العنوان هنا
تقدير موقف 28 مايو ، 2012

اليمن والقاعدة

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

روِّعتْ صنعاء يوم الاثنين 21 أيّار / مايو 2012 بحادثٍ جللٍ: ضربة عنيفة أخرى من ضربات القاعدة،  استهدفتْ جنودًا أبرياء، كانوا يؤدّون تدريبًا استعراضيًّا تمهيدًا لعرضٍ عسكريّ قرّرته حكومة ما بعد صالح احتفالًا بالذّكرى الثّانية والعشرين للوحدة اليمنيّة وإزالة التّشطير. وقد أعلنت حركة أنصار الشّريعة، تبنّيها الحادث؛ وهي إحدى أذرع القاعدة في اليمن، ويقودها جلال بلعيدي أمير التّنظيم وأحد أبناء محافظة "أبين".

وإثر نجاح القاعدة وذيولها في السّيطرة على بعض مديريّات محافظتيْ "أبين" و"شبوة" الجنوبيّتيْن؛ غدا هذا التنظيم همًّا يمنيًّا يوميًّا، أُضيف إلى هموم اليمن الكثيرة الأخرى. وقد كان العقل المفكّر للقيادة العالميّة للقاعدة ذكيًّا فعلًا، لمّا اختار اليمن ملاذًا آمنًا لفلول القاعدة التي عانت من ضغوطٍ شتّى في العقد المنصرم. لاسيّما إثر استهداف الولايات المتّحدة الأميركيّة لها، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر ٢٠٠١، وما تمخّض عن ذلك من إعلانٍ عمّا سمّته الولايات المتّحدة الأميركيّة بالحرب على الإرهاب. شكّلت هذه الحرب إنهاءً للملاذ الآمن الذي نجحت القاعدة وحليفتها طالبان في إنشائه في أفغانستان، وحوّلته من ملاذٍ آمنٍ إلى ساحة حربٍ ومجابهة. وبعد أن خسرت القاعدة هناك الأرض، دفعتْ بمقاتليها إلى البحث عن أماكن أخرى تصلح ملاذًا لها، كان اليمن من بينها. كما أنّ الحرب التي شنّتها السّعودية ضدّ فكر القاعدة التّكفيري على أرضها، وتوظيفها رجال دينٍ سلفيّين سعوديّين كان فكرهم هو الذي احتضن أيديولوجيا القاعدة ودفع بها قدمًا، بهدف تفكيك ذلك الفكر؛ هو ما جعل أعوام ما بعد ٢٠٠٣ تشهد هجرةً لمقاتلي القاعدة باتّجاه العراق واليمن. لاسيّما بعد أن استخدمت السّعودية هي الأخرى في حربها على القاعدة سياسة العصا والجزرة مع رجال الدّين، ومع مقاتلي القاعدة. 

وبعد تفكيك مرتَكَزات فعل القاعدة في العراق على يد العراقيّين، الذين احتضنوا مقاتليها في بادئ الأمر ظنًّا منهم أنّهم يقاتلون الاحتلال الأميركي، ولا يتدخّلون في قناعات النّاس الإيمانيّة المتسامحة، ونتيجةً أيضًا للضّغوط التي تعرّضت لها القاعدة في السّعودية والباكستان وأفغانستان؛ أُعلِن في مطلع يناير 2009 عن اندماج تنظيميْ القاعدة في اليمن والمملكة العربيّة السّعودية، وعن تأسيس ما سُمِّي بقاعدة الجهاد في جزيرة العرب، بقيادة اليمني ناصر عبد الكريم الوحيشي (أبو بصير)، ونائبه السّعودي سعيد علي الشّهري (أبو سفيان الأزدي). وحدّد التنظيم الجديد ثلاثة أهدافٍ للحرب التي سيشنّها، وهي: الولايات المتّحدة الأميركيّة،  والعائلة السّعوديّة الحاكمة، ونظام حكم علي عبد الله صالح المتعاون معهما، والمتَّهم باستقدام الكفّار إلى أرض اليمن. 

