العنوان هنا
تقييم حالة 29 مايو ، 2023

الانتخابات التركية 2023: سر أردوغان أم سر المجتمع التركي؟

عماد قدورة

مدير قسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط، وعلى الماجستير في الدراسات الاستراتيجية والدفاعية. تتركز اهتماماته البحثية حول الجيوبولتكس، والعلاقات الدولية، والدراسات التركية. نُشرت له كتب ودراسات عديدة، آخرها كتاب: السياسة الخارجية التركية: الاتجاهات، التحالفات المرنة، سياسة القوة" (المركز العربي للأبحاث، 2021)؛ وكتاب:

The Rise of the GCC and Turkey: Convergent and Divergent Regional Agendas (New Castle: Cambridge Scholars Publishing, 2021).


انتخابات عام 2023 هي الاستحقاق التصويتي السادس عشر الذي يفوز به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في الفترة 2002-2023. بمعنى أن معدل التصويت جرى كل 1.3 سنة تقريبًا، على شكل استفتاءات دستورية، أو انتخابات محلية، أو برلمانية، أو رئاسية (وأحيانًا الأخيرتان معًا). في هذه الفترة، كان التصويت اختبارًا يقيس نتائج الواقع المعيش؛ على المستوى الاقتصادي الذي شهد نهوضًا وصعوبات، وكذلك على المستويَين السياسي والاجتماعي، فقد حصلت تغيرات جذرية وأحداث جِسام في تركيا؛ منها: تعديلات دستورية لم تُبقِ من نظام الوصاية الكمالية والعسكرية إلا القليل، وانقلابات، وتظاهرات، وتحالفات وانفصامها، وإعادة تشكّل أحزاب وائتلافات، وكوارث طبيعية، وحرب محلية، وصراعات إقليمية ودولية، واستقبال لاجئين بكثافة، واستقطاب قومي حادّ، ثمّ معارضة منسّقة بين أطيافٍ استحال جمعها من قبل. بهذا، لم يبقَ أيُ نوعٍ من الفرص والأزمات إلا مرت به البلاد في هذين العقدين اللذين تجددت فيهما الثقة أو التفويض لأردوغان وحزبه.

ومع ذلك، فالاختبار القادم (2023-2028) يبدو الأكثر جدية؛ إذ سيكون استفتاءً على استكمال وعود المئوية الأولى للجمهورية، ووضع أساسات مئوية ثانية أهمها دستورٌ جديد، وتصعيد خليفة أردوغان، وإثبات القدرة على تجاوز الصعوبات الاقتصادية، وإقناع الجيل الجديد الذي لم يجرّب حكمًا آخر بأن التغيير كامنٌ في الإنجاز لا في تعليق الآمال على حزب أو آخر. 

في ضوء هذه الانتصارات المتوالية، هل كان هذا سر أردوغان بذاته وسياساته وبرامجه، أو سر التوازن الحرج بين تيارات المجتمع التركي الأساسية الثلاثة السائدة: الإسلاميون والمحافظون، والعلمانيون، واليسار الكردي، والتكيف مع الكتل الأخرى المُرجِّحة خارج هذه التيارات؟ وفي الوقت نفسه، هل كان الانتصار الأخير بسبب "كاريزمية" أردوغان حتى يسود اعتقاد بأنه لا يمكن هزيمته، أو أنه قصورٌ في المعارضة رغم أن حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كاليشدار أوغلو استطاع إعادة تشكيل الحزب ليكون أكثر تنوعًا وانفتاحًا، وحشد أكبر عدد من الأحزاب واستقطب كل المعارضين والمتضررين من حكم أردوغان في تحالفٍ عريض لم يسبق له مثيل في تاريخ الجمهورية؟ 

أولًا: هل هو سر أردوغان؟

أبرزت شخصية أردوغان وتأثيره في السياسة التركية المعاصرة الكثير من الجدل في العقود الثلاثة الماضية، منذ أن أصبح رئيسًا لبلدية إسطنبول الكبرى عام 1994. فقد نجح بشكل لافت خلال فترة وجيزة، ثمّ تنقّل في المسؤوليات القيادية وصولًا إلى رئاسة الجمهورية بصلاحيات كاملة؛ ما أثر جوهريًا في المجتمع وتوجهات السياسة، وغيّر وزن تركيا ومكانتها. وقد تركّز الجدل حوله بسبب طول بقائه في السلطة، ونجاحه البارز في تحريك الجمهور التركي وحشده خلفه، رغم محاولات خصومه المتنوعة في إبعاده أو إضعافه، ورغم انفضاض شخصيات كبيرة وتيارات حليفة وقوية من حوله، وحتى رغم ائتلاف خصومه وحلفائه السابقين في انتخابات 2023 في "تحالف الأمة" العريض الذي استهدف أساسًا التخلص من شخصه ونفوذه ورمزيته.

