العنوان هنا
مقالات 24 يوليو ، 2013

ظاهرة الشيخ الأسير بوصفها قوّة محدودة التأثير

وليد نويهض

يتولّى وليد نويهض وظيفة منسّق سلسلة إصدارات "طي الذاكرة" التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل منذ عام 1970 في الصحافة. كتب وتولّى مسؤوليات في مجلّات وصحف لبنانيّة وعربية. حصل على شهادة ليسانس في التاريخ من الجامعة العربية في عام 1972، وليسانس في الفلسفة من الجامعة اللبنانية عام 1974. صدرت له مجموعة كتب عن الفلسفة العربية – الإسلامية، وغيرها من قضايا تاريخية، وفكرية، وسياسية.

أنهى الجيش اللبناني تفكيك الخيمة الحديد، وهي آخر رموز المربّع الأمني الذي كان يطلّ منه الشيخ أحمد الأسير على محيطه؛ فالظاهرة التي شغلت الرأي العامّ فترةً من الزمن تهاوت بسرعة من دون أن تترك بصماتها إلا في الدائرة الضيّقة (عبرا) وجوارها اللاصق (الشقق الأمنيّة).

غياب أحمد الأسير عن المشهد السياسي لا يعني أنّ الظاهرة وحيدة عصرها ولن تتكرّر؛ فمثل هذه الحالات تظهر وتختفي وتعيد إنتاج صورتها في أشكالٍ وألوانٍ مختلفة، لأنّها في النهاية مادة حيوية جاءت من الواقع الاجتماعي وهي تتمظهر على المسرح في دور كاريكاتوري للردّ على فراغ سياسي يحتاج إلى كاريزما تتقمّص شخصية الراعي، وتقوم بدور الحامي لسكان الحيّ الذي وُلد فيه أو تصادف انتقاله إليه.

ظاهرة الأسير التي اضمحلّت في المربّع الأمني بعد خروج الشيخ برفقة المطرب فضل شاكر إلى جهةٍ مجهولة، يتوقّع أن تعيد إنتاج صورتها في مكانٍ آخر، ولكن ضمن شروطٍ سياسية مغايرة للمشهد الأوّل. فالصورة قد تكون مشابهة في مظهرها الكاريكاتوري - الكاريزمي، لكن ظلالها اللونية يرجّح أن تكون أكثر رماديّة من ألوانها الفاقعة كما كان أمرها في عبرا (صيدا).

الأسير الذي اختفى تاركًا إمبراطوريته تتداعى تحت قصف الجيش ربّما لن يعود إلى الحيّ مرّةً أخرى. لكن الظاهرة قد تأخذ مداها في مجالات زمانية - مكانية في اعتبار أنّ ما حصل يُبرز أزمة سياسية تعاني منها عادةً أحياء المدن وحاراتها؛ فالظاهرة في أصلها اجتماعية، وهي تمثّل حالة بيئية - ثقافية تعبّر عن مأزق عدم وجود زعامات على المستوى الوطني تلبّي حاجات الناس في مناطقَ مجهولة أو مهجورة أو معزولة عن مراكز القوى السياسية.

مثل هذه الظاهرة التي تنشأ عادةً بسبب غياب القوّة المركزية الجاذبة، يُظهر في النهاية تلك الفجوة الناجمة عن ضعف سلطة الدولة وعدم قدرة مظلّتها الأمنيّة على حماية الناس وتأمين نوعٍ من الاستقرار النفسي، وتقديم ضمانات للتعايش مع الجماعات المتنافرة من أحياء المدينة؛ فالأحياء (الحارات) هي أشبه بالمربّعات التي تحيط بها تلك الأسوار البشرية المتخالفة عادةً في عاداتها وأسلوب تعاملها مع الآخر. وبسبب هذا التخالف والفراغ والغياب تنشأ عادةً ظواهر سياسية هي أقرب إلى قبضاي المحلة الذي يتقدّم ميدانيًّا ليقدّم إلى سكّان الحيّ (الحارة) خدماته الأمنيّة ورعايته الاجتماعية.


ظاهرة القبضاي

ظاهرة الأسير لا تختلف إلّا في الشكل والخطاب الأيديولوجي وآليات التعامل والآلات المستخدمة في إخراج صورة الزعيم وتلوينها للقيام بذلك الدور المحصور موضعيًّا في الحيّ (الحارة)، والذي كان يقوم به "القبضاي" سابقًا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته، في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها من مدن طرفية في لبنان.