نشأ هنا نمطٌ فريدٌ من نوعه؛ فالقاعدة موجودةٌ في اليمن وفي الصّومال متمثّلةً في حركة الشّباب. وهناك فلولٌ بدأت في إعادة تنظيم نفسها في العراق، وخلايا نائمة في بلاد الشام. هذه دالة خطّية ضاغطةٌ باتّجاه البحر الأحمر وما يحاذيه والبحر الأبيض المتوسّط. والأهداف ستكون متمثِّلةً في تدمير مصالح الغرب والولايات المتّحدة الأميركيّة تحديدًا في الشّرق الإسلامي. وقد ألحقتْ القاعدةُ من ملاذها اليمني ضرباتٍ مهمّةً وخطيرةً بالولايات المتّحدة الأميركيّة؛ لعلّ أبرزها يتمثّل في الهجوم على المدمِّرة الأميركيّة كول (USS Cole)، والهجوم على السّفارة الأميركيّة في صنعاء في أيلول / سبتمبر 2008. وكان الهدف الثّاني لتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب، هو استهداف العائلة المالكة السّعودية. وقد نجح التّنظيم في اختراقها بعمليّةٍ نوعيّةٍ على مستوى عالٍ من التّخطيط ودقّة التنفيذ؛ تضافرت فيها عوامل متعدّدةٌ متكاملةٌ لتحقيق الهدف. وكان اختراق أمن العائلة المالكة السّعودية، بالدّخول إلى عرين أحد أبرز رموزها، المسؤول عن الملفّ الأمني الذي كلَّف به الأمير نايف ولده الأمير محمد بن نايف، قائد الحملة السّعودية ضدّ القاعدة. وقد كلّفه بتفكيكها؛ واضعًا تحت تصرّفه مواردَ ماليّةً، ورجال دينٍ سلفيّين جنّدهم النّظام ليضطلعوا بما سُمِّي بالمناصحة (وهي مجادلةٌ فقهيّةٌ)، وبإقناع من يعلن توبته بخطإ السّلوك الذي كان قد سلكه. وقد نجح التّنظيم عبر أحد عناصره في التّخطيط لعمليّةٍ تضافرتْ فيها عناصر المخادعة والمباغتة، والدقّة في التصويب نحو الهدف، واكتساب المعرفة والمهارة التّقنيّة العالية في تجهيز وسيلة الاغتيال في جسد هذا الانتحاري عبد الله حسن طالع عسيري[1].

جذبت محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف -على الرّغم من فشلها- اهتمام المراقبين للشّأن اليمني والقاعدة؛ فهي تشير إلى أنّ تنظيمًا على درجةٍ عاليةٍ من الانضباط والمعرفة يتمركز على أرض اليمن.


أولًا: لماذا اليمن؟

ممّا لا شكّ فيه، أنّ اختيار اليمن (وجنوبه بالذّات) موقعًا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، يثير تساؤلاتٍ مهمّة عن الأسباب والمبرِّرات. وفي محاولةٍ لاستقراء هذه الأسباب، يمكننا الإشارة إلى التّالي:

1. يمثّل اليمن بيئةً تتقاطع فيها الجغرافيا والدّيموغرافيا في خلق بؤر تمرّدٍ ذات إمكانيّة بقاءٍ عالية. ولا تنقصنا الأمثلة على ذلك؛ ففي شمال اليمن ظلّت بقايا النّظام الإمامي الذي أطاحت به ثورة أيلول/سبتمبر 1962 تقاتل جيش الثّورة ثماني سنواتٍ. وجرتْ تسوية النّزاع عبر مصالحةٍ وطنيّةٍ في آذار/مارس 1970. وفي الجنوب، اضطُرّت الإدارة الاستعماريّة البريطانية إلى أن تمنح جنوب اليمن استقلاله بعد أربع سنواتٍ من الحرب ضدّ الثوّار (14 تشرين الأوّل/أكتوبر 1963 - 30 تشرين الثاني /نوفمبر 1967). وبعد توحيد شطريْ اليمن، لم يستطع الجيش اليمني القضاء على تمرّد جماعة الحوثي في صعدة؛ على الرّغم من شنّه ستّ حروبٍ ضدّها خلال الفترة 2004 - 2010. وتشير هذه الأمثلة، بشكلٍ واضحٍ إلى قدرة التمرّد على التّمركز في الأطراف اليمنيّة واتّخاذها قاعدة له.