إجمالًا، ثمة سمات شخصية دفعت أردوغان إلى المقدمة، ومنها، على سبيل المثال، اعتقاده الجازم بأن في إمكانه التأثير فيما يحدث في البيئة السياسية من حوله، ما جعله أكثر اهتمامًا ونشاطًا وانخراطًا في عملية صنع السياسة؛ واعتقاده بالقدرة على السيطرة على الأحداث، ما أدى إلى توجهه الاستباقي وتقديم حلول ووعود يُلزم نفسه بها؛ وإدراكه بأن الحواجز التي تحول دون العمل يمكن التغلب عليها، ما جعله مصرًّا على الانتصار؛ والشعور العام بالشك في دوافع الآخرين وأفعالهم، أي معارضي توجهه وبرنامجه داخليًا وخارجيًا؛ ما جعله يستجيب لسيناريوهات بديلة ويتكيّف معها بسرعة. ولعل السمة الأخيرة قد تكرست عنده مؤخرًا بسبب كثرة الشخصيات والحلفاء في حزبه وخارجه ممن اختلفوا معه، إلى حدّ الصدام أحيانًا مثل حالة حركة فتح الله غولن، أو تأسيس أحزاب تنافسه على قاعدته الانتخابية المحافظة مثل "المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم"، فضلًا عن الضغوط والجهود والتصريحات الخارجية، خاصة من الغرب، التي تشكك في سياسته وتطمح في تغلب معارضيه عليه.

من أجل تحدي الأمر الواقع المترسّخ والمعقّد الذي كانت عليه تركيا، اعتمد أردوغان عندما وصل إلى الحكم على دعم قاعدته الانتخابية الأساسية، وعلى التكيّف مع مطالب جمهور الناخبين المهتمين بالتغيير سواء على مستوى الطموحات القومية والإصلاحات السياسية والديمقراطية أو على مستوى تغيير الواقع الاقتصادي وتحسين الخدمات العامة. فمن دون فهم هذا الجمهور ومرونة التكيّف مع تفضيلاته ومن ثمّ التزوّد بدعمه، ما كان لأردوغان كسر العديد من المحظورات الكمالية وتجاوز مفاصل الدولة العميقة التي عُرفت بها تركيا. ولا شك في أن أسلوبه الخطابي الحماسي ساعده في استقطاب الجمهور ومواجهة الخصوم والمنافسين.

اليوم، بلغ أردوغان المرحلة الأخيرة في مسيرته، وكان مصرًا على الفوز في انتخابات 2023 لرمزيتها التي طالما راهنت رؤية حزبه السياسية عليها، فلم تخلُ برامج أو خطابات انتخابية من الإشارة إلى هذه السنة، التي تُمثل أيضًا بدايةً لمئوية ثانية للجمهورية. ففضلًا عن أن كثيرًا من مشروعاته الكبرى بدأت ملامحها بالظهور - كالغاز الطبيعي والنفط، ومصانع الطاقة النووية، والسيارة التركية الخالصة، والطائرة المقاتلة، وقناة إسطنبول، وخفض معدلات الفائدة، وغير ذلك - فإن رمزية أن تبدأ المئوية الثانية في عهده تبدو مهمة جدًا بالنسبة إليه، حيث طموحه في وضع أساسات جمهورية جديدة؛ تستند إلى دستور جديد متحرر مما تبقى من نصوص وضوابط الكمالية الصارمة، وإلى استكمال الاستقلال الاستراتيجي في الدفاع والاقتصاد والطاقة، وتبوّء المرتبة العاشرة بين اقتصادات العالم. 

ثانيًا: كاليشدار أوغلو وفسيفساء المعارضة 

هل كان كمال كاليشدار أوغلو مُلهِمًا أيضًا؟ فرغم خسارة الانتخابات، يبدو التساؤل مشروعًا في ضوء تصويت نحو نصف المجتمع التركي له (نحو 47 في المئة[1])، وهي نسبة وصل إليها بعد تسويات داخل حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعمه، وبعد مفاوضات استمرت نحو عامين مع أحزاب ذات خلفيات أيديولوجية وقومية وسياسية مختلفة ومتناقضة؛ وهي أحزاب الطاولة السداسية، فضلًا عن الحزب السابع الذي ائتلف معه ضمنيًا، وهو حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.

