العنوان هنا
دراسات 16 فبراير ، 2014

الأمازيغية المعيارية بين اختلاق لغة جديدة وصناعة الوهم الأيديولوجي

الكلمات المفتاحية

محمد الكوخي

​باحث في معهد دراسات السياسات الاقتصادية والتنمية في جامعة فيليبس ماربورغ - ألمانيا، ونائب رئيس مركز الجنوب للأبحاث ودراسات التنمية  بأكادير- المغرب.
حاصل على ماجستير في "التحول الاقتصادي بالمنطقة العربية " من جامعة فيليبس ماربورغ - ألمانيا، ودرجة متيز (ماجستير1) في "النظرية الاقتصادية والمناهج الكمية" من جامعة القاضي عياض - مراكش في المغرب، ودرجة الباكالوريوس في العلوم الاقتصادية من جامعة ابن زهر في أكادير- المغرب.  
نشر له عدد من البحوث والدراسات باللغتين العربية والإنكليزية في مجالات مختلفة منها الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية والتاريخ واللسانيات. وله كتاب بعنوان "قضية الهوية في شمال أفريقيا: التعدّد والانصهار في واقع الإنسان واللغة والثقافة والتاريخ".

مقدّمة

ظهرت القضية الأمازيغية إلى الوجود أول مرة أواخر الستينيات من القرن الماضي، وذلك في سياق التحولات الجذرية التي عرفتها البلدان المغاربية في القرن العشرين، ونشوء الدولة الحديثة في المنطقة نتيجة التدخل الاستعماري، مع ما رافق ذلك من تحوّلات عميقة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما أدى إلى بروز سؤال الهوية أول مرة في المنطقة كتعبير عن المخاض العسير لتلك التحوّلات.

في هذه الظروف ولِدت القضية الأمازيغية كردّة فعل على الخطاب الهوياتي المتبنَّى من طرف دولة الاستقلال في البلدان المغاربية، حيث نسبة مهمة من الناطقين باللغات الأمازيغية، وخاصة في المغرب والجزائر.

كانت القضية الأمازيغية في بداياتها الأولى عبارة عن قضية ثقافية، حملتها مجموعة من النخب المتعلمة من أبناء الفئات التقليدية في المناطق الناطقة باللغات الأمازيغية، وهي المجموعة التي حاولت إيصال صوت أولئك المهمَّشين والمقصيّين في لغتهم وثقافتهم في الفضاء العام، عن التعليم والإدارة والإعلام...إلخ، وإيصال صوت المكوِّن الثقافي الأمازيغي الذي هو جزء رئيس من مكوِّنات الهوية المغاربية، وهوية الإنسان بشكل عام في بلاد المغرب الكبير. وكان هؤلاء في مجملهم باحثين في قضايا التراث والثقافة الأمازيغية، ينتظمون في جمعيات ثقافية غرضها التعريف بهذا التراث الثقافي الذي يشكّل جزءًا مهمًّا من هوية المجتمع وتاريخه، وإن يكن مغيَّبًا عن الفضاء العام. هكذا بدأت القضية التي ستأخذ في ما بعد أبعادًا وامتدادات أكبر ابتداءً من ثمانينيات القرن العشرين، حيث سيتزايد عدد المهتمين بها بشكل كبير وملحوظ، وستتحوّل من قضية ثقافية إلى قضية ذات أبعاد سياسية، مع ارتفاع الأصوات المنادية بالاعتراف السياسي بالقضية، ودسترة اللغة والثقافة الأمازيغية ضمن دساتير ديمقراطية.

مع مجيء عقد التسعينيات والتزايد الكبير في عدد الجمعيات والناشطين في مجال القضية الأمازيغية، وتحت تأثير الحوادث التي عرفتها القضية في الجزائر أوائل الثمانينيات، وخصوصًا ما تلا حوادث الربيع الأمازيغي (تافسُّوت بالأمازيغية) الدموية في منطقة القبائل شمال الجزائر سنة 1980، إضافة إلى اضمحلال الخطاب الوحدوي للحركات الوطنية المغاربية، وفشل مسلسل الوحدة المغاربية في ما عُرف باتحاد المغرب العربي في أواخر الثمانينيات، ستعرف هذه القضية تغيّرات كبيرة على مستوى الخطاب المتداول، حيث ستبرز أول مرة إرهاصات نزعة قومية جديدة تبدأ التشكّل ببطء طوال عقد التسعينيات، وتحاول إعادة قراءة القضية من منظور قومي مختلف تمامًا عن المنظور الثقافي السابق الذي كان يرمي إلى التعريف بالقضية، وتقديم اللغة والثقافة الأمازيغية كجزء – جزء فقط ضمن أجزاء أخرى – من واقع الهوية التعددية لمجتمعات شمال أفريقيا المتميّزة بالميزتين الرئيستين: التعدد والانصهار، أو ما كان يُعبَّر عنه حينها بفكرة "الوحدة في التعدد"، أي انصهار المكوِّنات الثقافية المتعددة في إطار واحد يشكّل هوية الإنسان في المنطقة، عبر صيرورة تاريخية طويلة امتدت آلافًا من السنين.

