العنوان هنا
مقالات 27 أبريل ، 2011

الثورات العربية وملامح الفكر السياسي العربي الجديد

الكلمات المفتاحية

محمد عادل شريح

محمد عادل شريح، كاتب و باحث فلسطيني مقيم في سوريا حاصل على دكتوراه في الفلسفة ،اختصاص : الثقافة السياسية و الأيديولوجيا. له كتب أهمها: 1- الأسس البنيوية لفكر الحداثة الغربي، دار الفكر دمشق. 2007 2- ثقافة في الأسر، نحو تفكيك المقولات النهضوية العربية، دار الفكر ، دمشق 2008 3- إشكالية الهوية في الفكر الإسلامي الحديث، دار الفكر ، دمشق، 2011 إضافة إلى عدد من الأبحاث و الدراسات و المقالات في الدوريات و الصحف العربية.

تثير الثورات الشعبية التي قامت في كل من تونس و مصر و القائمة اليوم في كل من ليبيا و اليمن ، سؤالاً مهماً و مصيرياً حول مستقبل العرب السياسي كأمة، ذلك أنّ هذه الثورات و عبر شعارها المركزي و المباشر المُطالب بإسقاط النظم الديكتاتورية، تثير مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية التي سينجلي عنها المشهد بعد سقوط النظم مباشرة، فالسؤال التالي للسقوط سيتمحور حول طبيعة النظام الجديد المنشود، وعند محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنجد أنه يتفرع إلى مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية الهامة.

الإجابة التي تطرح اليوم عن هذا السؤال هي أن البديل يتمثل في انتخابات حرّة ونزيهة و ديمقراطية تتيح للشعب حرّية اختيار حكّامه ، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، لكن هل ينهي هذا الأمر كلّ المشاكل و التحدّيات التي تواجه الشعوب العربية في هذه المرحلة من تاريخها؟

الجواب هو لا، فهذا التغيير الهام الذي يقدّم حلاً للمشكلة الأساسية المباشرة في حياة الشعوب العربية التي تحكم عبر ديكتاتوريات مستبدّة و بقوانين الطوارئ، سيفتح المجال أمام أسئلة أخرى ، فإذا ما أُتيحت لنا الفرصة لنقول بحرّية ما نريد، فما هو الذي نريده كأمّة ؟ و ما هو النظام السياسي القادر على تحقيق تطلعات الأمّة السّياسية و الحضارية؟ و كيف سنقدّم أنفسنا للعالم ؟

 بعد أن ترحّب الدول الكبرى بثورة الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية هل سترحّب بمطالبة الشعوب بالكفّ عن نهب ثرواتها و التحكم في مصيرها؟ و هل سترحّب بمطالبة الشعوب العربية بمكانها بين الأمم و دورها في تقرير شؤون السياسة الإقليمية و الدولية؟

كيف يمكن للعرب أن يؤسّسوا لنظام سياسي قادر على حماية المصالح العربية؟ و هل ستستمرّ تجربة الدولة القطرية الفاشلة للعودة إلى دورة جديدة في ذات الحلقة المفرغة؟

إنّ الشعوب العربية تنادي بالحرية و الديمقراطية لأنها تريد أن يكون لها دور حقيقي في بناء حياتها و مواجهة المخاطر التي تحيق بوجودها، سواء كانت هذه المخاطر خارجية متمثلة في العدوانات المستمرة على شعوبنا، العسكرية منها و السياسية، أو المخاطر الداخلية المتمثلة في الفقر و الفساد و العجز الاقتصادي و الأزمات الاجتماعية. إنّ كل هذه القضايا، قضايا التحرّر و الاستقلالية و صدّ العدوان و التنمية و البناء الحضاري تحتاج إلى أجوبة أكثر عمقاً و شمولية.

ربّما لا تزال أجواء الحماسة و الانفعال تشدّنا اليوم إلى المَشاهد المتحرّكة في ساحة التحرير التي أسقطت نظام حسني مبارك، و مثيلاتها الممكنة في الساحات العربية ، لكن ذلك لا يلغي حقيقة غياب الرؤى النظرية المكتملة للمستقبل العربي ، المتمثلة في غياب ما اصطُلح على تسميته "المشروع السياسي العربي" المشروع القادر على تأمين الشروط لبناء حياة كريمة تتوفّر فيها مقوّمات حقوق الفرد و كرامة الأمّة.