كاليشدار أوغلو سياسي ذو خبرة طويلة أيضًا، فقد انتُخب نائبًا عن حزب الشعب الجمهوري في عام 2002، وهو العام نفسه الذي تولى فيه حزب العدالة والتنمية السلطة. لكن على عكس تجربة أردوغان، لم يفز حزبه في أي انتخابات منذ تولى رئاسته في عام 2010، سوى في بعض البلديات الكبرى، وأهمها أنقرة وإسطنبول في عام 2019. اكتسب سمعة بين مؤيديه وأنصاره بسبب عمله لسنوات موظفًا مدنيًا في الهيئات المالية التركية، وبخاصة، بحسب هؤلاء، جهوده في القضاء على الفساد بصفته مديرًا لمؤسسة الضمان الاجتماعي. كما اكتسب احترامًا داخل حزبه بسبب هدوئه وتعامله بتواضع، حيث غالبًا ما يُشبَّه بالزعيم الهندي المهاتما غاندي، فيطلق عليه مؤيدوه لقب "غاندي كمال". ومن أهم إنجازاته: التحولات داخل حزب الشعب الجمهوري؛ إذ قدم فيه شخصيات دينية ونشطاء أكراد، ليثبت للمجتمع التركي أن هذا الحزب التاريخي، الذي تأسس في عام 1923، قد تغيّر وضمّ كل الأطياف المختلفة في البلاد، ومن ذلك مثلًا مخاطبة الناخبين حول قضايا حساسة للغاية مثل كونه كرديًا أو من أقلية علوية دون الاضطرار إلى إخفاء ذلك، وأنه صنع السلام مع الإسلاميين[2]، سواء بحضور إفطار رمضان، أو إظهار فتاة محجبة إلى جانبه في الملصق الأساسي لحملته الانتخابية، أو ضم ثلاثة أحزاب ذات جذور إسلامية إلى تحالف الأمة، وهي السعادة برئاسة تمل كارامولا أوغلو، والمستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو، والتقدم والديمقراطية برئاسة علي باباجان.

رغم ذلك، لم تُظهر مفاوضات الوصول إلى ترشيح كاليشدار أوغلو في الانتخابات الأخيرة أنه يتمتع بكاريزما مُلهِمة؛ إذ اعترض على ترشّحه للرئاسة أعضاء بارزون داخل حزبه، مثل رئيسي بلديتي أنقرة منصور يافاش وإسطنبول أكرم إمام أوغلو. وتعثرت المفاوضات طوال سنتين مع حلفائه في الطاولة السداسية، واعترضت على ترشّحه زعيمة حزب الجيد ميرال أكشنار التي انسحبت ثمّ عادت. وفضلًا عن ذلك، كانت الموافقة على ترشّحه مثقلة بشروط لا تقبلها شخصية قيادية كاريزمية؛ مثل إلزامه بتعيين سبعة نواب له في حال فوزه بالرئاسة. وربما، جدلًا، يمكن تفهّم اشتراط الأحزاب الخمسة أن يُمثّل نائب رئيس كلًا منها، لكنّ عدم الثقة وعدم الاتفاق على شخصه كانا واضحين من اشتراط عضوي حزبه، يافاش وإمام أوغلو، أن يكونا نائبيه أيضًا.

إذًا، على مستوى القيادة، يبدو أن المعارضة لم توفّق في العثور على شخصية كاريزمية يمكن أن يلتف حولها الأتراك، أو تُنافس أردوغان. فلا مفاوضات ترشّح كاليشدار أوغلو أظهرت ميزات فردية، ولا محاولته استقطاب أصوات المحافظين، عبر انضمام ثلاثة أحزاب ذات جذور إسلامية لتحالفه وإظهار فتاة محجبة إلى جانبه، قد محت إرث حزبه الطويل في مجابهة المظاهر الإسلامية، وبخاصة فرض القيود على المحجبات والتنكيل بهنّ سياسيًا واجتماعيًا وقانونيًا[3]، ولا انحيازه إلى ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي الكردي قد أظهره قائدًا وحدويًا، حيث أدى ذلك إلى حشد قوميين أتراك مترددين خلف أردوغان ردًا على التحالف مع من يُنظر إليهم أن لهم صلات بحزب العمال الكردستاني المتهم بالإرهاب ومحاولة الانفصال. بهذا، لا يبدو أن كاليشدار أوغلو وحّد جميع أطياف المجتمع التركي المختلفة، بحسب شعاراته ووعوده، وإنما ظهر على الصعيد الشخصي غير موفّق في اختياراته، ولا موثوق من حلفائه وأعضاء حزبه كي يُترك ليحكم وحده بوصفه رئيسًا منتخبًا ومفوضًا من الشعب لو فاز.

ثالثًا: أم إنه سر المجتمع التركي؟

المجتمع التركي متنوعٌ ومُستقطَبٌ بطبيعته، وتتمحور الكتلة الرئيسة منه حول ثلاثة تيارات سائدة. وما بين هذه التيارات، وعلى هوامشها أيضًا، توجد كتلٌ أصغر؛ تكون أحيانًا مرجِّحة، لكنها لا تقوى بذاتها ومفردها وحجمها المحدود نسبيًا على تشكيل السياسة ولا قيادة حكومة. 

