكري محدود، ولا سيما أنها مطوقة بكتائب جنزور وكتائب الزاوية المعارضة لحفتر، وهو وضع يجعل تحركها محدود الفاعلية العسكرية، ما لم تتحرك وفق خطة شاملة للهجوم.

خريطة توضح انتشار قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني

المصدر: من إعداد الباحث.

أما ما يتعلق بالمشهد السياسي الذي سبق هجوم حفتر على طرابلس، فقد اجتمع حفتر بالسراج في العاصمة الإماراتية، أبوظبي، في 27 شباط/ فبراير 2019؛ لإيجاد حل للأزمة السياسية. ولم يكن اللقاء الأول الذي جمعهما على الهدف والغاية نفسيهما، فقد اجتمعا سابقًا في أبوظبي في عام 2017، وفي باريس في تموز/ يوليو من العام نفسه. كما التقيا في عام 2018 أيضًا في مؤتمر باريس الذي عُقد في أيار/ مايو، وفي مؤتمر باليرمو في تشرين الثاني/ نوفمبر، اللذين خُصصا لبحث الأزمة الليبية. لكن لم ينتج من هذه الاجتماعات أي خطة، أو خريطة طريق، تضع حدًا للانقسام السياسي الذي تشهده البلاد. لقد كان هدف حفتر من الاجتماع كسب مزيد من الوقت، رافضًا أي حل سياسي يقود إلى حل الأزمة. وقد أعلن عمليته العسكرية، في 4 نيسان/ أبريل 2019، باسم "طوفان الكرامة"، ضاربًا عرض الحائط كل جهد بذلته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، لعقد المؤتمر الوطني؛ فتحركت قواته نحو العاصمة من سبعة محاور، مقوضًا بذلك جهد التسوية السياسية[5]. ودخلت قواته مدينة غريان الواقعة على بعد نحو 90 كيلومترًا جنوب العاصمة، ثم سيطرت على منطقتي صرمان وصبراتة غربها.

لقد بدأ حفتر هجومه على طرابلس بالتزامن مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس فيها، واستطاعت حكومة الوفاق والقوى العسكرية المساندة لها امتصاص صدمة الهجوم وتمكنت من صده.

ثانيًا: مواقف معسكر داعمي حفتر إقليميًا ودوليًا

في الوقت الذي تعترف فيه كل من القاهرة والرياض وأبوظبي بحكومة الوفاق الوطني، بوصفها الحكومة الشرعية، فإنها تقدّم كل الدعم السياسي والعسكري لحفتر؛ فالقاهرة تنشد زيادة نفوذها، وضمان أمن حدودها البرية الرخوة مع ليبيا التي تصل إلى 1115 كيلومترًا، والتي تشهد حركة تهريب للأفراد والسلع، وللجماعات المسلحة. وقد شهدت هذه الحدود سلسلة من الاشتباكات بين شبكات التهريب وحرس الحدود المصري، كان آخرها في تموز/ يوليو 2014، عندما قُتل نحو 28 عسكريًا مصريًا قرب واحة الفرافرة.

تدعم القاهرة حفتر عسكريًا وسياسيًا، وتعتبره ضامنًا لأمنها ومصالحها في المنطقة الشرقية الغنية بالموارد النفطية، وهي المنطقة التي تُعدّ سوقًا واعدة للعمالة المصرية، وترى حفتر جزءًا من التحالف الذي يجمعها بالرياض وأبوظبي، وأداة أساسية لتنفيذ توجهات تلك الدول ومصالحها، ولا سيما أن حفتر يجهد للظهور بأنه يمر بأحوال مشابهة لحليفه وجاره الجنرال عبد الفتاح السيسي، من حيث محاربة حركات الإسلام السياسي التي يصفها بـ "الإرهابية"، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين، في انسجام تام مع تصورات أبوظبي والرياض[6].