2. خلال الحرب الأهليّة عام 1994، أعلن علي سالم البيض (نائب رئيس مجلس الرئاسة في دولة الوحدة، الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في الجنوب قبل الوحدة) عن انفصال الجنوب، واستعادة جمهوريّة اليمن الدّيمقراطية الشّعبية شخصيّتها الدولية. وعلى الرّغم من هزيمة قوّاته في الحرب؛ فإنّ ممارسات النّخبة الحاكمة المزهوّة بنشوة النّصر، ظلّت تغذّي رغبة قطاعاتٍ من السكّان الجنوبيّين في الانفصال. وقد عبّرت هذه الدّوائر الآن عن مقصدِها من خلال بعض فصائل ما سُمّي بالحراك الجنوبي؛ مستفيدةً -في ذلك- من حالة عدم الاستقرار التي يعيشها اليمن قبل انتهاء حكم الرئيس المخلوع وبعده. وعلى الرّغم من رفض كلّ فصائل الحراك الجنوبي العرْضَ الذي قدّمه ناصر الوحيشي للتّحالف بين القاعدة والحراك الجنوبي[2] ، من خلال تسجيلٍ صوتيٍّ بثّه في 13 أيار/مايو 2009[3]؛ فإنّ النّزاع بين الحراك الجنوبي والحكومة المركزيّة قد وفّر بيئةً ملائمةً لتوسّع القاعدة في المحافظات الجنوبيّة.

3. كان لإمارة جلال بلعيدي -أحد أبناء "أبين" لتنظيم أنصار الشّريعة- دورٌ في تحقيق درجةٍ من قبول أبناء المنطقة للتّنظيم، واحتضانهم له بين ظهرانيهم، ونشوء حالةٍ من الألفة بين التّنظيم وأبناء القبائل. وهنا يمكن إضافة البعد الاجتماعي إلى البعدين الجغرافي والدّيموغرافي.

4. يقع اليمن في منطقةٍ بؤريّةٍ محوريّةٍ، تحمل تهديدًا خطيرًا لأمن القوى الدّوليّة العدوّة للقاعدة. فمضيق باب المندب، وخليج عدن، وحركة القرصنة القائمة فيه وفي الصومال، والقرب من خطوط الملاحة الدولية، ومجاورة منطقة الخليج العربي واحتياطاتها النّفطية والماليّة الهائلة؛ هي كلّها أسبابٌ تدعو إلى اتّخاذ اليمن قاعدةً للجهاد ضدّ قوى "الظّلم الدّولي" المتمثّلة في الولايات المتّحدة الأميركيّة من جهةٍ، والقدرة على ضرب "الحلفاء" الإقليميّين من جهةٍ أخرى، وعلى رأسهم الأسرة الحاكمة السعودية.

5. إنّ القدرة على التمدّد الأفقي عبر توظيف العامل القبلي في اليمن (وفي السعودية)؛ أمرٌ من شأنه أن يرفد القاعدة بالمزيد من الأنصار، وأن يوسّع قاعدة طالبي الاستشهاد. وهو ما يوسّع من ترسانة التسلّح لدى القاعدة. وهنا، نتذكّر حقيقة أنّ الجزء الأعظم من أفراد التّنظيم هم من اليمنيّين والسعوديّين، فضلًا عن اللّاجئين من أفغانستان والباكستان بعد قتل بن لادن وتشظّي التنظيم هناك؛ وهو ما سيعطي التّنظيم القدرة على التمدّد. وقد كانت عمليّة السّبعين في صنعاء مؤخّرًا، مثلًا واضحًا على ذلك. ومن المحتَمَل أن يعطي وجود العنصر السّعودي في "أبين"، قابليّةً للتّغلغل من جديد في الدّاخل السّعودي عن طريق توظيف العامل القَبَليّ؛ لاسيّما، باعتقاد القاعدة وأنصارها تهاوي ادّعاء الأسرة الحاكمة حماية الحرميْن الشّريفين، خصوصًا بعد أن شرّعت أبوابها للأجنبيّ الكافر من جهة، وقادتْ -على حدّ ما أشاعه فكر القاعدة- حملة الصّلح مع العدوّ الصهيوني المغتصب عبر مبادرة الملك عبد الله من جهةٍ أخرى.

