العنوان هنا
تقييم حالة 16 يناير ، 2011

دور التدخلات الإقليمية في صناعة المسـألة الطائفية في العراق

الكلمات المفتاحية

فاضل الربيعي

كانت نشأته السياسية في إطار الحركة اليسارية العراقية عندما وجد نفسه ينخرط في العمل في صفوف الشيوعيين العراقيين. بدأ حياته الأدبية والفكرية والسياسية في السبعينيات كاتبا قصصيا ونشر عددا اكبيرا من القصص القصيرة والمقالات الأدبية في الصحف العراقية كما عمل في الصحيفة اليومية "طريق الشعب"، التي أصدرها "الحزب الشيوعي العراقي" عام 1973.غادر العراق عام 1979 مع انهيار التحالف السياسي بين الشيوعيين والبعثيين. وصل إلى تشيكوسلوفاكيا وعاش بضعة أشهر في براغ التي غادرها إلى عدن عاصمة اليمن الجنوبي السابق ليعمل في صحيفة "الثوري"، التي يصدرها "الحزب الاشتراكي اليمني". في صيف 1980 استقر في دمشق وعمل محرراً في مجلة "الحرية" اللبنانية كما عمل مراسلا ثم مديرا لمكتب مجلة "الموقف العربي" في دمشق. في سنوات الثمانينيات أسس تجمّعا ثقافيا باسم "العمل الثقافي" مع مجموعة من المثقفين العراقيين. عندما وقع الغزو الأميركي للعراق عام 2003 لفت الربيعي أنظار العراقيين في الداخل والخارج إلى موقفه المتميز والجريء وذلك باستخدامه لوسائل الإعلام العربية للتعبير عن موقف داعم للمقاومة العراقية. وكانت إطلالته المتكررة على شاشة "الجزيرة" أفضل تعبير عن قوّة هذا الموقف الذي أكسب الربيعي شعبية كبيرة في الأوساط العراقية والعربية حيث حظي باهتمام واحترام واسعين. كانت سنوات الاحتلال الممتدة من 2003 حتى 2008 بالنسبة إلى الربيعي سنوات إنتاج فكري وسياسي غزير فقد وضع نحو خمسة كتب نُشرت تباعا وقدّم فيها تحليلا معمّقا وتشريحا اجتماعيا وتاريخيا للمجتمع العراقي تحت الاحتلال.

خلاصة تنفيذية

يرتبط تفجرّ المسألة الطائفية في العراق، وصعود دور العامل الإقليمي كمؤثر خارجي مقرر في الكثير من السياسات المحلية في هذا البلد، وبشكل متلازم، بوقوع الاحتلال الأميركي في 9 نيسان/ إبريل 2003. قبل هذا التاريخ، لم تكن المسألة الطائفية أو العامل الإقليمي، موضوعاً دراسياً إلا في حالات نادرة، كان النقاش يجري خلالها بصورة غير علنية عن سياسات تمييز طائفي ذات طابع محدود، وعن تدخلات إقليمية محدودة كذلك.

اليوم، بعد سنوات من الاحتلال، هناك ما يشبه الإجماع على أن هذا التلازم تدعمه مجموعة من الحقائق، أبرزها أن محو الدولة وتفكيكها وانهيار مؤسساتها، وتلاشي مرتكزات الضبط الاجتماعي التقليدية في المجتمع، أدّى، ذلك كله، إلى شيوع نمط من الانفلات الأمني في جميع المستويات، وإلى تعاظم قوة الفاعل الإقليمي وتأثيره في الأحداث.

إن دراسة هذا الجانب من المسألة يمكن أن يوفر إمكانات ومعطيات جديدة لبناء فهم أفضل وأعمق للنتائج المترتبة على ظهور دور العامل الإقليمي وتبلوره كطرف فاعل.