آنذاك، كان قبضاي الحيّ يفتح علاقات تقوم على خطّين سياسيّين: الأوّل مع أجهزة السلطة التي تعطيه التغطية والهيبة مقابل تقارير ومعلومات لضبط الانفلات في الشارع وملاحقة الهاربين من القانون. والخطّ الثاني مع الزعيم السياسي (أو الإقطاع السياسي) الذي يهيمن على دائرة انتخابية؛ بسبب نفوذه العائلي ودور أسرته في التعامل التراكمي مع السلطة.

قبضاي الحيّ آنذاك، كان مفتاح الحارة؛ فهو يلبّي حاجات السلطة ورغبات الزعيم في الظروف الاعتيادية أو في لحظات التوتّر الأمني أو الاستنفار السياسي الذي يحصل موسميًّا في المناسبات أو الانتخابات النيابية أو البلدية. والقبضاي هو مختار الحارة غير المنتخب، وله وظائف محدّدة يقوم بها مقابل خدمات يقدّمها للسكّان أو تعطَى له من جانب الزعيم الكبير أو الأجهزة الأمنيّة؛ فهذه العطاءات مقابل الغطاء المعنوي - الأمني تعطي القبضاي سلطةً محلّية وصلاحيات كافية للقيام بدور الراعي (خدمات) أو الحماية (الأمن) للدائرة التي يتحرّك عادةً في وسطها.

يتّخذ القبضاي المظلّة السياسية - الأمنيّة واسطة للزعامة المحلّية؛ بهدف الرقابة وضبط الفوضى ومنع انزلاق القوى الأهلية إلى التصادم مقابل "خوات" يفرضها على أصحاب المحلّات التجارية والأبنية السكنية وسيارات الأجرة. فالخوة هي أشبه بالراتب اليومي الذي يعتاش منه القبضاي وزمرته لتأمين الحماية للحارة من "مخاطر" الأحياء الأخرى، أو لضمان أمن الأسر التي تعيش في إطار منطقة نفوذه.

القبضاي مسؤول عن حماية أهل دائرة سلطته. وهو مكلَّف بمنع التعدّيات والغشّ وملاحقة اللصوص ومراقبة الغرباء الذين يدخلون الحيّ؛ لذلك كان يحتاج دائمًا إلى فريق عمل (أشبه بالمرافقة) يساعده على القيام بمهمّاته الخيرية. ويجري اختيار قوّة المرافقة من شبّان الحارة الشجعان بعد تدريبهم في نادي الحيّ الرياضي على رفع الأثقال وبناء العضلات؛ فالقوّة البدنية كانت ضرورية للتخويف أو لاستخدامها عند الحاجة، لذلك ازدهرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ظاهرة الأندية البدنية (رفع الحديد) في الأحياء إلى جانب مقهى الحارة الذي يمثّل المظهر الخاصّ للاجتماع الأهلي عصر كلّ يوم أو مساءَه. فالمقهى آنذاك كان يقوم بدوره في الجمع والتعارف والتنسيق وتبادل المعلومات، إضافةً إلى كونه نقطة للتواصل والتسلية والترفيه وتصريف الوقت (اللعب بالورق، أو الطاولة، وتدخين الأرجيلة).

النادي الرياضي والمقهى إلى جانب الأجهزة (الحماية) والزعامة (الضمانة الشرعية)، كانت كلّها أدوات القبضاي لتأمين الخوة ودفع أجور المرافقة. لذلك كان معظم قادة الأحياء يمتلكون أو يشاركون في امتلاك الأندية الرياضية (كمال أجسام) والمقاهي بوصفها تمثّل المكان الملائم للتلاقي الاجتماعي والتضامن "العضلي"، لحماية أهل الحيّ من المخاطر واللصوص الأشقياء من الجوار (الحارة الملاصقة).