وفي هذا السياق تحتضن الإمارات حفتر سياسيًا وعسكريًا، وتدعم هجومه على طرابلس، إذ وصلت طائرتا شحن إماراتيتان إلى قاعدة بنينا في بنغازي، تنقلان معدّات عسكرية لحفتر، وقد اعترفت إدارة مطار بنينا بوصولهما، لكنها زعمت أن الطائرتين الآتيتين من مطار دبي الدولي مصدرهما مؤسسة "زايد الخير"؛ لدعم مؤسسات خيرية في الجنوب، بالتنسيق مع الحكومة المؤقتة، ولا تحملان شحنات سلاح[7]. إضافة إلى ذلك، توجد طائرات بلا طيار، وخبراء عسكريون إماراتيون، في قواعد عسكرية في المنطقة الشرقية (قاعدة الخادم، وقاعدة بنينا). وفي حال فشل حفتر في اقتحام طرابلس، فمن المتوقع أن تخرجه الإمارات من مأزقه العسكري، فتقدّم له إسنادًا جويًا، على غرار ما نفّذه سلاح الجو الإماراتي من ضربات جوية في بنغازي ودرنة بطائرات بلا طيار "وينغ لونغ 2" صينية الصنع[8].

وتسعى الإمارات لزيادة مكاسبها الاقتصادية في ليبيا، من خلال مجموعة من الشركات العاملة في مجال إعادة الإعمار، وشركات صيانة الموانئ النفطية والتجارية، مثل الشركة الليبية الإماراتية لتكرير النفط (ليركو)، ثاني أكبر شركة طاقة في شمال أفريقيا، ويصل إنتاجها إلى نحو 220 ألف برميل من النفط يوميًا، وتعمل في منطقة الهلال النفطي[9]، وشركة "تراسا" الإماراتية التي امتلكت حق صيانة عدة موانئ وتشغيلها في منطقة الهلال النفطي التي تخضع لسيطرة حفتر.

التقى حفتر قبل هجومه على طرابلس الملك السعودي وولي عهده ووزير الداخلية ورئيس الاستخبارات العامة في الرياض، وهو ما يفسر أنه يحتاج إلى دعم الرياض لما لها من تأثير قوي في التيار السلفي المدخلي في ليبيا المناصر له، وذلك بعد أن وفّر الغطاء العسكري والمالي إماراتيًا ومصريًا. ولا يخفى أن للرياض علاقات قوية بالبيت الأبيض والرئيس الأميركي دونالد ترامب، فهي تُسوّق حفتر في أميركا على أنه محارب للإرهاب، بالتعاون مع أبوظبي والقاهرة. ولعل اتصال ترامب الهاتفي بحفتر يأتي في سياق توفير الضوء الأخضر لهجومه على العاصمة.

وأوروبيًا، تنضم باريس إلى معسكر داعمي حفتر في هجومه على طرابلس، باعتباره الضامن لمصالحها النفطية، والضابط لحركة الهجرة غير القانونية. وقد قدمت باريس دعمها العسكري لحفتر في عملياته العسكرية في الشرق الليبي؛ حيث قتل جنود فرنسيون سابقًا في بنغازي، وباركت العمليات العسكرية التي شنتها قوات حفتر في الجنوب الليبي بلسان الناطقة باسم الخارجية الفرنسية، آنييس فن دور مول[10]. وفي حربه الأخيرة ظهر جليًا التعاون الفرنسي مع قوات حفتر من خلال تقديم الدعم العسكري والاستخباراتي؛ إذ دارت شكوك كثيرة حول دور الفرنسين الثلاثة عشر الذين سلموا السلطات التونسية ما بحوزتهم من معدات قبل دخولهم الأراضي التونسية، قادمين من المنطقة الغربية الليبية، فضلًا عن أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، طالب بوقف غير مشروط لإطلاق النار، وهو ما يصبّ في مصلحة حفتر عسكريًا، على أن تُحدَّد خطوطه بإشراف دولي، لتحديد إطاره بدقة[11].