لقد فشلت النّخب العربية في بلورة هذا المشروع نتيجة انغماسها على مدار ما يزيد على قرن كامل في صراعات أيديولوجية، هذه الصّراعات التي من طبيعتها أنها تنشأ من الواقع الذي يتجاوزها لتبقى أسيرة عقول متكلسة متمترسة حول مقولات و رؤى نظرية مقيّدة لحركة الفكر ذاته و من بعد ذلك حركة المجتمع. إذْ من ميزات العصر العربي الجديد هزيمة الأيديولوجيا بعد أن علا صوت الحياة و صوت الجماهير الفاعلة.


مأزق الأيديولوجيا في الفكر السياسي العربي الحديث

لقد نشأ الفكر العربي الحديث عموماً في قلب الدولة العثمانية في أواخر عهدها بحثاً عن آفاق جديدة تعيد للدولة شبابها و للمجتمع حيويته و فاعليته، و في هذه الأجواء تبلورت أنوية التيارات الفكرية الأساسية، القومية منها و العلمانية اليسارية و كذلك الإسلامية، لكن هذه التيارات التي استمرّت في التصارع على مدار قرن مَضى لم تلاحظ أنّ الدولة التي كان يُراد إصلاحها قد ذهبت، و أنّ واقع ما بعد التحرر من الاستعمار المباشر لا يرتقي إلى مستوى الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن هذه التيارات الفكرية بقيت مشدودة إلى صراعها الأيديولوجي و أهملت قضية الدولة، أو لِنَقُل أهملت أولوية الدولة باعتبارها معبّراً عن إرادة الأمة، فبعد أن فشلَ القوميون في بناء دولتهم القومية، وفشلَ الماركسيون في بناء دولة العمّال و الفلاّحين و فشلَ الإسلاميون في بناء الخلافة الإسلامية، يبدو و كأن الجميع استكان و رضي بفكرة الدولة القطرية واقعا لا يمكن تجاوزه.

إنّ الرّؤى الأيديولوجية هي التي كرّست مجموعة من الإشكاليات المستعصية و الأغاليط المنهجية التي تمثلت في مجموعة من الثنائيات الزائفة في الوعي العربي المعاصر ، كثنائية العروبة و الإسلام، و الرجعية و التقدّمية ، و النهضة و الانحطاط ، و المجتمع الديني و المجتمع المدني، و ما ينبثق عن هذه الثّنائيات المزيّفة من قضايا و تفرّعات أكثر زيفاً و بعداً عن الواقع. إنّ الأداء الجماهيري للناس في معظم الساحات العربية كان قادراً على تجاوز محدّدات الأيديولوجيا العربية ، فالناس عبّروا عن أنفسهم كمسلمين بعيداً عن تناقضات الإسلاميين، كانوا مسلمين و لم يكونوا سلفيين أو إخوانا مسلمين أو غير ذلك، و كانوا عروبيين من دون أيديولوجيا قومية ، وكانوا مدنيين من دون أن يكونوا ليبراليين و علمانيين ، و الأهم من كلّ ذلك أنهم كانوا كلّ هذا و في الوقت نفسه.

إنّ الشروع اليوم في بناء مشروع عربي يتطلّب قبل كلّ شيء تحوّلاً في تفكير النّخب العربية المعنية بصناعة التغيير و تصوراتها و رؤاها، وعنوان هذا التحوّل الأساسي هو الخروج من إطار المشاريع الأيديولوجية إلى المشاريع الجيوسياسية.

إنّ " الجيوسياسية" أو "الجيوبوليتيكا" مفهوم واسع و له مقدّماته النظرية و مَقولاته المختلفة التي لا تعنينا كثيراً الآن، إنّ ما يعنينا في هذا المنظور هو قضيّتان تمثّلان برأينا أساسا للمنهجية الجديدة في التفكير السياسي التي ندعو إليها ، أوّلاً : في التفكير الجيوبوليتيكي يتم الكفّ عن محاولات تغيير بنية المجتمع و هويّته الحضارية و دراسة هذه البنية و الهويّة كمعطى تاريخي حضاري منجز و غير قابل للتحويل في المدى السياسي المنظور.