تعديل وظيفة القبضاي

استمرّ القبضاي يقوم بدوره بوصفه ذاك الوكيل المحلّي للأجهزة الرسمية أحيانًا أو للزعيم السياسي أحيانًا أخرى، إلى أن اندلعت الحرب الأهلية - الإقليمية في لبنان 1975؛ فالحرب مثّلت نقطة تحوّل في صفات القبضاي وأدواره ووظائفه؛ إذ تطوّرت أدوات الحماية، ولم تعد عرض عضلاتٍ ومظاهر استعراضية وصوتًا عاليًا فقط. ولم تعد الخوة كذلك مفيدة لتغطية نفقات الزمرة (المرافقة). والنادي - المقهى أيضًا لم يعد المكان الملائم للتداول والتنسيق في جنح الظلام أو تحت وابلٍ من القذائف والصواريخ.

العضلات فقدت وظيفتها في زمن الرصاص. وغابت الأجهزة عن المشهد بسبب انسحاب الدولة أمنيًّا من الشوارع. وغاب السياسي الذي كان يضطلع بدور الحريص على حماية المربّعات الانتخابية؛ بسبب إقفال البرلمان، وانهيار المؤسّسات، والانفلات والفوضى، وتعطّل مهمّات الدوائر الرسمية؛ فالمربّعات الانتخابية تحوّلت إلى مربّعات أمنيّة، ما فرض على القبضاي الانسحاب أو الهرب أو الاختباء أو التراجع الجزئي عن مهمّاته السّابقة، واستبدالها بوظائف بديلة تقدّم خدمات خاصّة للأحزاب أو الفصائل المسلّحة.

في فترة الحرب، انخرطت ظاهرة القبضاي في إطارات سياسية - أيديولوجية، وتحوّلت إلى مجموعات مسلّحة تقوم بدور الحماية الأمنيّة للحيّ أو وكلاء يلبّون حاجات الأحزاب والفصائل الكبيرة، ويجنّدون المقاتلين عند احتدام المعارك على خطوط التماسّ؛ فالقبضاي كان يلبّي رغبات الكثير من القوى العقائدية حين ينخرط في صفوفها، مقابل موازنة ماليّة توزّع على رفاق السلاح، لضبط الاستقرار في الحارة. وكان القبضاي يقوم أحيانًا بدور الداعية الذي ينشر الأخبار، وينقل المعلومات والآراء، ويدافع عن مواقف الحزب (أو الفصيل) بلغةٍ شعبوية بسيطة ومفهومة من الشارع.

تعزّز موقع القبضاي في فترة غياب سلطة الدولة ميدانيًّا؛ بسبب حاجة الناس إلى الحماية أو الدفاع عنهم، في حال تعرّضوا لتحرّشات أو استفزازات أو اعتداءات من الخصوم الأيديولوجيين (أحياء مجاورة) أو قصف الميليشيات. وحتّى يكسب القبضاي ثقة الجماعة الأهلية، كان عليه أن يقدّم خدمات اجتماعية (توزيع المعاشات والأدوية والموادّ الغذائية، وتأمين المياه والكهرباء والإغاثة الطبّية). كما كان يقوم بدور المنظّر الأيديولوجي والشارح للأفكار (توزيع المناشير أو المجلّة، وإطلاق تصريحات نيابةً عن زعيم الحزب).

بسبب هذه المرجعية المحلّية، مثَّلت ظاهرة القبضاي قوّةً جاذبة أخذت الأحزاب والفصائل تتنافس على كسبها، بإغداق المال والعطاءات والتدريب والتسليح؛ حتّى تكون إلى جانبها في لحظات الاصطدام. وبسبب قدرة القبضاي على فهم الناس والتفاهم معهم والتخاطب مع سكّان الحارة بِلغتهم البسيطة والسهلة، نجحت الظاهرة في التكيّف مع المتغيّرات ما أعطاها قوّة التواصل مع المحيط، وربطه بقنوات حماية من حزبٍ سياسي أو فصيل مسلّح.


القدرة على التكيّف

إعادة إنتاج الوظيفة في زمن الحرب أعطت ظاهرة القبضاي فرصة للاستمرار، وأحيانًا توريط الأحزاب والفصائل في اشتباكات محلّية، دفاعًا عن هذا الموقع أو تأييدًا لذاك الحليف. لذلك انقسمت ظاهرة القبضايات، وانشطرت وتوزّعت أهليًّا على محاور سياسية تتوافق على المبادئ العامّة، وتتخاصم على مناطق نفوذ في داخل الشوارع والحارات والأحياء. وهناك قبضايات تحوّلوا إلى رؤساء أحزاب وأمناء فصائل محلّية تصدر منشورات خاصّة، وتطلق تصريحات شبه يومية، وتوزّع صورها، وتلصقها على أبواب المحلّات التجارية والجدران، وترفع أعلامها المستقلّة وشاراتها وألوانها خلال العراضات والمواكب والاحتفالات والمهرجانات.