على أرض الواقع، تُظهر نسب التمثيل شبه الثابتة للانتخابات، منذ عقدين على الأقل (2002-2023)، التيارات السائدة في المجتمع، وهي: التيار الإسلامي والمحافظ، والتيار العلماني الكمالي، والتيار الكردي اليساري. فحزب العدالة والتنمية الذي يمثل أغلبية التيار الأول بدأ في عام 2002 بالفوز بنسبة 34.4 في المئة، وانتهى في عام 2023 بنسبة قريبة هي 35.6 في المئة؛ بمعنى أن نسبة تمثيله لا تقل عن ذلك رغم أنه حصل أحيانًا على نسب أعلى وصلت إلى 49 في المئة. أما حزب الشعب الجمهوري، زعيم التيار العلماني الكمالي، فكان تمثيله بنسبة 19.4 و25.3 في المئة في الفترة نفسها. ولا يزال "اليسار الأخضر" ممثل حزب الشعوب الديمقراطي الحالي ووريث حزب السلام والديمقراطية الكردي يراوح بين 11 إلى 9 في المئة تقريبًا.

إذا جمعنا هذه النسب معًا، فسيكون معظمُ الشعب التركي (نحو 70 في المئة) متمسكًا بهذه التيارات الأساسية مهما كانت الظروف. وكلُ تيارٍ منها يمثل القاعدة الانتخابية الصلبة الموالية لأحد تلك الأحزاب الثلاثة؛ بمعنى أن إخفاقات حزب الشعب الجمهوري المتوالية لم تجعل جمهور قاعدته الانتخابية يبتعدون عنه، فهم بمنزلة أعضاء ولو لم يكن كثيرون منهم مسجلين رسميًا فيه؛ فالحزب يمثل واجهتهم السياسية واتجاههم الأيديولوجي، ولو أخفق مرات ومرات. وينطبق الأمر نفسه على حزب الشعوب الديمقراطي. ولا يشذّ عن ذلك حزب العدالة والتنمية؛ إذ لم تنفض قاعدته الانتخابية الأساسية من حوله، ولم تؤثر في ولائها الصعوبات الاقتصادية التي واجهتها البلاد مؤخرًا.

تؤكد هذه النتائج الممتدة على عقدين، والمتعلقة بانتخابات عديدة، أن الاستقطاب في المجتمع التركي قائمٌ بالفعل، وصار نمطًا مكرّسًا بعد مرور 100 عام على تأسيس كمال أتاتورك الجمهورية، ولكن مع تبدّل موقعي التيارين الكبيرين؛ أي إن الكمالية العلمانية تحولت من الحكم إلى المعارضة، وتحوّل الإسلاميون المحافظون من هامش الحياة السياسية إلى مركزها.

رغم ذلك، فالنسبة المتبقية من المجتمع، نحو 30 في المئة، هي الأكثر عرضةً للاستقطاب؛ إذ تتنافس التيارات الأساسية السائدة على هذه النسبة المهمة من أجل تعزيز حظوظها الانتخابية وقوتها. وتتكون هذه الشريحة من فئات كثيرة، لكن أكبرها ثلاثة أطراف نشهد تأثيرًا ملموسًا لها، وبخاصة في الانتخابات الأخيرة، وهي: 1. القوميون، 2. الأحزاب الصغيرة ذات الجذور الإسلامية المنفتحة على التحالف مع المعارضة، 3. الأكراد خارج التيار اليساري الأساسي.

1. القوميون الأتراك

يمثل القوميون شريحة واسعة في المجتمع التركي، ويشكلون التيار الرابع الذي يمثّل معدل ثقله الانتخابي المنظم نحو 20 في المئة تقريبًا؛ إذ يتركز توزيعهم على الحركات والأحزاب القومية الناشطة اليوم مثل حزب الحركة القومية، والحزب الجيد، وحزب ظفر، وحزب الاتحاد الكبير، وحزب وطن. لكن ليس كلُ القوميين منتمين بالضرورة إلى الأحزاب القومية، فهم يتوزعون أيضًا على أحزاب كبيرة مثل العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري وغيرهما، لأن القومية لا تتعارض بالضرورة مع التوجهات الأيديولوجية للتيارات الأساسية في المجتمع التركي.