6. تضافرت في مجتمع القاعدة الجديد باليمن إثر ترسيخ وجوده في "أبين"، عدّةُ عواملَ مضافة تحبِّذ الحفاظ على هذا الملاذ؛ منها: نجاح التنظيم في تأسيس قاعدةٍ إعلاميّةٍ مؤثّرةٍ، باتت تعرض نتاجها للتّداول (مثل جريدة صدى الملاحم الإلكترونيّة، والإصدارات الفلميّة المختلفة)[4]. وقد رَفَد وصول المقاتلين من الباكستان وأفغانستان قاعدة الجهاد في جزيرة العرب بالمعرفة والتّقانة اللّازميْن لتصنيع الأسلحة والعبوات والأحزمة النّاسفة.


ثانيًا: اللّاعبون

1. القاعدة

من الواضح أنّ اللّاعبين في اليمن متعدّدون، ولكنّهم في كلّ الأحوال فريقان تقف القاعدة في أقصى موقع لهما. وقد تجد حلفاء مرحليّين لها، حتّى لو اختلفت معهم عقائديًّا؛ فالمهمّ هو زعزعة الوضع الدّاخلي، لتتوفّر لها حرّية الحركة والقدرة على الانتشار. ويدخل في هذا الباب بعض شيوخ القبائل الذين قد تدفعهم المصلحة الذّاتيّة أو القبليّة إلى التّحالف مع القاعدة وبعض رجال الدّين، الذين تقترب رؤاهم من فكر القاعدة.

وفي حالة عجز حكومة اليمن عن كبح جماح القاعدة وتفكيكها؛ فإنّ اليمن سيكون مستقبلًا ملاذًا آمنًا، ليس للهاربين من أفغانستان ومنطقة الحدود الأفغانيّة - الباكستانيّة فحسب، بل ولمقاتلي حركة الشّباب إذا ما نجح التّحالف الصومالي الإثيوبي في سحقها. وفي هذه الحالة، سيكون حتميًّا إضافة إثيوبيا إلى طيف الاستهداف الذي قد ينطلق من اليمن؛ لاسيّما أنّ من يدعم حركة الشّباب، هو أريتريا الخصم اللّدود لإثيوبيا.

أمّا الفريق الثاني؛ فيضمّ نظام الحكم اليمني، ونظام الحكم السعودي، والولايات المتّحدة الأميركيّة.


