العنوان هنا
مقالات 15 يونيو ، 2011

أزمة العمل الوطني الفلسطيني واللحظة التاريخية الجديدة

محمد عادل شريح

محمد عادل شريح، كاتب و باحث فلسطيني مقيم في سوريا حاصل على دكتوراه في الفلسفة ،اختصاص : الثقافة السياسية و الأيديولوجيا. له كتب أهمها: 1- الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربي، دار الفكر دمشق. 2007 2- ثقافة في الأسر، نحو تفكيك المقولات النهضوية العربية، دار الفكر ، دمشق 2008 3- إشكالية الهوية في الفكر الإسلامي الحديث، دار الفكر ، دمشق، 2011 إضافة إلى عدد من الأبحاث و الدراسات و المقالات في الدوريات و الصحف العربية.

عندما نتحدّث عن الأزمة، فإنّنا لا نشير إلى أزمة سياسية مرتبطة بظرف مرحلي أو اختلاف في الرّؤى السياسية أو البرامجية لبعض القوى الفلسطينية الفاعلة ميدانيًّا، إنما نتحدّث عن أزمة بنيوية مرتبطة بمقدّمات أو مسلّمات فكرية- سياسية أوّلية قام على أساس منها العمل الوطني الفلسطيني، مقدّمات تحكّمت في رؤية الفصائل الفلسطينية منذ بداية عملها في منتصف الستّينيات، و امتدّت آثارها إلى يومنا هذا، لكن بدايةً لنحاولْ تحديد هذه الأزمة و تشخيصها و طرحها بوضوح على بساط البحث.

يمكن تعريف هذه الأزمة بأنها تتمثّل في انسداد الأفق أمام المشروع الوطني الفلسطيني ممثّلا في انسداد الأفق أمام فريقيْ هذا العمل- فريق السلطة و فريق المعارضة- على اعتبار أنّ كلّ فريق منهما يمثّل مشروعًا مختلفاً في التّعامل مع القضيّة الفلسطينية، ونقصد بذلك مشروع الحلّ السلمي و مشروع المقاومة المسلّحة، وهذان المشروعان هما خلاصة ما أسفرت عنه تجربة العمل الوطني الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة عام 1987 على الرّغم من أنّ جذور المشروعيْن تعود إلى مرحلة ما قبل الانتفاضة بكثير.

أودّ في البداية أن أثبت قاعدة مهمّة في شأن التسوية السياسية و هي مشروعيّة هذا الشكل من العمل الوطني مبدئياً، و أقصد بمشروعيّته المبدئيّة ، حقّ السياسي في أن يلجأ إلى التفاوض مع العدوّ لأسباب قد يفرضها الواقع أو موازين القوى، أو أيّ ظروفٍ أخرى ميدانية، و أهمية هذا الإثبات لمشروعيّة الفعل التفاوضي بالمعنى السياسي تأتي من حقيقة أنّ رفض التّفاوض و العمل على تعطيل مسيرته في المراحل السابقة، كثيراً ما كان يتمّ استنادا إلى رؤى طهورية ترى في فعل التّفاوض بحدّ ذاته خيانة يقوم بها السّياسي، وهذا فهم غير سويّ للعمل السياسي عموماً و له علاقة بالموروث الشّعبي، النفسي و الاجتماعي أكثر ممّا له علاقة بالعمل السّياسي.

لكن مشروعيّة الفعل السّياسي التّفاوضي من حيث المبدأ لا تجعل كلّ عملية تفاوضيّة عمليّة شرعيّة و صحيحة، فالتفاوض كما الفعل المقاوم له مقوّماته  ومقدّماته التي إن افتقدها يصبح فعلاً عبثياً و غير مُجدٍ.