كان حزب الحركة القومية هو الوعاء الأكبر للقوميين الأتراك؛ إذ كان يعد تيارًا سياسيًا بارزًا، وحافظ على نسبة تمثيل راوحت بين 12 و16 في المئة، في الفترة 2007-2015. لكنه انقسم إلى نصفين تقريبًا بعد خطوات تقارب التيار الأساسي بزعامة دولت بهجلي مع أردوغان وحزب العدالة والتنمية تدريجيًا منذ عام 2015[4]. فبعد تأييد بهجلي للاستفتاء على الدستور في عام 2017، انشقت ميرال أكشنار وأسست الحزب الجيد، وسعت للتحالف مع حزب الشعب الجمهوري. بهذا انقسم القوميون بين ائتلاف الجمهور وتحالف الأمة في انتخابات 2018. وحافظ كلٌ من بهجلي وأكشنار على نسبة تمثيل الحركة القومية نفسها لكن مناصفة بينهما تقريبًا؛ ففي انتخابات عام 2023 مثلًا حصل حزب الحركة القومية على نحو 10 في المئة، بينما حصل حزب الجيد على نسبة قريبة وهي 9.7 في المئة. أما الأحزاب القومية الأخرى، مثل الاتحاد الكبير (1 في المئة)، وظفر (2.2 في المئة)، وغيرهما، فنسب تمثيلها ضئيلة.

ويمكن ملاحظة توزّع التيار القومي وانقسامه من خلال أحدث مثال، وهو الانقسام داخل حزب ظفر، حيث أعلن مرشح الحزب في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية 2023 سنان أوغان دعم الرئيس أردوغان في الجولة الثانية، بينما دعا رئيس الحزب نفسه أوميت أوزداغ للتصويت لصالح كاليشدار أوغلو. ومع أن التحليلات ركزت قبل الجولة الثانية على أن القوميين هم قطب الرحى أو "صانعو الملوك" في تحديد الفائز في الجولة الثانية، فإن هذا يؤكد على أنهم كتلة سياسية مساعدة وليست رئيسة؛ أي إنها قد ترجح كفة طرف كبير عند تقارب الأصوات.

صحيحٌ أن القوميين مؤثرون في الانتخابات وفي سياسات حزب العدالة والتنمية وحكوماته، لأن جزءًا كبيرًا منهم انضم إلى ائتلاف الجمهور، لكنّ ذلك لا يبرر تضخيم تأثيرهم أو تفسير السياسات بأنها خاضعة لأجندتهم. فأردوغان وحزبه لديهم أيضًا أجندة قومية تظهر بوضوح في السياسة الخارجية، وتجاه حزب العمال الكردستاني، وأحيانًا تجاه اللاجئين. ومع ذلك، لا يعد أردوغان قوميًا، بل يعرّف نفسه أكثر بأنه فرد من الأمة التي يجمعها الإسلام. ومن هنا، يختلف عن القوميين في أنه ينطلق من الشعور الإسلامي داخليًا أيضًا وليس القومي التركي فحسب.

وقد حضرت مسألة اللاجئين السوريين على نحو مبالغ فيه في سياق التنافس على أصوات القوميين في الانتخابات الأخيرة. وعلى العكس مما استنتجه كثيرون بأن القوميين هم الذين سيحددون السياسات في المستقبل بسبب حاجة الأحزاب الكبيرة إلى أصواتهم المرجّحة، فإنّ هامشية مسألة اللاجئين دلّت على أن القوميين الذين اتخذوا منها قضية مركزية مشتتون ويقعون على هامش التيارات الرئيسة. فمسألة اللاجئين هي قضية واحدة ضمن قضايا أخرى كثيرة. مع ذلك، حاول كاليشدار أوغلو استغلال هذه المسألة وحوّلها انتخابيًا إلى قضية مركزية للحصول على أصوات القوميين؛ فتعهد في حملته بإعادة 3.5 ملايين لاجئ سوري إلى بلادهم في غضون عامين[5]، وهو تعهدٌ يصعب تطبيقه بهذه الطريقة المتسرعة وغير الواقعية، والتي ستنطوي على العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، فضلًا عن أنّ كثيرًا من اللاجئين أصبحوا جزءًا من دورة الاقتصاد التركي، وتحوّلوا إلى مستثمرين أو موظفين مهرة أو أيدي عاملة ضرورية.

2. تحالف الإسلاميين والعلمانيين

هل يقوّض ائتلافُ الإسلاميين والعلمانيين النمطَ المعتاد في المجتمع التركي "علماني مقابل إسلامي؟" في الواقع، أوضحت التحالفات الرئيسة في انتخابات 2023، وبخاصة "تحالف الأمة"، انفتاح العلمانيين على بعض الإسلاميين وإمكانية تبني بعض مطالبهم، مثل الحريات الدينية، ومنها التسامح مع مسألة الحجاب. والمثال الواضح على ذلك هو انضمام حزب السعادة (وريث حركة "الرؤية الوطنية" لنجم الدين أربكان)، وحزب المستقبل وحزب التقدم والديمقراطية إلى تحالف الأمة إلى جانب حزب الشعب الجمهوري رافع لواء العلمانية الكمالية. من جهة أخرى، ضمّ ائتلاف الجمهور إلى جانب حزب العدالة والتنمية قطاعًا واسعًا من القوميين العلمانيين.