أما موسكو، فقد عطّلت عقد جلسة مجلس الأمن لبحث هجوم حفتر على طرابلس، في انحياز تام إليه، وهي تستدرك في سلوكها الخارجي تجاه ليبيا خطأ التقدير في عدم استخدامها "الفيتو" في عام 2011 على التدخل الغربي الذي قاد إلى خسارتها منطقة نفوذ، وسوقًا اقتصادية في شمال أفريقيا. لذلك تحاول استعادة موقعها من خلال دعمها لحفتر، فضلًا عن استثمار غياب إستراتيجية أميركية في ليبيا. إضافة إلى أن مصر والإمارات سوّقتا حفتر في موسكو على أنه الرجل الأقوى، والقادر على ضمان مصالح موسكو مستقبلًا في ليبيا. ولتعزيز ذلك عمد حفتر إلى زيارة موسكو مرات عدة بهدف تطوير التعاون العسكري مع الجانب الروسي، ودفع موسكو إلى دعمه عسكريًا في حربه للسيطرة على البلاد بكاملها، حتى لو تطلّب الأمر إقامة قواعد عسكرية روسية شرق البلاد.

ثالثًا: مواقف دول الجوار بين الحذر والمعارضة

تسود حالة من التناقض في مقاربات دول الجوار الجغرافي لحل الأزمة الليبية، وتوجد مؤشرات عديدة على حالة عدم التوافق بينها على التحرك العسكري الأخير الذي قام به حفتر. كان التطور اللافت في الموقف الجزائري الذي كان واضحًا ومغايرًا للخطاب الدبلوماسي قبل هجوم حفتر، حين قال وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم: "لا نقبل قصف عاصمة في دولة من المغرب العربي، ونحن صامتون"[12]. فالأمن الوطني للجزائر يرتبط بمسارات المعارك جنوب ليبيا وغربها؛ ذلك أنها تشترك مع ليبيا بحدود برية تصل إلى 700 كيلومتر، وقد حافظت الجزائر على قدر من توازن القوة في المنطقة الغربية، في مواجهة الدور والنفوذ المصريين. هدد حفتر سابقًا بنقل الحرب إلى حدود الجزائر، على خلفية دخول قوة عسكرية جزائرية الأراضي الليبية، متهمًا الجزائر باستغلال الأوضاع الأمنية في المنطقة الغربية[13]، وها هو حفتر يستثمر في التحولات التي تشهدها الجزائر، في إثر تصاعد الحركة الاحتجاجية؛ لخرق حالة التوازن التي أسستها، والعمل على تغيير توازنات القوى في المنطقة الغربية بما يخدم مصالحه.

أما تونس، فقد حافظت على الحياد في المرحلة السابقة، لكنها خرجت عن صمتها ودانت الهجوم العسكري، وتضامنت مع حكومة الوفاق الوطني[14]. وتخشى تونس انتقال العمليات العسكرية إلى حدودها، حيث لديها معابر برية مع ليبيا (رأس جدير، معبر ذهيبة - وزان)، فضلًا عن عدد كبير من المواطنين الليبيين المقيمين على أراضيها، وقد شهدت حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا؛ بهدف وضع حد للحرب في طرابلس ومحيطها.

كما شهدت العلاقات السودانية - التشادية نوعًا من التنسيق في ضبط الحدود بين البلدين، وضبط التهديدات القادمة من ليبيا (الجماعات المسلحة المعارضة لنظامي السودان وتشاد، وحركة الهجرة غير القانونية، وعصابات تهريب البشر والسلع). وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد حفتر في حربه في المنطقتين الشرقية والجنوبية على ميليشيات سودانية، بحسب ما جاء في تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة في ليبيا، يؤكد وجود ارتباط بين جيش تحرير السودان المعارض، والقوات التابعة لحفتر[15]. ويقدّم حفتر أيضًا خدمة للعاصمة التشادية، إنجامينا، التي زارها مرات عدة؛ بهدف محاربة الميليشيات التشادية المعارضة للنظام في الجنوب الليبي، مقابل دعم تشاد حربه على طرابلس.

رابعًا: مواقف الدول المعارضة لهجوم حفتر

دخلت تركيا على مسار الأزمة الليبية، وقد كان موقفها رافضًا للتصعيد العسكري الذي أقدم عليه حفتر، وداعمًا لحكومة الوفاق الوطني. يُذكر أن موقف حفتر من تركيا يرتكز على حربه على حركات الإسلام السياسي الليبية التي يقيم معظم قادتها في تركيا، وذلك في مسعى لتعزير ثقة حلفائه في الرياض وأبوظبي والقاهرة التي تختلف مع أنقرة في المنطقة.