ثانياً: في نمط التفكير الجيوبوليتيكي تتقدم قضية الدولة بحدّ ذاتها لتحتلّ الأولوية على حساب قضية نظام الحكم. فنظام الحكم و كلّ المحدّدات الاجتماعية و الاقتصادية هي رهن التفاعل الاجتماعي في مناخ من الحرية داخل إطار الدولة.

و إنّ قضية الدولة هي في صلب الرؤية الجيوسياسية ، لكن قبل ذلك ماذا نقصد بالمشاريع الإيديولوجية ليتضح لنا المقصود بالمشاريع الجيوسياسية؟

لقد عاشت المنطقة العربية على مدار القرن العشرين تجاربَ عديدة و متنوّعة تصارعت وتجاذبت السياسة و الاجتماع و العمل الثوري و الانقلابات، و هذه التيارات في العموم لم تخرج عن إطار المشاريع الثلاثة المعروفة : المشروع الإسلامي الحركي ، و المشروع القومي العربي و المشروع العلماني بتحوّلاته اليسارية و الليبرالية و تقاطعاته مع المشاريع الأخرى.

بالنسبة إلى التيارات القومية و العلمانية على اختلاف مشاربها فقد كانت مشاريع إيديولوجية بامتياز، لأنها في جوهرها كانت مشاريع شمولية تستهدف إجراء تحوّلات حضارية، أي تغيرات تلامس الرؤية الوجودية و رؤية الشعوب العربية للعالم و المجتمع والاقتصاد و السياسة على المستوى القيمي ، لذلك فقد فكانت في مجملها مشاريع انقلابية شمولية تهدف إلى بناء مجتمع و نموذج حضاري جديديْن على أساس الانقطاع عن سياق الأمّة التاريخي و الحضاري ، و هذا ما لم يتحقّق لأنّ الخروج عن هذا السياق يبدو في الواقع و كأنه خروج على الأمة. فعلى القوى القومية اليوم أن تبتعد عن الإرث السلبي للموروث الأيديولوجي القومي ،و أن تؤسِّس لوعي قومي قابل للتناغم مع هويّة الأمة الحضارية و قادر على بلورة مشروع سياسي يحقّق تطلعات الأمة.

إنّ بناء مشروع جيوسياسي عربي يتطلب قبل كلّ شيء الكفّ عن محاولات تغيير بنية المجتمع و هويته الحضارية و دراسة هذه البنية و الهوية كمعطى تاريخي حضاري منجز غير قابل للتحويل أو التبديل في المدى السياسي المنظور، و بالتالي بدء دراسة جدية لمكونات هذه الهوية كمعطى ثابت و الاستفادة إلى أكبر قدر ممكن ممّا تتيحه هذه المكوّنات في بناء رؤية واقعية معاصرة للحياة العربية.

إنّ ذلك يتطلب دراسة و تحديد مكوّنات المشروع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في تناغمها و تعاضدها مع مكوّنات الهويّة أوّلا و معطيات الجغرافيا ثانياً وضرورات المرحلة التاريخية ثالثاً من أجل مزجها معاً لتقديم مشروع سياسي عربي يخرج بالأمة نحو مستقبلها المنشود.

إن العنوان المركزي و الرئيس لهذا المشروع هو الدولة، و نعني هنا بالدولة "الدولة القادرة" على تحقيق مصالح المجموعة البشرية المنضوية في إطارها، و هذا هو شرطها الأوّل و الأساس، ثم يأتي لاحقاً شكل المجتمع و الدولة و مواصفاتهما و نموذجهما ليكون رهن الحراك السياسي و الاجتماعي الحرّ في إطار الدولة القادرة ، و هذا هو شرطها الثاني.


واقع الإسلام السياسي و آفاقه

لقد فشلت العقلية الأيديولوجية، بما فيها الإسلامية ، في تغيير الواقع العربي، وعلى الرغم من تراجع الأيديولوجيا القومية التقليدية و العلمانية، و الانتشار الأفقي للتيار الإسلامي الذي ينمو في ظل واقع الاشتباك المباشر و الميداني، فإن هذا التيار لم يتقدم على مستوى إنتاج الرّؤى و التصورات و المشاريع السياسية. إنّ استمرار الحركات الإسلامية و فاعليتها وبروزها - و هي مرشّحة أكثر من غيرها لذلك- مرتبط أشدّ الارتباط بحقيقة أن المجتمع العربي هو مجتمع مسلم، يتفاعل مع الإسلام و الخطاب الإسلامي، لكن هذا التفاعل والفاعلية و القدرة على الفوز في الانتخابات الديمقراطية ليست غطاء و لا مبرراً لفقدان هذا التيار الإسلامي لرؤيته الجيوسياسية و بالتالي عدم القدرة على تحقيق هذه الرؤية في الواقع.