رغم أن هذه الظاهرة تدل على الانفتاح في الحياة السياسية التركية، فإن الاختلافات الأيديولوجية الجوهرية بين التيارين الرئيسَين ليست في طريقها إلى الزوال في الواقع، فجوهر الاستقطاب السياسي كامنٌ في الاختلاف بين التيارين الأساسيين العلماني والإسلامي في المجتمع التركي؛ أي بين الحزبين الرئيسَين والممثلين لهذين التيارين، وهما العدالة والتنمية والشعب الجمهوري. أما تحالفا "الجمهور" و"الأمة" فهما يتمحوران حول هذين التيارين والحزبين الفاعلين. كما أن ما تبقى من قوميين وإسلاميين وأكراد، وهم قوى مساعدة، يحاول كلُ تيارٍ أساسي استقطاب أكبر عدد منهم. وفي المقابل، فإن هذه القوى المساعدة ليست خلوًا من المصالح والقضايا الخاصة بها، فهي تسعى إلى تحقيق مطالبها ومصالحها عبر المساومة والتسويات مع التيارات الأساسية السائدة للحصول على أكبر قدر من المكاسب. وهذه ظاهرة طبيعية في المجتمعات الديمقراطية، لا تعني الانقسام والتفكك بالضرورة بقدر ما تعني التنوع حتى فيما بين أطياف التيار الواحد، فلا يعقل مثلًا أن نجد جميع الإسلاميين والمحافظين متفقين على هدف أو سياسة أو شخصية واحدة، وكذلك الأمر فيما بين العلمانيين أو الأكراد.

3. الأكراد: يسار ومحافظون، معارضة وموالاة

ينتشر الأكراد في جميع المحافظات التركية، لكنهم يتركزون في إحدى عشرة محافظة في مناطق جنوب شرقي البلاد. ونظرًا إلى أنهم يشكلون الأكثرية الإثنية في هذه المناطق، فقد مثّلتهم أحزاب كردية في الحياة السياسية بصفة أساسية، مثل حزب السلام والديمقراطية الكردي حتى عام 2013، وورثه حزب الشعوب الديمقراطي الحالي، الذي دخل انتخابات عام 2023 باسم "اليسار الأخضر" وضمن قائمة الحرية والعمل، تحسبًا لاحتمال حظره في المرحلة المقبلة بسبب اتهامه بصلات مع حزب العمال الكردستاني. وفي هذه الانتخابات، نسّق هذا الحزب مع تحالف الأمة ضمنيًا لهزيمة ائتلاف الجمهور والرئيس أردوغان.

أثبتت الانتخابات الأخيرة أن المجتمع التركي مكونٌ فعلًا من ثلاثة تيارات أساسية سائدة؛ فالأكراد هم التيار المهيمن في جنوب شرقي البلاد، ويعبّر نمط تصويتهم في الانتخابات عن تأييدهم للحزب الذي يمثلهم إثنيًا. ففي الانتخابات البرلمانية صوتت الكتلة الأكبر منهم بنحو 48 في المئة لقائمة الحرية والعمل، فضلًا عن منحهم تحالف الأمة المعارض نحو 12 في المئة. وظهر هذا التحالف المعارض في الانتخابات الرئاسية موحدًا في دعم كاليشدار أوغلو بنسبة 70 في المئة.

لكن حزب العدالة والتنمية الذي يمثل التيار الأوسع من الإسلاميين والمحافظين استطاع أن ينافس في المناطق الكردية، حيث حصل تحالف الجمهور الذي يقوده على نحو 37 في المئة في الانتخابات البرلمانية لعام 2023، وهذه النسبة تكاد تكون شبه ثابتة، فقد حصل على النسبة نفسها في انتخابات عام 2018. ومع أن هذه النسبة لا تعبّر كلها بالضرورة عن تأييد حزب العدالة والتنمية أو الإسلاميين والمحافظين.