2. الولايات المتّحدة الأميركية

ترى الولايات المتّحدة الأميركيّة في القاعدة عدوّها الأوّل على الصّعيد العالمي؛ خصوصًا بعد الضّربة المُوجِعة التي وُجِّهت إليها نتيجة تفجير برجيْ التّجارة العالميّة وتدميرهما في 11 سبتمبر 2001. وعلى إثر هذه الضّربة؛ أعلنت إدارة بوش عمّا دعته بـ "الحرب ضدّ الإرهاب". وتمخّض عن ذلك احتلال أفغانستان ثمّ العراق. لكنّ هاتين الحربيْن، لم تضعا حدًّا للقاعدة، ولا لامتداداتها الدولية والإقليميّة. فقد جاء في تقريرٍ رُفع إلى لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشّيوخ الأميركي بتاريخ 21 كانون الثاني / يناير 2010؛ أنّ تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب (AQAP)، قد تمكّن من التوسّع، ومن تبنّي وسائل غير تقليديّة في استهداف المصالح الأميركيّة في الشّرق الأوسط وما وراءه. ولعلّ إحدى الوسائل التي أشار إليها التّقرير، هي: الاستفادة من المواطنين والجنود الأميركيّين السّابقين والفارّين والمتحوّلين إلى الإسلام، ومن المحكومين بجرائمَ جنائيّة في تنفيذ أهداف التّنظيم وغاياته. ومن أجل شدّ أولئك إلى اليمن؛ شجّعوهم على الزّواج من فتياتٍ يمنيّاتٍ وتكوين أسر. وقد رصد التّقرير وصول 36 محكومًا أميركيًّا سابقًا إلى اليمن في السّنة السّابقة للتّقرير   [5]. وعلى الرّغم من عجز أيّ واحدٍ من الرّسميّين الأميركيّين التأكيد على أنّ
أولئك قد أُخضعوا لتدريب؛ فإنّ وجود هذه الحالة وحده، يستدعي القلق على حدّ ما جاء في التقرير. ويورد التقرير حقيقةً مفادها بأنّ أهداف القاعدة قصيرة المدى؛ مازالت كما هي لم تتغيّر، وذلك كإسقاط طائرةٍ أو الضّغط لإخراج النّاتو من أفغانستان، أو مهاجمة المصالح الأميركيّة حيثما تمكّنت يدُها من الوصول إليها. لكنّ ما يُقلق الولايات المتّحدة حقيقةً؛ هو تطوّر إستراتيجيّات القاعدة وتكتيكها، واستفادتها من كلّ ما تتيحه الحرب اللّامتناظرة (Asymmetric Warfare) -التي تتقنها القاعدة- من تهديدٍ لمصالح وأمن الولايات المتّحدة وشعبها. لقد كان كشف محاولة عمر فاروق عبد المطلب، الشابّ النّيجيري الذي حاول تفجير طائرةٍ متوجّهةٍ للولايات المتّحدة كان استقلّها من أمستردام ليلة عيد الميلاد (25 كانون الأوّل / ديسمبر 2009)، وذلك عبر عمليّةٍ نظّمها تنظيم القاعدة في اليمن؛ مؤشّرًا خطيرًا في تطوّر الوسائل والأساليب التي تتبعها القاعدة لتنفيذ عملياتها. ويعود الفضل في إفشال هذه العمليّة، إلى والد الشّاب النّيجري الذي توجّه إلى السّفارة الأميركيّة في نيروبي شاكيًا من تشدّد ولده، وتجاوزه المنحة الدّراسية في اليمن وبقائه هناك. فقد دفع ذلك أجهزة الأمن الأميركيّة لتتبّعه وإلقاء القبض عليه، لمّا باشر مرحلة تنفيذ هذه العمليّة المخطَّط لها جيّدًا.

تنظر الولايات المتّحدة الأميركيّة بقلقٍ بالغٍ إلى احتمال تهديد امتداد القاعدة من اليمن إلى السعودية والأردن وسوريا لأمن "إسرائيل"، وما يعنيه هذا التّهديد من عبءٍ إضافيٍّ يُضاف إلى الأعباء التي لديها، ومن اقتراب التنظيم في هذه الحالة من تشكيل الحاصرة الجيوستراتيجية التي سبقت الإشارة إليها من الصومال إلى طوروس، وتزايد قوّة زخمها.

وقد عبّر الرّئيس الأميركي باراك أوباما -في مؤتمرٍ صحفي عقده في أعقاب قمّة النّاتو التي انتظمت في شيكاغو- بعد تنفيذ عمليّة السّبعين في صنعاء، عن قلقه البالغ بشأن ما يحصل. ويشي موقفه ذاك وبوادر قلقٍ أشار إليها متخصّصون أميركيّون في شؤون مكافحة الإرهاب، بأنّ تورّط الولايات المتّحدة في مكافحة القاعدة في اليمن سيتزايد. هذا على الرّغم من تأكيد أوباما أنّ الولايات المتحدة لن تتدخّل بجنودها، وإنّما ستتدخّل بقدراتها وخبرتها وتقانتها وتدريباتها. وهو أمرٌ سيضع على عاتقها مسؤوليّةً متصاعدةً في علاقاتها الأمنيّة مع شركائها في المنطقة؛ ومنهم الحكومة اليمنيّة، والمملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.


