العنوان هنا
دراسات 18 يوليو ، 2011

الإصلاح الداخلي في تركيا

الكلمات المفتاحية

معمر فيصل خولي

معمر فيصل سليم خولي، أردني من مواليد الكويت سنة 1975، حاصل على بكالوريوس، علوم سياسية. من جامعة بغداد 1999. وماجستير، دراسات دولية، جامعة المستنصرية، بغداد، العراق، 2003 وـ دكتوراه: علوم سياسية. معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 2008. محاضر سابق في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة السابع من أكتوبر في ليبيا 2008-2009. له بعض الدراسات المنشورة منها: - سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه حق العودة الفلسطينية، مركز الدراسات الفلسطينية، جامعة بغداد، العدد12، كانون الأول 2010.

ساهم متغير الرأي العام التركي في الانتخابات التشريعية التي جرت في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، في إزاحة الطبقة السياسية التقليدية عن المشهد السياسي التركي ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، واضعا ثقته به للخروج بتركيا من أزماتها الداخلية. ومع  الحزب بدأت تركيا مسيرة الإصلاح الداخلي.                

وقد انقسمت الدراسات العربية التي تناولت الشأن التركي، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، إلى صنفين بارزين:

الأول: دراسات اهتمت بعلاقات تركيا الدولية، كعلاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية؛ وعلاقاتها الثنائية، كعلاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، وانعكاس ذلك على الأمن القومي العربي.

والثاني: يضم دراسات ركّزت على مضامين الأدوار السياسية-الدبلوماسية، والقيمية، والمعنوية، والاقتصادية، والأمنيّة، والدفاعية، للسياسة التركية في منطقة الشّرق الأوسط.

أمّا الإصلاحات الداخلية- الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية- التي ساهمت في إنجاح تلك الأدوار فقد كان لها بالغ الأثر في تقدّم المجتمع التركي؛ لكنها لم تحظ باهتمام كبير من قبل الباحثين العرب، لذا تهتمّ هذه الدراسة بالإصلاح الداخلي في تركيا لتؤكد على فرضية مفادها أنّ الإصلاح الداخلي في أيّ دولة ليس بالأمر الصعب، إذا توافرت له الإرادة السياسية الصادقة. فكيف تؤثّر المتغيرات الداخلية السياسية، كمتغير الرّأي العام، في السياسة الداخلية ولماذا؟

تعرّضت تركيا نتيجة سياسات بولنت أجاويد -رئيس الحكومة الائتلافية- (28 أيار/ مايو1999- 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002)، إلى أزمات سياسية واقتصادية بالإضافة إلى تدهور الوضع الصحي لرئيس الوزراء، وكادت أن تودي بتركيا إلى الهاوية. وتمثلت الأزمة السياسية في عدة مواقف، منها: رفض رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر، الذي أصبح رئيسًا لتركيا في أيار/ مايو2000، التوقيع على تعيينات بالمناصب العليا في الجامعات التركية اقترحها عليه مجلس التعليم العالي؛ ورفضه بع فترة قصيرة التوقيع على قرار من الحكومة يقضي بفصل مئات الموظّفين المدنيّين بذريعة اتّهامهم بالانتماء إلى جماعات أصولية وأخرى انفصاليّة، لأنه  رأى القرار مخالفًا للقانون، على الرغم من تمسّكه الشديد بمبادئ العلمانية.

واشتدّت الأزمة السياسية بين مؤسّستيْ الحكم. فكانت الرئاسة مع إجراء مجموعة من التعديلات القانونية كإلغاء عقوبة الإعدام والسماح ببثّ باللغة الكردية لتصبح أكثر اتّساقا مع معايير الاتّحاد الأوروبي؛ في حين رفض طيف من الائتلاف الحكومي، وهو حزب الحركة القومية برئاسة دولت بهشلي، تلك التعديلات لأنه يرى في إلغاء عقوبة الإعدام إفلات عبد لله أوجلان -زعيم حزب العمّال الكردستاني المتّهم بالدّعوة للانفصال وشن ّحرب ضدّ الدولة- من الموت الذي يستحقّه نظير جرائمه، وأنّ أيّ تهاون في هذه المسألة سيعرّض الحزب لخطر خسارة قواعده الانتخابيّة. ولهذا انسحب حزب الحركة القوميّة من الحكومة الائتلافية وهو ما تسبب في سقوطها.