معدل التصويت في المناطق الكردية لائتلاف الجمهور والمعارضة في الانتخابات البرلمانية

المحافظة

ائتلاف الجمهور

2018

ائتلاف الجمهور

2023

المعارضة (تحالف الأمة، والعمل والحرية) 2023

تحالف الأمة

2023

تحالف العمل والحرية 2023

بينغول

61.2

63.3

31.8

7.8

24

قارص

45.1

38.1

59.3

31.4

27.9

بتليس

48.9

44

53.2

13

40.2

إغدير

44.6

40.7

56.7

13.2

43.5

موش

36.1

41.4

56.1

5.5

50.6

سيرت

42.5

41.4

56

9.3

46.7

فان

34.8

35.2

61.6

8.7

52.9

ديار بكر

22.9

26.5

71.4

10.5

60.9

آغري

31.3

30.2

67.4

12.9

54.5

هكاري

23.8

25.9

69.6

7.2

62.4

شرناق

22.2

24.7

72.6

9.9

62.7

المعدل

37.58

37.4

59.60

11.76

47.84

المصدر: من إعداد الباحث، استنادًا إلى الأرقام الرسمية.


يعود الحضور القوي لحزب العدالة والتنمية في المناطق الكردية إلى عدة أسباب، أهمها: أولًا، وجود نسبة كبيرة من الأكراد هم أيضًا محافظون، ومنهم تيار إسلامي واسع، وهناك الكثير منهم انضموا إلى حزب العدالة والتنمية، ومنهم بعض مؤسسي الحزب وقادته. لكن لا تظهر التقديرات مدى وجود الأعضاء الأكراد ونفوذهم داخل الحزب؛ لأن العضوية فيه تقوم على أساس المواطنة وليس الانتماء القومي. ومع ذلك، فمنهم من وصل إلى مراكز متقدمة جدًا في الحكومة؛ مثل بشير أتالاي، أحد مؤسسي الحزب الذي كان نائبًا لرئيس الوزراء سابقًا، وهاكان فيدان رئيس الاستخبارات العسكرية حاليًا. ثانيًا، هناك تأييد للحزب بسبب توسيعه المشاريع التنموية ورفع مستوى المعيشة وتطوير البنية التحتية منذ عام 2002؛ ما انعكس على تحسّن الأحوال المعيشية ورفع عدد الوظائف فيها. ثالثًا، تقارب حزب العدالة والتنمية مع أحزاب كردية محافظة مثل "حزب الدعوة الحرة" (هدى بار)، أو استقطاب حركات تطمح إلى أن تصبح حزبًا سياسيًا مثل حركة أزادي، أو كيانات لا تؤمن بالعمل السياسي مثل "مدرسة الزهراء"، لكنها قد تفيده في التأثير في المحافظين المتدينين. وقد برز في انتخابات 2023 دور حزب هدى بار تحديدًا، بسبب دعمه علنًا لائتلاف الجمهور، وهو حزب صغير تأسس عام 2012. ورغم حجمه الصغير، فإن أوساط حزب العدالة والتنمية ترى أنه يمكنه المساهمة في المنافسة من خلال خطابه الإسلامي واختلافه الجذري مع حزبي العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطي، حيث يتخذ هدى بار موقفًا صارمًا إزاء محاولات هذين الحزبين اليساريين ادعاء تمثيل الأكراد، ويسعى لتجريدهما من ذلك.

رابعًا: سرّهما معًا!

هل ما سبق يعني أن المجتمع التركي تُلهمه شخصيات كاريزمية؛ ما يُفسّر تصدُّر أردوغان وانتصاراته المتوالية منذ عام 2002، أو أن انقسام المجتمع إلى ثلاثة تيارات أساسية سائدة هو الذي ساهم في فوزه بسبب تمثيل حزب العدالة والتنمية للتيار الأكبر، وهو الإسلامي والمحافظ، الذي شكل قاعدة انتخابية متماسكة لم تنخفض نسبتها مطلقًا عن 34.4 في المئة في العقدين الماضيين؟

لا تخلو السياسة من تأثير العامل الشخصي، الذي يُسمّى أحيانًا الكاريزما أو قوة الشخصية، فالقدرة البشرية والإرادة الفردية تعطي معنًى وتأثيرًا داخل الدولة وخارجها. ومع ذلك، من الخطأ افتراض أن القادة هم الذين يصنعون كل الفرق في السياسة[6]؛ إذ تظل المجتمعات التي يعملون فيها والبيئة الخارجية ذات تأثير أيضًا.

شخصية أردوغان كاريزمية، وهي استثنائية في السياسة التركية، حيث لم يحظَ أحدٌ بهذه المكانة في عهد الجمهورية إلا مؤسسها كمال أتاتورك. ويعود تماسك التيار الإسلامي والمحافظ وتمحوره حول أردوغان إلى سماته الشخصية التي أسلفنا الحديث عنها، ولأنه حقق إنجازات مشهودة لا تخطئها عين. ونظرًا إلى قوة شخصيته، زادت حدة الاستقطاب لدى معارضيه وشكلوا أكبر تحالف متنوع ومتناقض تشهده الجمهورية من أجل إنهاء مسيرته هو شخصيًا. فمن دون هذا الحشد، لا يمكن لأي تيار أساسي بمفرده، ولا لمجموعة من الأحزاب الأصغر، هزيمته. ورغم هذا التحالف الذي ضمّ أقصى اليمين وأقصى اليسار والعلمانيين والإسلاميين، فقد تمكن أردوغان من تجاوزه، رغم أن التحدي كان حرجًا.