ومن جهتها تعارض قطر، التي تربطها علاقات إستراتيجية بتركيا، هجوم حفتر، وترى فيه تقويضًا لجهد الأمم المتحدة في تحقيق الاستقرار في ليبيا. وقد تحركت الدوحة دبلوماسيًا في الدول ذات الثقل والتأثير في مسار الأزمة الليبية، من خلال زيارات قام بها وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بعد هجوم حفتر على طرابلس.

أما الموقف الإيطالي، فهو رافض لهجوم حفتر على طرابلس وداعم لحكومة الوفاق. لكن روما غير قادرة على قيادة القاطرة الأوروبية نحو إصدار موقف موحد بسبب الانقسام في الموقف الأوروبي تجاه الأزمة الليبية عامة. فروما تنطلق في مقاربتها للأزمة من منافسة باريس على النفوذ. ومع ذلك، تحاول باريس وروما إعادة ترتيب أوراقهما في ليبيا؛ بهدف ضمان مصالحهما النفطية، ولا سيما أن أهم شركتين نفطيتين تعملان في ليبيا تحملان الجنسيتين الفرنسية والإيطالية، وهما توتال Total وإيني Eni. والجدير بالذكر أن زيارة حفتر الأخيرة إلى روما لم تحمل أي جديد على مستوى وقف المعارك في محيط طرابلس، إذ دعا رئيس الحكومة الإيطالية، جوزيبي كونتي، حفتر إلى وقف إطلاق النار، والسير في طريق الحل السياسي[16].

وعارضت بريطانيا هجوم حفتر على طرابلس، ورأت أن لا مسوغ له. وكانت بريطانيا، في بداية الحرب على طرابلس، قد دعت إلى عقد جلسة خاصة لمجلس الأمن، على أن يصدُر بيان رئاسي من المجلس، يتضمن تهديدًا بمحاسبة قوات حفتر، إن لم توقف هجومها، وتدعوه إلى الانسحاب من الأراضي التي سيطر عليها في محيط طرابلس، ووقف النشاط العسكري قرب المدينة، وحث جميع الأطراف على العودة إلى مسار العملية السياسية. لكن روسيا اعترضت على ذلك، فغاب الإجماع، ولم ير المقترح البريطاني النور[17]. وقد صدر عن جلسة مجلس الأمن بيان صحفي، لا يتمتع بصفة رسمية، يطالب فيه المجتمعون حفتر بوقف هجومه على طرابلس، محذرين من أن هذا الهجوم يعرّض الاستقرار في ليبيا للخطر.

خامسًا: سيناريوهات محتملة

دخلت حرب العاصمة شهرها الثاني من دون أن يحقق حفتر مراده بدخولها؛ إذ ساهمت مواقف الدول الإقليمية والدولية في إطالة أمد المعارك التي يدفع تكلفتها الباهظة المواطن الليبي، وهو ما يدل على أن دخول حفتر طرابلس ليس بالأمر اليسير، ويضع سير المعارك أمام احتمالين:

الأول: استبعاد الحسم العسكري واستمرار المعارك، ولا سيما بعد أن امتصت القوات المساندة لحكومة الوفاق الوطني صدمة الهجوم، وتوحدت الكتائب المتنافرة والمتناقضة في طرابلس ومحيطها، ودخلت كتائب مصراتة على خط المعارك. ويعني ذلك استمرار المعارك والقتال في محيط طرابلس، ودفاع القوات المساندة لحكومة الوفاق عن العاصمة، الأمر الذي سيدفع حفتر إلى اعتماد الإستراتيجية ذاتها التي اتبعها في المنطقة الشرقية القائمة على تفكيك التحالفات، والحرب الطويلة الأمد، معتمدًا على دعم القوى الإقليمية والدولية المساندة له.

والثاني: تدخّل دولي لوقف إطلاق النار، وهو احتمال ضعيف حتى هذه اللحظة، في ظل تناقض المواقف الإقليمية والدولية تجاه هجوم حفتر على العاصمة. لكن إطالة أمد الحرب قد يحرج حلفاء حفتر الإقليميين والدوليين الذين توقعوا أن تكون حربه خاطفة على العاصمة التي يقطنها نحو ثلاثة ملايين مواطن ليبي، فهي خزان بشري كبير، وفيها مقر حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترف بها دوليًا، ومؤسساتها السيادية (الوزارات، ومصرف ليبيا المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط)، ومقر البعثات الدبلوماسية الدولية العاملة في ليبيا، على أن يفضي وقف إطلاق النار إلى تسوية سياسية جديدة، تجمع الفرقاء الليبيين على طاولة المفاوضات لحل الأزمة الليبية.