كان لإيران في فترات ومراحل مختلفة من تاريخ العراق الحديث، بخلاف الكثير من القوى الإقليمية، لأسباب وظروف وبواعث عديدة ومعقدة نجمت عن الاحتلالات المتعاقبة التركية والإيرانية لهذا البلد، شأن مقرر في المعادلات الداخلية العراقية. ولعل حقبة الاحتلال البريطاني للعراق التي بدأت في عام 1917 هي الحقبة الأكثر نموذجية في تصنيف هذا الدور وتحديد طبيعته؛ فقد سعت إيران بعد تلاشي العدو العثماني من المسرح التاريخي، ومن خلال حلفائها السياسيين، وخصوصاً جماعات المجتهدين(1) إلى بلورة تيار ديني-سياسي يدعو إلى ضم العراق إليها وإلحاقه بها (2).

وخلال المناقشات التي أجراها السير أرنولد ويلسون، المفوض المدني البريطاني في نهاية عام 1918، مع بعض قادة هذا التيار، تكشفت أبعاد الدور الإقليمي وحدوده؛ إذ انقسمت الجماعات الشيعية إلى ثلاث كتل رئيسة، طالبت إحداها علناً بضمّ العراق إلى إيران، بينما دعت الثانية إلى إبقاء العراق تحت الحكم البريطاني(3).

أما الثالثة فدعت إلى خروج الاحتلال من العراق وتنصيب ملك عربي عليه. وفي وقت لاحق تمخض اجتماع تاريخي لهذه الجماعات عقده المرجع الشيعي الأعلى كاظم يزدي المعروف بمهادنته البريطانيين، وبناء على طلب ويلسون نفسه، عن نتائج مكرّسة لهذا الانقسام في صوره الأولى.

لكن تيار الضم والإلحاق هذا، سرعان ما أصابه الوهن والضعف بوفاة يزدي المفاجئة في نهاية عام 1919، وصعود آية الله الشيرازي الذي قاد بنفسه تياراً عروبياً لا يقبل المهادنة، ويدعو علناً إلى منح العراق استقلاله وحقه في تنصيب ملك عربي عليه، وهو المطلب الذي سينادي به ثوار 1920. لقد كان الدور الإقليمي لإيران، يتجلى، باستمرار وبأوضح صوره، داخل المسرح العراقي وليس في أي مكان آخر.

من الواضح أن المرتكزات التاريخية لهذا الدور تكمن في عاملين رئيسين، أولهما وجود مؤسسة دينية كبرى قادرة على التأثير المباشر في الجماهير الشعبية الشيعية وفي مختلف الطبقات كذلك، وثانيهما، تفكك ماكينة الدولة "القديمة" وقيام الاحتلال بالتخلص من الإدارة السابقة (السنية الموالية للعثمانيين في الغالب)، وهما أمران تكررا بصورة مأساوية، مرة في عام 1917 حين سرّح الإنكليز موظفي الإدارة من أهل السنة، ومرة أخرى حين طبق الأميركيون بقسوة قانون اجتثاث البعث، وجرى بموجبه استبعاد آلاف الموظفين والعسكريين من أهل السنة.

وعلى الأرجح-من المنظور التاريخي-أن افتقاد أهل السنة مرجعية دينية مؤسسّية، كما هي الحال عند الشيعة، كان له شأن، على نحو ما، في تشتت القوة الشعبية اللازمة والضرورية لوجودهم كقوة سياسية فاعلة. ويتضح هذا البعد بجلاء، أكثر ما يتضح، في تلازم ثلاثة عوامل رئيسة كان لها شأن مهم في صعود الجماعات الشيعية خلال الاحتلالين البريطاني 1917 والأميركي 2003، الأول: وجود المرجعية كمؤسسة دينية موجًّهة للرأي العام (الشيعي). والثاني: نشوء الأحزاب الشيعية داخل حاضنة ترعاها المرجعية بصورة غير مباشرة. والثالث: صعود دور إيران الإقليمي.

لقد نشأ "حزب "الدعوة الإسلامي" عام 1958 مثلاً، داخل حاضنة ترتبط بوشائج وثيقة بالمرجعية، حتى إن لجنة تأسيس الحزب كانت تتألف من محمد باقر الصدر فيلسوف الحزب ومؤسسه، ومحمد مهدي الحكيم ابن المرجع الشيعي محسن الحكيم(4) إلى جانب شخصيات أخرى. وفي الوقت ذاته، ارتبط نشوء الحزب وصعود دوره، بوجود روابط قوية بطهران. والأمر ذاته ينطبق على أحوال تأليف "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق" الذي أسسه آل الحكيم في معسكرات الجيش الإيراني على الحدود العراقية-الإيرانية.