إنّ قدرة هذا التيار على لعب دور مباشر و عملي في صنع مستقبل المنطقة مرهونة بقدرته على تقديم هذه التصورات السياسية لمستقبل المنطقة و مرهونة بقدرته على فكّ الترابط المتكلّف بينه و بين الدّين، فالإسلام هو دين المجتمع وهو شأن العلماء و الفقهاء و من ثَمَّ أفراد المسلمين، أمّا شأن الأحزاب فهو السياسة.

 إننا نتفهم الظروف التاريخية التي أدّت إلى هذه الظاهرة -الإسلام السياسي - و نقدّر عالياً الدور الذي قامت به الحركات و الأحزاب الإسلامية في الحفاظ على هويّة الأمة، كما نقدّر التضحيات الجسام التي قدّمتها ، لكن فهمنا للمبرّرات التاريخية لهذه الظاهرة لا يبرّر استمرار عملها بالعقلية ذاتها و مستوى الأداء السياسي نفسه.

على القوى الإسلامية السياسية أن تحسم خياراتها بين كونها جماعة دينية أو حزباً سياسياً فالجماعة الدينية هي المجتمع المسلم و لا يمكن لفئة قليلة مهْما عظمت أن تستبدل نفسها بهذه الجماعة، خاصّة و أنّ ظاهرة العداء للدين قد تراجعت و لم يعد حتى ممثّلو التيارات الأيديولوجية الأخرى يجادلون في هوية المجتمع العربي، إنّما يكتفون بطرح بعض الإشكاليات الحقوقية و المدنية و الاجتماعية المترتّبة على ذلك في الظروف المعاصرة وعلى ممثلي التيار الإسلامي أن يقدّموا الأجوبة عن هذه الإشكاليات.


لماذا الدولة؟

بالعودة إلى قضية الدولة و التي هي برأينا أساس المشروع الجيوبوليتيكي المرتقب، فإن الواقع العربي المعاصر و في نظرة تحليلية معمّقة يشير إلى غياب هذه الدولة، هذا الغياب الذي بدأ منذ انهيار الدولة العثمانية و يستمرّ حتى يومنا هذا.

و لتوضيح هذه النقطة لا بد من التمييز بين مفهوم الدولة كمعبّر عن إرادة الأمة، و لا نعني هنا بإرادة الأمة، إرادة حزب أو جماعة ، ولا حتى مجموع إرادة الأفراد بالمعنى الليبرالي إنّما قد تكون الإرادة الجمعية بالمعنى الذي تحدّث عنه هيغل. هذا المعنى يختلف عن واقع الحكومات العربية ، فما هو موجود في الواقع العربي حقيقةً، هو حكومات تقوم بهذه النسبة أو تلك من الكفاءة أو نقصها في تسيير شؤون مجموعات بشرية وتحقيق مصالح شرائح و طبقات اجتماعية و قوى صاعدة عائلية أو عشائرية أو اجتماعية أو غيرها، هذا هو واقع الدولة القطرية اليوم في كلّ البلدان العربية.

إنّ واقع الدولة القطرية العربية هو تمثيل حيّ لمفهوم "الدولة الرخوة "الذي قدّمه في ستّينات القرن الماضي الاقتصادي وعالم الاجتماع السويدي جينار ميردال، و قام الباحث المصري جلال أمين في كتابه الأخير «مصر والمصريون في عهد مبارك» (دار ميريت، القاهرة، 2009) بمطابقته على واقع مصر في مرحلة حكم مبارك، فالدولة الرخوة هي التي تصدر القوانين و لا تطبقها، الكبار فيها تحميهم أموالهم والسلطة التي تغطي على ممارساتهم غير القانونية، ويعمّ الفساد وتنتشر الرشاوى بين الصّغار والكبار على السواء ويتحوّل الفساد إلى نمط حياة، إنّ هذه الدولة الرخوة إنما تقوم على الربط بين التّخاذل في الاقتصاد والتّخاذل في السياسة، وبين التراخي في السياسة الخارجيّة والتراخي في السياسة الداخلية.