نجحت ظاهرة القبضاي في الصمود؛ لأنّها تمتلك حيوية ومرونة وقدرة على التلوّن والتكيّف مع الموجات من دون حرج، في حال اضطرّ القبضاي إلى تبديل مواقفه وتغيير تحالفاته بسبب الظروف أو ظهور قوّة طارئة غير محسوبة في أفق طموحاته أو توجّهاته المحلّية؛ فالتبدّل والتلوّن والتغيّر ليست عيبًا، وهي لا تتطلّب الكثير من التبرير والتفسير والشرح عند التعرّض لأسئلة جمهور الحيّ وسكّان الحارة؛ فالوظيفة تحتاج إلى ميوعة أيديولوجية تتكفّل بالتغطية على كلّ القراءات والمواقف التي يتّخذها القبضاي استجابةً لمصالح الحيّ وسكّان الحارة.

استمرّ وضع القبضاي المتأرجح بين حامل أيديولوجية ثورية طارئة والقيام بدور المسلّح الحامي لسكّان الحارة يتجرجر إلى أن حصل الاحتلال الإسرائيلي في حزيران / يونيو 1982 وما تبعه من تداعيات تمثّلت بخروج المقاومة الفلسطينيّة بحرًا والقوّات السورية برًّا من لبنان، ونجاح حزب الكتائب في انتخاب قائده العسكري (القوّات اللبنانية) رئيسًا للجمهورية.

مثَّل هذا الحدث المفصلي ضربةً معنويّة لظاهرة القبضاي، حين تزعزعت الهياكل التنظيمية لأحزاب الحركة الوطنية، وبدأت في التفكّك والانهيار تباعًا؛ ما دفع بعض الأحياء والحارات إلى تشكيل نواة محلّية للحماية من احتمالات الاجتياح الميليشاوي وارتكاب مجازر على غرار صبرا وشاتيلا.

أدّى القلق والخوف والتضعضع إلى توليد حاجة إلى مظلّة محلّية تتحمّل نفقات الدفاع وتحصين الحيّ من المخاطر، وهو أمر ساهم في إعطاء فرصة لإعادة إنعاش ظاهرة القبضاي؛ فالقبضاي الذي انهار بعد الاجتياح وخروج المقاومة من المدن الساحلية، انكفأ إلى داخل الحارة وأخذ يرتّب موقعه الجديد بما يتلاءم مع ظروف اللحظة والتحوّلات الميدانية التي كسرت المعادلة والموازين. وتنوّعت المواقع الجديدة بحسب طموحات كلّ قبضاي؛ إذ استقال البعض وعاد إلى ممارسة مهنته (حدّاد، نجّار، دهّان، صاحب محلّ لبيع الخضار أو اللحوم)، وتوجّه البعض إلى إعادة ربط شبكته الأهلية بالسلطة العائدة إلى واجهة الجمهورية، وانعزل البعض في الغرف السّرية بحثًا عن دورٍ ينسجم مع بدء نموّ ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال.


موجة دينيّة

آنذاك، أخذت الموجة الدينية في النموّ؛ لتعبئة الفراغ السياسي الناجم عن الاحتلال (خروج القوّات الفلسطينيّة - السورية) وما أنتجه من رموز بدأت تروّج لفكرة عودة الدولة في فضاء إقليمي ودولي داعم للاستقرار والإعمار. وترافقت الموجة الدينية مع تصاعد وتيرة المقاومة وبدء انكشاف الاحتلال وعجزه عن فرض صلحٍ قسري على لبنان، ما أدّى لاحقًا إلى تكوين حالات سياسية ملتبسة تجمع الدين بالمقاومة وتدمج السلاح بالصلاة.