 واليوم، مع الاحتلال الأميركي للعراق، يتمثل العامل الإقليمي لبعض النخب السياسية العراقية، وحتى للكثير من المواطنين في بروز دور إيران وحدها مجدداً، ومن دون سائر الأطراف، كلاعب مقرّر في المعادلات الداخلية. وفي حالة العراق الراهنة، بات تعبير "العامل الإقليمي" في معظم الأدبيات السياسية السائدة، يعني الإشارة إلى النفوذ الإيراني، بينما يشار إلى إيران في أدبيات سياسية أخرى، ومن دون تسميتها بالاسم، بعبارة "العامل الإقليمي". وهذا أمر مثير بالفعل، لأنه يكشف جانباً معقداً من تلازم المسألة الطائفية مع فاعلية العامل الإقليمي.

بيد أن تباين مستويات الدور الإقليمي واشكاله وتنوع مصادره، تجعل من الصعب اختزال مضمون هذا الدور وتحديده بطرف واحد من دون سائر الأطراف الأخرى. لقد بينت تجارب النزاع الداخلي والصراعات المحلية في العديد من البلدان، ومن بينها العراق، أن العامل الإقليمي، يمكن أن يتحول إلى عامل محلي، وأن يصبح من مكوّنات الصراع الداخلي.

كما بينت سائر هذه التجارب، أن تواصل الصراع واستمراره، وتزايد حاجات الأطراف المحلية إلى مصادر دعم وإسناد، وشعور دول الجوار القريب والبعيد بالخطر على مصالحها في المجال الجيوسياسي لمنطقة النزاع، هي من بين أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تزايد فرص وإمكانات التأثير في المعادلات السياسية الداخلية، سواء جاء ذلك من الدول الطامعة، أو من البلدان المجاورة الخائفة من تداعيات تفجر المسألة الطائفية ونتائجها.

 وفي الحالة العراقية الراهنة، يتمثل العامل الإقليمي في ظهور أشكال غير مسبوقة من التدخلات العسكرية والسياسية والثقافية، المباشرة وغير المباشرة، الصادرة عن دول الجوار، كما يتمثل في فاعليته ودرجة تأثيره في مجرى الصراع المحلي والتحكم في مساراته.

ولأن هذا العامل بطبيعته، لا يظهر كسبيكة متماسكة تصدر عن مركز أو طرف واحد، وهو على العكس من ذلك، ينبع من مصادر متنوعة ومتناقضة وحتى متصارعة في الرؤى والمصالح، فقد بات أمراً ملحاً إعادة تعريف "العامل الإقليمي" لإظهار حدود مسؤوليته عن بلورة النزاع الداخلي في صورته الإثنية (العرقية) والمذهبية المرّكبة.

إن التفاوت النسبي في فاعلية هذا الدور وقوة زخمه، بين هذا الطرف أو ذاك، من شأنه أن يحدد درجة التأثير وأمدائه. فالدور الإيراني مثلاً، لا يمكن مضاهاته بالدور التركي، والدور التركي لا يمكن مضاهاته بأدوار بعض الأطراف العربية، وأدوار هذه البلدان لا يمكن مقارنتها بالاتساع المضطرد للنفوذ الإسرائيلي الخفي. ويلاحظ في هذا السياق، أن الدور التركي في العراق، مرسوم بطريقة شديدة الحذر، وعابرة للبعد الطائفي(5). فحين وقعت، بعد أقل من عام على الاحتلال الأميركي، بعض الأحداث الطائفية بين التركمان الشيعة والسنة في الخلاف على أحد المراقد الدينية في كركوك، لم تعط تركيا أي انطباع عن أن دورها الإقليمي مرتبط بالبعد الطائفي للصراع.