3. الحكومة اليمنيّة

إنّ الحكومة اليمنيّة هي الهدف الأوّل للقاعدة في اليمن. فالحكومة تخوض حربًا لا هوادة فيها ضدّ القاعدة؛ وذلك في محاولةٍ منها اجتثاث شأفتها. غير أنّ تمكّن التّنظيم من اختراق القوّات المسلّحة اليمنيّة، وتنفيذه عمليّة السّبعين بواسطة تفجير أحد أفرادها نفسه؛ قد أعاد إلى الأذهان مشاكل اليمن الأمنيّة الثّلاث، وهي: القاعدة، والتمرّد الحوثي في الشمال، والحراك الجنوبي. لكن علينا الآن أن نضيف بعدًا رابعًا، يظلّ قائمًا إلى أن يُحسم أمر النّظام الجديد، ويُفرض الأمن والاستقرار. ويتمثّل في مؤامرات وتدخّلات الرئيس المخلوع ودوائره التي تزيد من عدم الاستقرار. وبالتّوازي مع المشاكل الأمنيّة، توجد مشاكل اجتماعيّةٌ خطيرةٌ؛ على رأسها الفقر، يليه الجفاف والفساد المالي والإداري الموروث، وعدم الانسجام الاجتماعي، والدّعوة السّلفيّة التي يمثّلها الزّنداني وأنصاره. من هنا يتّضح لنا ثقل تركة علي عبد الله صالح. فمحاربة التمرّد والعصيان الحوثي -لو اندلع مرّةً أخرى- (وهو يرسّخ وجوده الآن مستفيدًا من ضعف البنية الأمنيّة لحكومة ما بعد صالح)، ومحاربة الفقر والقاعدة، وتحسين الوضع في الجنوب؛ يستدعي وضعًا سياسيًّا واقتصاديًّا متعافيًا.  وكلّ هذا يجعل إمداد الحكومة اليمنيّة بمعوناتٍ تساعدها على مجابهة التّحديات ضرورة؛ ولكنّ هذا سيجعلها مضطرّةً للاستماع إلى إملاءات المانحين أو شروطهم، وهو أمر سيزيد من تعقيد الواقع السياسي الاجتماعي اليمني.


ثالثًا: موقف النّظام السّابق من القاعدة

أثار الهجوم الدّموي الذي نفّذته القاعدة في ميدان السّبعين، تساؤلاتٍ متعدّدةً عن حقيقة مسؤوليّة قوى التأمين، تلك المكوَّنة أساسًا من الحرس الجمهوري بقيادة نجل الرئيس المخلوع من جهةٍ، والحرس الخاصّ والقوّات الخاصّة لمكافحة الإرهاب؛ وهي كلّها قوّاتٌ لا يزال لأنصار الرّئيس المخلوع دورٌ فيها.

ومن المعروف أنّ الرّئيس المخلوع كان يجيد المناورة، وبدرجاتٍ متميِّزةٍ أظهرها بوضوحٍ طوال الفترة التي تطلّبتها موافقته وإذعانه لمبادرة مجلس التعاون الخليجي لإنهاء الأزمة اليمنية. وتدخل في هذا المجال علاقته بالأميركيّين. فقد نجح في استدراج الولايات المتّحدة الأميركية، ولفترةٍ طويلةٍ تعود إلى أوائل التّسعينيّات من القرن المنصرم. إذ أيّدته الولايات المتّحدة الأميركية في معركته مع خصومه في الحزب الاشتراكي، بقيادة نائبه علي سالم البيض. وقد كان لضرب المدمّرة الأميركيّة كول (USS Cole) في ميناء عدن في 12 تشرين الأوّل / أكتوبر  عام2000 أثرٌ كبيرٌ في تقديم الولايات المتّحدة الأميركية المزيد من العون لنظام الرئيس علي عبد الله صالح. فقد أمدّته بالتقنيات التّدريبية الخاصّة بمكافحة الإرهاب وبالمساعدات الأخرى؛ هذا فضلًا عن السّند السّياسي الذي كانت تسديه إليه كلّما وقع النظام في موقفٍ حرجٍ، مثلما هو الشّأن في حالة التمرّد الحوثي. وحتّى في الثّورة الشّعبية الأخيرة، كان منزل السّفير الأميركي جيرالد فيرستاين في اليمن منتدى تناقش فيه القضايا وتطرح فيه الحلول. وكثيرًا ما كان الرّئيس المخلوع يلوِّح بقضيّة القاعدة والإرهاب؛ كلّما فتر تأييد الولايات المتّحدة له، أو تأخّرت مساعداتها.