هذه النزعة القومية التي ستبدأ في النمو شيئًا فشيئًا ابتداءً من ذلك الوقت، ستعيد تعريف القضية الأمازيغية من جديد، لا بوصفها قضية واقع تهميش لغوي وثقافي ترافق مع تهميش اقتصادي واجتماعي لشريحة من سكان شمال أفريقيا في أوطانهم، وإنما على أساس كونها قضية قومية تتجاوز حدودها الوطنية إلى حدود إقليمية، لتصبح تعبيرًا عن صراع مفترض على أرض شمال أفريقيا، بين ذات "أمازيغية" أصلية (بالمعنى القومي للكلمة)، وأخرى "عربية" دخيلة (بالمعنى القومي للكلمة). هذه الثنائية ستشكّل الأساس الذي ستبني عليها النزعة القومية الأمازيغية مجمل خطابها، وستحاول تأصيله على جميع المستويات التي تقوم عليها كل نزعة قومية: أعني بذلك التأصيل العرقي (ادّعاء وجود عرق أمازيغي خالص يُرمز إليه عادة بمصطلحات "الإنسان الأمازيغي" و"الشعب الأمازيغي")، واللغوي (ادّعاء وجود لغة أمازيغية خالصة، واحدة، وموحَّدة)، والثقافي (ادعاء وجود ثقافة أمازيغية أصلية وخالصة)، والتاريخي (صناعة أساطير تاريخية بشأن الهوية والذات والآخر).

هذا الخطاب الذي يهدف في عمقه إلى تقسيم المجتمعات المغاربية إلى قسمين متصارعين يختلفان على مستوى العرق واللغة والثقافة والتاريخ (الأمازيغي الأصلي والعربي الدخيل)، على حد تعبيرهم، يرتكب أخطاء فادحة تقوم على أساس عملية تشويه متعمَّد لواقع التعدد والتنوع الكبير لهوية سكان شمال أفريقيا، بما في ذلك التنوع الكبير الذي يعرفه المكون الأمازيغي نفسه، وذلك خدمةً لمصالح نخب قومية بدأت في التشكّل حديثًا، وصارت تطمح إلى الحلول مكان النخب القومية السابقة للحركات الوطنية المغاربية ذات التوجه العروبي، وهو ما يشكّل أيضًا خطرًا مستقبليًا على السّلم الاجتماعي وعلى التعددية الثقافية في المنطقة، كما أنه يشكّل عائقًا كبيرًا أمام أي محاولة مستقبلية لتأسيس أنظمة ديمقراطية تقوم على أساس مفاهيم المواطنة، واحترام التعددية، وحقوق الإنسان، وعائقًا أيضًا أمام أي محاولات مستقبلية لتحقيق الوحدة المغاربية المنشودة.

أثّرت النزعة القومية العربية في المغرب الكبير في نظيرتها الأمازيغية بشكل ملحوظ، وهي التي نشأت أساسًا كردّة فعل معكوس على الأولى، بحيث كان مجمل ما أنتجته القومية الأمازيغية نتيجة عملية قلبٍ وعكس لشعارات القومية العربية بشأن الوطن والهوية والوحدة المنشودة، من دون أن تقدم أي جديد، أكان على مستوى الخطاب أم على مستوى الممارسة.

على مستوى الخطاب، لم يتعدّ الأمر تعويض شعارات قومية سابقة، من قبيل: "العروبة"، و"الشعب العربي"، و"الوطن العربي"، بشعارات أخرى مقابلة لها، من قبيل: "الأمازيغية" (تامازيغت)، و"الشعب الأمازيغي" (إيمازيغن)، و"الوطن الأمازيغي" (تامازغا)... إلخ، وكلها– العربية منها والأمازيغية –  شعارات قومية تقوم على أساس تصوّرات مغلوطة عن الهوية وأبعادها، خصوصًا في منطقة مثل المغرب الكبير، عُرفت منذ الأزمان الغابرة بتعدديتها، وتنوّع مكوّناتها البشرية والثقافية.

ومنذ ظهور الحركة الأمازيغية والكلام يكثر في أوساطها عن "اللغة الأمازيغية" ودورها في تشكيل وعي الإنسان في المنطقة وثقافته وتاريخه... إلخ، وعمومًا في تشكيل هويته ووعيه بذاته ومحيطه. بل إن البعض عادة ما يختصر القضية الأمازيغية بمجملها في مسألة "اللغة الأمازيغية" إلى درجة التماهي المطلق بينهما.

لكن هذا التناول يطرح عددًا من الإشكاليات المرتبطة بتلك اللغة نفسها (أي الأمازيغية) ووضعيتها المعقَّدة والمركَّبة، وذلك في إطار أكبر من التعقيد والتشعب الذي تعرفه قضية الهوية اللغوية لسكان المغرب الكبير عمومًا؛ فهل "الأمازيغية" لغة واحدة متعددة اللهجات؟ أم هي لغات متعددة ومختلفة تجمع بينها قواسم مشتركة؟ وهل يمكن أصلًا الحديث عن "اللغة الأمازيغية الموحدة" في سياق التعدد اللغوي في المغرب الكبير؟ وما هي حقيقة الدعوات التي تتكرر باستمرار لتعيير هذه اللغة وتقنينها تمهيدًا لتوحيدها؟


*هذه الورقة منشورة في العدد السابع من دورية "تبيّن" (شتاء 2014، الصفحات 27-46)، وهي مجلة فصليّة محكّمة متخصّصة في الدراسات الفكريّة والثقافيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.