مثّلت الجوامع والمساجد والحسينيات في فترة الثمانينيات، تلك الملاذات الآمنة لمواجهة الاحتلال وأعوانه بالخطب العنيفة والتجمّعات الحاشدة في المناسبات (الأعياد) وإقامة صلاة الجماعة يوم الجمعة في مختلف الأحياء والحارات. وسهّلت هذه الأجواء المشحونة بالغضب والتوتّر والضعف، مهمّة القبضاي بوصفه يمثّل ذلك الغطاء البديل عن فراغٍ سياسي يحتاج إلى نوعٍ من الطمأنينة حتّى تستقرّ النفوس وترتاح من مخاطر القلق الدائم.

اختلفت مهمّة القبضاي في فترة التسعينيات عن الفترات السابقة؛ فالمسجد أخذ مكان المقهى أو النادي الرياضي، حين تحوّل إلى ملاذٍ آمن لأهالي الأحياء والحارات. وبدأ الشيخ يمثّل تلك الحلقة الوسيطة بين حياة الناس وحاجاتهم اليومية ومتطلّبات الردود على أسئلة لا يفقه الإجابة عنها سوى العلماء الذين درسوا في المعاهد والحوزات الدينية أو تخرّجوا فيها. وترافقت ظاهرة الشيخ المقاوم مع تصاعد العمليّات العسكرية ضدّ الاحتلال وتطوّر تكنولوجيا التواصل والاتّصالات، ما أضفى هيبة مضاعفة على جيل القبضايات السابق.

في نهاية التسعينيات، بدأت فترة إعادة هيكلة صورة القبضاي؛ فهو لم يعد صاحب العضلات المنفوخة (رفع أثقال)، ولا صاحب المقهى الذي يجمع أبناء الحيّ للتسلية والاستماع إلى خطب الإذاعة وأغانيها، وتسويق أخبار الزعيم (الإقطاع السياسي)، وتبادل المعلومات، وتقديم الخدمات، والتوسّط مع السلطة للتوظيف أو الموافقة على طلب للسفر أو رخصة للبناء وغيرها من المصالح والرغبات البسيطة.

أصبح القبضاي الحديث صاحب وجهة نظر يستخدم التكنولوجيا (الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي) للتخاطب، ويتّخذ من المنبر وسيلةً للاندماج مع الجماعة الأهلية في الحيّ. وأصبح جامع الحارة مع توالي الأسابيع، هو الإطار اليومي الناظم لأبناء المنطقة التي يشرف على فتواها الشيخ الذي تعزّز دوره مع تصاعد الموجة الدينية ونموّ المقاومة.


الشيخ القبضاي

كانت ظاهرة الشيخ القبضاي في إطارها العريض نتاج متغيّرات ثقافية طرأت على الأحياء والحارات مترافقة مع تطوّر تقنية الاتّصالات وتوسّع شبكة الهواتف النقّالة، وازدهار محطّات التلفزيون والفضائيات. وساهمت الفترة الفاصلة بين خمسينيات القرن الماضي والعقد الأوّل من القرن الجاري (أكثر من 50 سنة)، في تنويع مصادر طاقة القبضاي وتلوين وظائفه ودفعها للانتقال من موقع الرجل الجوّال في دائرة نفوذه، إلى مشرفٍ على مكان (مسجد) يتمتّع برمزية تعطي قدسيةً للكلام وصدقيّةً للخطاب.

أعطى استبدال المكان مواصفاتٍ للقبضاي البديل في فترةٍ زمنية قياسية؛ بسبب نموّ أجهزة التواصل والاتّصالات والمواصلات التي ساهمت في تأمين مجالات جغرافية أوسع للتأثير في الرأي العامّ وإيهامه بتوافر القوّة والقدرة على صنع المعجزات وتغيير المعادلات والموازين. وظاهرة الشيخ القبضاي الذي يتّخذ من مكان العبادة نقطة انطلاق لتكتيل الجماعة الأهلية في الحارة (الحيّ) في إطار الملاذ الآمن الذي يحصن الحياة اليومية والسلوك الشخصي، تختلف في مظهرها وأسلوب عيشها وسلوكها وتعاملها مع الوقائع الميدانية واستخدامها أدوات التواصل والتعارف عن فئة العلماء من رجال الدين والفقهاء.