 المطلوب اليوم هو الانتقال بالواقع العربي من مأزق "الدولة الرّخوة " إلى آفاق "الدولة القادرة". إنّ حجم المهام التاريخية و حجم التحدّيات التي تواجه العرب بوصفهم مجموعة بشرية اليوم لا يمكن أن تقوم بحملة الدولة القطرية كما عهدناها، لأنّ هذه الدولة القطرية الضعيفة ستعود في كلّ الأحوال للوقوع في مجال الجذب المغناطيسي لقوى أكبر منها وبالتالي ستفقد استقلاليتها و تفقد قرارها و ستدخل في تناقض مع تطلّعات الشعوب و لن يكون أمامها من خيار إلاّ اللّجوء إلى القبضة الأمنية لحماية نفسها و بالتالي للعودة إلى الفساد المنظّم الذي سيعيد إنتاج نموذج "الدولة الرخوة" أو "الدولة الفاشلة" مرّةً أخرى.

بعيداً عن التعريفات الكلاسيكية للدولة التي تتحدّث عن مكوّنات أساسية هي الأرض والشّعب و السيادة ،تبقى الدولة بالمعنى الجيوسياسي ، ضمن معانٍ عديدة، حاملاً لثقافة الأمة و معبّراً عن إرادتها، فهناك علاقة وطيدة بين ثقافة الأمّة و طبيعة الدولة التي تمثلها وضّحها مؤسّس الجيوبوليتيكا، فريدرك راتزل ( 184-1904) في كتابه "حول قوانين تطوّر الدولة " (1901)، حيث يحدّد القانون الأوّل من قوانين الدولة السبعة بالقانون التالي: ( امتداد الدول يتّسع وفقاً لتطور ثقافتها ). إنّ تطلعات الشعب العربي و عمق موروثه الثقافي ، و حقيقة التوتر الحضاري الذي تعيشه الأمّة و إصرارها على رسالتها الحضارية تستدعي بالضرورة قيام الدولة القادرة على فتح الآفاق لهذه الأمة في صنع حاضرها ومستقبلها و المساهمة في المسيرة الحضارية للبشرية عبر التفاعل الحرّ و المبدع مع الواقع المعاصر و المخزون الحضاري و القيمي لهذه المجموعة البشرية الكبرى.


الدولة العربية من دون الأيديولوجيا القومية

إنّ النظرة السريعة إلى العالم الذي يحيط بنا تشير إلى توجّه العالم إلى بناء كتل سياسية واقتصادية كبيرة لضمان حضورها في المسرح الدولي، و إنّ النظرة إلى الإقليم الذي نعيش فيه تشير إلى تبلور قوى جيوسياسية على أساس من الوحدة القومية، و نعني هنا بالدرجة الأولى إيران و تركيا، و بالتالي ما هو المانع من قيام كيان عربي و دولة عربية بالمعنى الجيوسياسي بعيداً عن الأيديولوجية القومية و حالة التصارع المفتعل بين العروبة و الإسلام، فالدّولة في الامتداد العربي أو في بعض أقاليمه لن تكون إلاّ دولة للمسلمين طالما أنّ الغالبية العظمى من مواطنيها مسلمون و بالتالي فإنّ مؤسّسات الدولة التشريعية و التنفيذية و القضائية ستأخذ بعين الاعتبار هذه القضية المركزية و المحورية في حياة الشعوب العربية و تُراعيها ،وهذا بدوره سيعزّز حالة الانسجام و القبول بين الشعب العربي و حكّامه.

ليس المطلوب و لا من المحتّم أن تقوم دولة عربية واحدة على كلّ الامتداد العربي الآن في ظل التعقيدات الدولية و الإقليمية ، لكن لا شيءَ يمنع من قيام تكتّلات سياسية واقتصادية على أسس حضارية معاصرة في إطار دولة أو مجموعة دول، في أقاليم جغرافية مشرقية أو مغربية تؤُسّس لقيام كتل جيوسياسية فاعلة و قادرة على الوقوف جنبًا إلى جنب مع الدول المحيطة التي يزداد نفوذها في الإقليم و تقف حائرة تجاه العجز العربي بين أن تتبنّى هذا الامتداد العربي القاصر أو تبتلعه.