ولم يكن لأردوغان أن يتخطى خصومه في انتخابات متعاقبة إلا بوجود تيار واسع قائم بذاته وكامن في نسيج المجتمع التركي وطبيعته. ويشكل هذا التيار الإسلامي والمحافظ قاعدة انتخابية صلبة تمثل نحو ثلث الناخبين عامة. ولا يعني وجود تيار "جاهز" مثل هذا أن تصويته يكون آليًا لأردوغان أو لحزبه، بل إن هذا التيار، وغيره من التيارات الكبيرة الأخرى، واعٍ على نحو كافٍ كي يختار ممثليه ويتعرف إلى من ينجزون المهمة. فهناك عدة شخصيات وأحزاب إسلامية أخرى كان يمكن أن تنافس أردوغان وحزبه على جمهوره المحافظ. لكن من الواضح أن دور أردوغان وحزبه كان حاسمًا أيضًا في حصولهما على ثقة هذه الشريحة واستمرار تأييدها. بناءً عليه، فوجود العنصرين (الشريحة المجتمعية والشخصية الفذة) ضروري، والتأثير متبادل. 

في الجهة المقابلة، فإن ما افتقدته المعارضة طوال العقدين الماضيين هو شخصية فذة يمكن أن يتمحور حولها حزب الشعب الجمهوري، قائد التيار العلماني الكمالي الأساسي الذي يمثل عادة نحو 28 في المئة من مجتمع الناخبين. ورغم أن كاليشدار أوغلو استطاع استقطاب دعم ستة أحزاب أخرى إلى جانب حزبه، فإنه عانى عدة تحديات في أثناء المفاوضات والتسويات مع هذه الأحزاب وحتى داخل حزبه؛ ما أضعف موقفه. إذًا، على مستوى القيادة، يبدو أن المعارضة لم توفّق في الاتفاق مبكرًا على شخصية فذة كي تدعمها وتروج لها لتكون نموذجًا لرجل دولة يلتف حوله الأتراك. وبدلًا من ذلك، ظلت نحو سنتين تركز على التنافس فيما بين قادتها، في الوقت الذي يراقب الشعب الانتقادات المتبادلة فيما بينهم.

بناءً عليه، يكمن سر تواصل انتصارات أردوغان وحزب العدالة والتنمية في شخصية أردوغان نفسه وفي الإنجازات المعروفة لحكومات حزبه في العقدين الماضيين، وفي وجود تيار كبير في المجتمع التركي ظل داعمًا ومواليًا. كما يكمن النجاح في القدرة على استقطاب المخالفين أيديولوجيًا وسياسيًا وإثنيًا على أساس مدى إقناعهم بالكفاءة والنزاهة والإنجاز. 


[1] تستند جميع الإحصاءات في هذه الورقة إلى الأرقام الرسمية المعتمدة، ينظر: https://shorturl.at/hlyH6

[2] Ece Goksedef, “Turkey's Soft-Spoken Kemal Kilicdaroglu Takes on Powerful Erdogan,” BBC, 21/5/2023, accessed on 28/5/2023, at: https://shorturl.at/cdflw

[3] كان حزب الشعب الجمهوري متحمسًا لتطبيق حظر الحجاب في المؤسسات العامة والجامعات بموجب قرار مجلس الدولة في عام 1984، وقرار المحكمة الدستورية في عام 1997. في المقابل، كسب أردوغان تأييد الموظفات والجامعيات المحجبات حتى اليوم، وهنّ يمثلن قطاعًا كبيرًا في المجتمع، بسبب وعده بالنضال لإلغاء القرار، الذي تم فعلًا في عام 2013.

“Why Turkey Lifted its Ban on the Islamic Headscarf,” National Geographic, 12/10/2013, accessed on 28/5/2023, at: https://shorturl.at/rEM25

[4] كان أول تقارب قومي مع حزب العدالة والتنمية هو انضمام القيادي في حزب الحركة القومية طغرل توركش، ابن مؤسس الحركة ألب أرسلان توركش، إلى قائمة العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.

[5] Goksedef.

[6] للمزيد حول التأثيرات الشخصية للقادة في السياسة، يُنظر:

Margaret G. Hermann et al., “Who Leads Matters: The Effects of Powerful Individuals,” International Studies Review, vol. 3, no. 2 (2001), pp. 83–131.