تعود جذور مشروع التّسوية في العمل الفلسطيني إلى مراحلَ مبكرة، فعلى إثر حرب تشرين لعام 1973 تقدّم الاتحاد السوفييتي حينها بمشروع بريجنيف لتسوية القضيّة الفلسطينية، هذا المشروع تمّت الموافقة عليه في الدّورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وقد لقي في حينها معارضة من بعض الفصائل الفلسطينية التي ما لبثت أنْ توافقت عليه في صيغة البرنامج المرحلي لمنظّمة التحرير المتمثّل في حلّ الدولتين عام 1979. إذا عدنا بالذّاكرة إلى تلك المرحلة فقد كان الشّكل المطروح لتطبيق هذه الرّؤية هو الدّعوة إلى مؤتمر دولي و إقرار حلِّ الدولتين، و عند النظر إلى هذا الأمر نكتشف أنّ المعوّل عليه في تحقيق هذا النموذج من التسوية السياسيّة هو الثقل السياسي للاتّحاد السوفييتي و دول المنظومة الاشتراكيّة في حينها، أي ثقل عامل خارجي دولي ،لا ثقل وقائع ميدانيّة داخلية تجعل من الخصْم يوافق على هذه التسوية، و هذا الأمر على واقعيّته في حينها ،لكنه كما تبيّن لاحقًا غير مُجدٍ في حالة الصّراع مع الكيان الإسرائيلي لخصوصيّة العلاقة التي تربط هذا الكيان بالمنظومة الدوليّة و طبيعة تحالفاته المعقّدة منذ نشأته كفكرة إلى أن تحوّل واقعاً متحقّقاً. هذا التصوّر للتسوية السياسيّة أخذ أشكالاً مختلفة من التطوّرات لاحقًا عبْر مبادرات مختلفة و في ظروف سياسية مختلفة لكنه كان في كلّ الأحوال محكوماً لتوازنات العالم ثنائي القطبيّة.

مع انهيار الاتّحاد السوفييتي وقيام نظام عالمي جديد أحادي القطبيّة، لم ينهرْ مشروع التّسوية ظاهريًّا، إنما تم تعديل مرجعيّاته الدولية في مؤتمر مدريد، لتصبح رغبة النظام الدولي الجديد في فرض نموذجه للعلاقات الدولية و تصوّره لحلّ النزاعات الإقليمية هي مرجعية اتّفاق أوسلو التي لم تجْد نفعاً خلال ما يقارب عقديْن من الزّمان كما لم يُجْدِ نفعاً ما سمّي رؤية بوش و لن يُجديَ نفعاً ما يمكن تسميته اليوم التزامات أوباما أو غيره، و السبب ببساطة هو أنّ عدم اكتمال مقوّمات و مقدّمات أيّ رؤية للتسوية يمكن للطّرفين أن يجِداَ فيها خروجاً من واقع قد يعود بضرر أكبر عليهما إن لم يقْدما على هذه التّسوية. إنّ قيام كيان فلسطيني بالشّروط التي يريدها الفلسطينيون هو في المفهوم الإسرائيلي خطر على مستقبل إسرائيل، وإسرائيل لن تقبل بمثل هذا الخطر إلاّ تفاديًا لخطر أكبر منه لا يبدو أنّ ملامحه العملية الواقعية قد اتّضحت إلى تاريخ يومنا هذا.

إنّ ما ينطبق اليوم على تصوّرات القيادة السياسية لمنظّمة التحرير بشأن عملية التسوية، ينطبق أيضاً على أيّ رؤية أخرى لمشروع التّسوية في المنطقة و من ضمنها رؤية حماس لهذه التسوية سواء طُرحت تحت مسمّى الهدنة طويلة الأمد، أو عبر تفويض القيادة الرسمية للتفاوض من أجل دولة في حدود عام 1967 كما عبّر عن ذلك خالد مشعل في خطاب المصالحة الأخير. فهذه التسوية لن تتحقّق أيضاً على الأرض و ستقود لِذات الأسباب، إلى ذات النتائج التي وصلت إليها قيادة حركة فتح من قبل، و نعيد مرّةً أخرى أنّنا لا نعبّر عن موقف طهوري مُعادٍ من حيث المبدأ للتفاوض و الحلول المرحليّة ، إنما نعبّر عن موقف سياسي مفاده أنّ مسار التسوية هو في واقع الموازين القائمة اليوم مسار وهمي له علاقة بإدارة الأزمة من قبل قوى دوليّة و إقليميّة، أكثر بكثير ممّا له علاقة بتقديم حلول لها.

إنّ مشروع التسوية مأزوم و ليس له أيّ مستقبل في العمل السياسي الفلسطيني إذا لم تحصل تغيّرات جذريّة تجعل من هذا المشروع مشروعاً قابلاً للتطبيق من حيث المبدأ، ثم تأتي بعد ذلك كلّ القضايا التفصيليّة التي لها علاقة بطبيعة التّسوية  وشروطها و غير ذلك من التفاصيل المهمّة، لكن ما نريد أن نثبته هو أنّ مشروع التسوية السّياسية هو مشروع غير ممكن اليوم و هذا ما أثبتته التّجربة العمليّة بعد ثمانية عشر عاماً من المفاوضات.