[1] “Unanimously Adopting Resolution 2259 (2015), Security Council Welcomes Signing of Libyan Political Agreement on New Government for Strife-Torn Country,” United Nations, 23/12/ 2015, accessed on 21/5/2019, at: https://goo.gl/JriYXz

[2] "اللواء السابع الليبي: مستمرون في تطهير البلاد من الميليشيات"، سبوتنيك عربي، 1/9/2018، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2GWe22t

[3] "صلاح بادي يعلن انضمامه بقواته إلى المعركة في طرابلس ضد قوات الوفاق"، يوتيوب، 28/8/2018، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2JheOZh

[4] “Joint Statement on Libya by the Governments of France, Italy, the United Kingdom and the United States,” U.S. Embassy in Libya, 11/7/2017, accessed on 10/5/2019, at: https://goo.gl/kHHEFm

[5] Roland Oliphant, “Libya Braced for War as Khalifa Haftar Orders Advance on Tripoli,” The Telegraph, 4/4/2019, accessed on 21/5/2019, at: https://bit.ly/2UrScMM

[6] Laurent De Saint Perier, “Khalifa Haftar: ‘La Libye n’est pas encore mûre pour la démocratie’,” Jeuneafrique, 5/2/2018, accessed on 21/5/2019, at: https://bit.ly/2GxShGu

[7] "باشاغا لـ ’الحرة‘: الإمارات أرسلت طائرة لدعم حفتر"، قناة الحرة، 12/4/2019، شوهد في 21/5/2019، في: https://arbne.ws/2Uw0Ycx

[8] "موقع أميركي: طائرات إماراتية مسيرة فتاكة قصفت طرابلس"، الجزيرة نت، 3/5/2019، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2LlHbIF

[9] "الليبية الإماراتية للنفط: عودة إنتاج مصفاة رأس لانوف قريبًا"، الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة في ليبيا، 23/3/2018، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2V9rIe8

[10] "فرنسا تشيد بدور الجيش الوطني الليبي وتؤكد تمسكها بوحدة وسيادة واستقلال ليبيا"، سبوتنيك عربي، 16/1/2019، شوهد في 25/4/2019، في: https://goo.gl/K29ujU

[11] "ماكرون يجدد ’دعمه‘ للسراج ويدعو إلى وقف غير مشروط لإطلاق النار في ليبيا"، فرانس 24، 8/5/2019، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2DV3E9h

[12] "وزير الخارجية الجزائري: لا نقبل بقصف عاصمة مغاربية ونحن صامتون"، بوابة الوسط، 26/4/2019، شوهد في 21/5/2019، انظر: https://bit.ly/2V7qY9y

[13] "حفتر يهدد الجزائر بالحرب"، الجزيرة نت، 8/9/2018، شوهد في (21/5/2019، في: https://bit.ly/2GTPVjv

[14] صلاح الدين الجروشي، "هواجس تونس تجاه أوضاع ليبيا تكبر: الرهان على تسوية"، العربي الجديد، 29/4/2019، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2JzrxHb

[15] “Letter dated 1 June 2017 from the Panel of Experts on Libya established pursuant to resolution 1973 (2011) addressed to the President of the Security Council,” United Nation, 1/6/2017, accessed on (21/5/2019, at: http://bit.ly/2Yz1gga

[16] "كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في لقاء ’مطول‘ مع حفتر"، وكالة "آكي" الإيطالية، 16/5/2019، شوهد في 21/5/2019، في: https://bit.ly/2HP3j9p

[17] "ليبيا: واشنطن تدعو حفتر لوقف هجومه على طرابلس، وموسكو تجهض بيانًا ضده في مجلس الأمن"، فرانس 24، 8/4/2019، شوهد في 21/4/2019، في: https://bit.ly/2uPUwOd