يضاف إلى هذه المواقف أنّ آليات النظام الديمقراطي ومؤسّساته لم تعد تعمل كما ينبغي، حيث أصبح البرلمان - بسبب تركيبة الحكومة الائتلافية - كيانًا جامدًا يقدّم الدليل على الفشل في إيجاد حلولٍ لأزمات المجتمع. وأصبحت الحكومة عاجزةً عن الاحتفاظ بحدٍّ أدنى من التّنسيق بين شركاء الائتلاف.

أمّا على المستوى الاقتصادي، فقد توالت الأزمات الاقتصادية على تركيا، إذ رفض رئيس الجمهورية توقيع  مرسوم حكومي يقضي بخصخصة ثلاثة بنوك حكومية. وأصدر مرسومًا رئاسيًّا في 16 شباط/ فبراير 2001، يقضي بتكليف هيئة تفتيش الدولة بالتحقيق في فضائح فساد البنوك. وفي الاجتماع الشّهري لمجلس الأمن القومي، وجّه رئيس الجمهورية انتقاداتٍ بالغة للطريقة التي يدير بها رئيس الحكومة الشّؤون العامّة، واتّهمه بالتستّر على الفساد في الدولة، فاحتدم النقاش بين رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه الذي ما لبث أن خرج خير من الاجتماع.

 ولدى مغادرته مقرّ الرئاسة، واجه الصحافة التي كانت تنتظره  في الخارج قائلاً: "إنّ الرئيس تجاوز معه حدود الأدب في الحديث والسّلوك، وأنه لن يتحدّث إليه حتى يتلقّى اعتذارًا منه".  وأحدث تصريح رئيس الوزراء-في حينه- تداعيات سلبية بشكل فوري على الاقتصاد، بدأت بانهيار الأسواق المالية التي تتّصف في تركيا بحساسيّةٍ مفرطة للتقلّبات السياسية، نظرًا لكثرة تشكيل الحكومات وسقوطها في تسعينيات القرن الماضي، وعدم القدرة على استشفاف أحوال الدولة السياسية والاقتصادية على المدى البعيد.

وقد رافق انهيار الأسواق المالية ارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير خلال ساعاتٍ لتصل إلى 76%، وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي نظرًا لإقبال المواطنين على شرائه تأمينًا لأموالهم، الأمر الذي دعا البنك المركزي التركي إلى ضخّ خمسة مليارات من الدولارات بالأسواق في مدّة أربع ساعات فقط. وخسر مؤشّر بورصة إسطنبول 14% من قيمته في يومٍ واحد، وخرجت من الدولة ودائع ماليّة بقيمة أربعة إلى خمسة مليارات دولار في اليوم ذاته. وفي اليوم التالي للمجادلة الكلامية التي دارت بين رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه، فقدَ المواطن التركي ثلث قدرته الشرائية.

أمّا الوجه الآخر من الأزمة الاقتصادية فتمثّل في القروض التي كانت تمنحها بنوك الحكومة لمشروعات على أساس الانتماء السّياسي لأصحابها، وليس على أساس الاستحقاق والجدوى المدعومة بالمستندات. وكثيرًا ما تدخّل السياسيون والبرلمانيون لتأمين منح البنوك تسهيلات ماليّة كبيرة لشخصٍ ما -حتّى دون سند- لمجرد أهميّته وقت الانتخابات. وكثيرا ما تدخّل هؤلاء، لتوفير الحماية من الإجراءات القانونية لمن فقد القدرة على السداد، إلى درجة توجيه أوامر للبنك المركزي بالرأفة مع البنوك والقروض المتعثّرة، على اعتبار أنّ تلك "سياسة الحكومة".

 وحيث لم يكن هناك وسيلة لدى البنك المركزي لتغطية العجز المالي، فقد لجأ إلى الحكومة التي رأت الحلّ في طبع مزيد من " البنكنوت" دون غطاء، الأمر الذي فاقم من معدّلات التضخّم عبر تسعينيات القرن الماضي بدرجة كبيرة، وانعكس بالدّرجة الأولى على محدودي الدّخل من المواطنين. ولمواجهة الأزمة، أخذت الحكومة من صندوق النقد الدولي قرضًا قيمته 16 مليار دولار أميركي[1]، والتزمت بشروط القرض التي تطالب بإجراء إصلاحات اقتصادية وفق رؤية صندوق النقد الدولي وتحت رعايته. لكن هذه الإصلاحات انتهت بأزمة اقتصادية عميقة وخطيرة سنة 2001، كان من نتائجها:                