وسيساعد الوضع المتردّي المشار إليه القاعدةَ على تعزيز وجودها في اليمن، في حالة عجز الحكومة اليمنيّة عن كبح هذا الوجود وتجفيف منابع دعمه. وقد تدفعها الرّغبة في التقرّب من الحدود السّعودية، إلى التسلّل إلى وادي حضرموت والجوف ومأرب؛ ممّا يعقّد الأمر على إجراءات الحكومة اليمنيّة التي تقاتلها في "أبين"  و"رداح" حاليًّا. إذن نحن هنا إزاء تصاعدٍ في عمليّات القاعدة انطلاقًا من اليمن؛ وذلك في ظلّ حربٍ ستستمرّ الحكومة اليمنيّة في شنِّها ضدّها بمساعدةٍ أميركيّة متزايدةٍ. وسيعمل التورّط الأميركي في حرب الحكومة اليمنيّة ضدّ القاعدة، على زيادة استهداف مصالح الولايات المتّحدة في المنطقة وما وراءها؛ وهو الأمر الذي ينبغي معه زيادة الحذر في الإقليم من هذه المرامي.


الخلاصة

حاولت هذه الورقة تقديم تحليلٍ مكثّفٍ للوضع المعقّد في اليمن، انطلاقًا من العملية التي نجحت القاعدة  بتنفيذها في قلب قوّة النظام اليمني، وفي اختراق قوّاته المسلّحة بشكلٍ لم يحصل سابقًا. ونظرًا إلى أنّ صاحب المصلحة في استقرار اليمن، ليس الحكومة اليمنيّة وحدها، وإنّما الإقليم كلّه، فضلًا عن الولايات المتّحدة والنّاتو، وكلّ من له مصلحةٌ في انتهاء القرصنة وضمان أمن الإبحار؛ فإنّ استقرار الأمن في اليمن وتجريد القاعدة من ملاذها الآمن في "أبين" ومناطق أخرى تطمح لاحتلالها في اليمن، سيكون مطمحًا دوليًّا يمنيًّا. يضفي موقع اليمن وآثاره الجيوستراتيجية على القاعدة وملاذها اليمني خطورةً كبيرة، تستدعي التّعامل معها على أساس تفكيك الدّوافع الدّيموغرافيّة- الجغرافيّة- الاجتماعية الدّاعمة لوضع القاعدة في اليمن. ومن هنا، سيكون للمانحين دورٌ مهمٌّ في بلورة مفهوم مكافحة الإرهاب على صعيدٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ؛ من شأنه أن يُخضع الحكومة اليمنيّة بالتأكيد لإملاءاتٍ لن تسرَّها.


 

[1] انظر: عبد الإله حيدر شايع، "مسيرة تنظيم القاعدة في اليمن"، مأرب بريس، على الرابط:

http://marebpress.net/articles.php?id=5804

[2] مركز كارنجي للشرق الأوسط، "التحدي السياسي للحراك الجنوبي في اليمن"،

 http://carnegie-mec.org/publications/?fa=40652  

[3] انظر عرضًا للتسجيل الصوتي في مأرب برس:

 http://marebpress.net/news_details.php?sid=16554&lng=arabic

[4] انظر عبد الله حيدر شايع، مرجع سبق ذكره.

[5] Al-Qaida in Yemen and Somalia, A Ticking Bomb, A report to the Committee on foreign relations USA Senate, (January, 21,2010)

http://www.google.com.qa/url?sa=t&rct=j&q=al%20qaeda%20in%20yemen%20history&source=web&cd=7&ved=0CFsQFjAG&url=http%3A%2F%2Fwww.foreign.senate.gov%2Fimo%2Fmedia%2Fdoc%2FYemen.pdf&ei=q5K8T_fHK8fUrQfkotzJDQ&usg=AFQjCNGL40zE4V0C-_BWU4X6xj760khlGA