وعلى العكس من ذلك، تمركز هذا الدور في ثلاثة محاور. أولها، إعادة صوغ العلاقات التركية-الكردية كعلاقات مصالح سياسية، وتجلى هذا الأمر في نجاح أنقرة في بناء علاقات متوازنة مع كردستان العراق (بمركزيه السياسيين: أربيل والسليمانية). وثانيها، رعاية محادثات سياسية بين الأطراف المتصارعة، وذلك ما برهنت عنه مناسبتان مهمتان متزامنتان تقريباً، التقى خلالهما رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري القادم من طهران، علاوة على الإعلان عن محادثات سرية بين الأميركيين وبعض فصائل المقاومة العراقية في أنقرة برعاية تركية-قطرية.

وثالثها، تشجيع العراق على الانجذاب نحو شراكات اقتصادية جديدة، وذلك ما عبرت عنه الاتفاقات المتنوعة التي وقعها الأتراك مع العراق، وإحداها اتفاقية إنشاء خط بري استراتيجي لنقل المنتجات النفطية لدول الخليج العربي، يربط البصرة بميناء جيهان التركي عبر الأراضي السورية (طرطوس-اللاذقية). ومع أن لأنقرة كثيراً من المبررات لاستغلال مسألة التركمان (في كركوك)، وهي مسألة تتيح لصانع القرار الدخول بقوة على خط التناقضات الداخلية؛ فإن المعطيات والوقائع تؤكد أن تركيا ظلت شديدة الحذر من ورقة التركمان العراقيين.

 إن السياسة العابرة للبعد الإثني (العرقي) والمذهبي (الطائفي) والتي انتهجتها تركيا طوال السنوات المنصرمة، هي التي وفرت الأحوال الملائمة لرؤية دورها الإقليمي كفاعل إيجابي في المسألة الطائفية، بينما اتسمت النظرة إلى أدوار بعض البلدان العربية بالتخبط(6)، فتارة يجري لوم البلدان العربية لتخليها عن العراق وتقاعسها عن التدخل، وتارة يجري توجيه اتهام بعضها بالتسبب في أعمال العنف (ودعم الجماعات الإرهابية).

كما هي الحال مع اتهام المملكة العربية السعودية، في بعض الفترات، بالمسؤولية عن تسلل مقاتلين سنة. ومع ذلك، فقد تشكلت في الأدبيات السياسية السائدة في العراق وخارجه وعلى امتداد أكثر من سبع سنوات، صورة نمطية عن الدور الإقليمي وارتباطه بالمسألة الطائفية، والذي يحصر المسألة برمتها في شكل واحد هو الصراع الشيعي-السني، وفي طرف واحد هو إيران، بحيث بات من المألوف سماع اتهامات صريحة ضد طهران، لمسؤوليتها عن تأجيج المسألة الطائفية، واستغلال نفوذها للتمدد المذهبي.

 والمثير للاهتمام أن المنظور السائد للمسألة الطائفية في الكثير من الأدبيات السياسية، يخلط بين تصورين للدور الإقليمي الإيراني، أحدهما لا يرى في إيران إلا دولة مذهبية طامعة في التمدد المذهبي (الشيعي) للهيمنة على العراق، بينما يرى التصور الآخر فيها دولة "قومية" تتحكم في استراتيجياتها أطماع تاريخية للفرس تتعدى نطاق العراق.

 وهذان المنظوران المتناقضان (المذهبي والقومي) يساهمان في تعقيد النظرة إلى دور إيران، وفي إشاعة أجواء من الحيرة في تفسير أسباب تزايد نفوذها. والأخطر من ذلك، أن إيران تصبح في الحالتين، مصدر النزاع، وفي الآن نفسه الطرف المستفيد منه. والسؤال المعروض اليوم هو: هل أدى تفجر المسألة الطائفية عقب الاحتلال إلى تعاظم فرص إيران في لعب دور مؤثر في المعادلات العراقية الداخلية؟ أم أنها وجدت في الاحتلال الأميركي ضالتها للعب دور إقليمي أوسع، يمكن أن يوفر لها فرصاً متزايدة لدعم نفوذها في العراق والمنطقة ؟