  1. اختلال الأوضاع المالية للبنوك الخاصّة والعامّة.
  2. ارتفاع معدّلات العجز وارتفاع حجم المديونية الخارجية.
  3. انخفاض احتياطي الدولة من العملات الأجنبية.
  4. عجز القطاعات الاقتصادية في الدولة عن تحمّل تلك المتغيرات ممّا نجم عنه تردّي الأوضاع وإغلاق مئات الآلاف من الشركات التجارية [2].
  5. تقلّص حجم الاستثمار إلى أقلّ من النصف، فبلغت البطالة حدودًا مرعبة، مع تزايد أعداد العاطلين عن العمل بفعل إغلاق الشركات والمصانع[3].

 إلى جانب الأزمتين السياسية والاقتصادية، اتّجهت الأمور نحو أزمة جديدة تجلّت في الوعكة الصحّية القاسية التي تعرّض لها رئيس الوزراء في 17 أيار/ مايو 2002، ونقل على إثرها للعلاج في أحد مستشفيات أنقرة، ومكث فيه عشرة أيام شهدت تفاقم الخلافات والتناقضات بين شركاء الائتلاف. ولم يكد رئيس الوزراء يخرج للنقاهة حتى وقع في أزمة جديدة، أعادته إلى المستشفى مرة ثانية قبل مرور أسبوع على مغادرته. وانتظر الرأي العام لمعرفة حقيقة مرض رئيس الوزراء، وسرعان ما تبيّن له، بفضل الصحافة الحرّة، أنّ المسألة ليست طارئة أو عرضية، وإنما تتعلّق بالشيخوخة وكبر السنّ. فظهرت على السطح دعواتٌ تشكّك في قدرة رئيس الوزراء على الاستمرار في أداء مهامّه وهو في الثامنة والسبعين من العمر. وعلى الفور، وجُد في تركيا مَن يطالب علناً رئيس الوزراء بالتنحّي عن رئاسة الحزب ورئاسة الحكومة، وطالب آخرون بإجراء انتخابات مبكرة تُجنّب الدولة أزمةً جديدة، تضاف إلى الأزمة الاقتصادية[4].

ودون شكّ، فقد ألقت الأحوال الاقتصادية المتدهورة والسياسية المتهافتة، والحالة الصحيّة لرئيس الوزراء، ظلالها على المجتمع[5]، ممّا دعا شريك الائتلاف دولت بهشلي- زعيم الحركة القومية - إلى المطالبة  بإجراء انتخابات مبكرة، داعيًا الأحزاب الممثّلة في البرلمان إلى عقد جلسة استثنائية للنّظر في مقترحه. واجتمع البرلمان في أيلول/ سبتمبر 2002 ليقرّر موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2002[6]. وقد وصل الأمر بتركيا، في ظلّ تلك الأزمات، إلى أنّ عدّة دراسات وندوات غربيّة وأميركية أكّدت أنّ تركيا باتت على مفترق طرق، فإمّا أن تنهار وتتفتّت، وإمّا أن تتجدّد من خلال تغيير الطبقة السياسيّة الحاكمة والمسيطرة منذ تأسيس الجمهورية التركية[7].


[1] ياسر أحمد حسن، تركيا: البحث عن المستقبل، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2006)، ص.ص 156-164.

[2] إبراهيم أوزتورك، "التحولات الاقتصادية التركية بين عامي 2002-2008"، في: محمد عبد العاطي، تركيا بين تحديات الداخل ورهانات الخارج، (بيروت: الدار العربية ناشرون، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات،2010)، ص 48.

[3] عمرو الشوبكي، "الإسلامية التركية من الرفاه إلى العدالة والتنمية"، في: تركي الدخيل، عودة العثمانيين الإسلامية التركية، الطبعة الثانية، (مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2011)، ص 93.

[4] ياسر أحمد حسن، مرجع سبق ذكره، ص 166- 167.

[5] محمد سليمان، " تجربة حزب العدالة والتنمية التركي(2) شهادة التمييز والإبداع"،http/ / www.alsar.ws/ index.cfm?method= home.com&contetID=5443.

[6] ياسر أحمد حسن، مرجع سبق ذكره، ص 178- 183.

[7] عمرو الشوبكي، مرجع سبق ذكره، ص 93.