الشيخ القبضاي لغته شعبية، وعلومه الدينية بسيطة، ودرجة اطّلاعه متواضعة وأقرب إلى السطحيّة. وكلّ هذه الصفات تعطيه ميزات لكسب الناس بعفويّته، ولا ينعزل عن محيطه المتردّد أو المتنوّع الولاءات. وهذه المواصفات التي يمتاز بها الشيخ القبضاي تختلف عن هيئة المرجع الديني وفئة العلماء والفقهاء وهيبتهم؛ فهو لا ينغلق عن الناس وإنما يمارس وظيفة مفقودة؛ بسبب تراجع الأحزاب، وغياب الفصائل، وتفكّك وجاهة الزعماء الوطنيين التقليدية.


الشيخ الأسير

ظاهرة الشيخ أحمد الأسير ليست نادرة، وهي غير بعيدة عن هذه الأجواء التي تراكمت وتدحرجت في مختلف أحياء المدن اللبنانية وحاراتها الشعبية ذات الدخل المتوسّط. بعض الأحياء عشوائية، وبعض الحارات أكثر تنظيمًا. لكنّها في الإطار الجامع تشكّل بيئة ثقافية وبؤرة توتّر ناجمة عن القلق وغياب سلطة القانون. وحين تتقلّص قوّة الدولة، تنمو مكانها مراكز قوى تأخذ على عاتقها وظائف الدفاع بذريعة الحماية من الآخر.

وسيرة الشيخ أحمد الأسير ليست بعيدة عن هذه الفضاءات التي استمدّت عناصرها من الوقائع اليومية؛ فالأسير وُلد في صيدا سنة 1968 من أسرةٍ متواضعة يرعاها أب تخرّج في برنامج "ستوديو الفنّ" التلفزيوني ليمتهن الغناء في المطاعم والحفلات (والده عازف عود)، برفقة شقيقه الأصغر (أمجد) والمطرب فضل شاكر.

نشأ الأسير فقيرًا في حارة صيدا. وتلقّى علومه الأولى في مدرسة ألكسندرا (تديرها الراهبات) إلى أن وقع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فابتعد عن الأجواء الفنّية وبدأ يفكّر في الأمور الدينية؛ فتلقّى الدروس في جامعة بيروت الإسلامية، ونال إجازة في الفقه المقارن. ولكنّه لم يكمل علومه. وتفرّغ للعمل الدعوي ملتحقًا بصفوف الجماعة الإسلامية لفترة أربع سنوات. ثمّ استقلّ عنها؛ ليؤسّس مع مجموعة أصدقاء مسجد بلال بن رباح في منطقة عبرا عام 1997 لتبدأ الظاهرة في النموّ، وتأخذ أبعادها المحلّية مستفيدةً من تطوّر تقنيات التواصل والاتّصال.

قبل أن يصل الأسير إلى موقعه (إمام مسجد)، عانى كثيرًا ومرّ بمحطّات مهنية مختلفة؛ فهو تعلّم إصلاح الإلكترونيات. وفتح محلًّا لمزاولة مهنة التصليح. وسافر إلى باكستان في رحلة دعوية وعاد فاشلًا. فأخذ يتنقّل من عملٍ إلى آخر من دون استقرار؛ فاشتغل في قطاع البناء (الورش)، وفي مصنع للحديد، وفتح فرنًا لبيع المناقيش (الزعتر)، واشترى سيارة لنقل الخضار والفواكه من صيدا وبيعها في بيروت، وعمل في محلّ لبيع الهواتف النقّالة ومتجر للموادّ الغذائية وغيرها من الأعمال لتأمين الرزق[1].

 تقاطعت كلّ هذه الحقول لترسيم صورة شيخ/قبضاي أخذ يتفاعل مع حاجات الدائرة الضيّقة التي كان يتجوّل في إطارها وينفعل مع إرهاصاتها، مستخدمًا أجهزة تقنية معاصرة للتخاطب مع جمهورٍ بعيد لا يراه إلّا في الصورة، ويتعامل معه بوصفه ظاهرة موضعية لا تتجاوز في تأثيراتها العامّة حدود الحيّ (حارة عبرا).

 لذلك كان من الطبيعي أن تكون صورة الشيخ عرضة للتنابذ والتجاذب والاستقطاب، حين تظهر على شاشات التلفزيون والمرئيات والهواتف النقالة والمواقع الإلكترونية، بأشكالٍ مختلفة (عازف، ومتزلّج، ولاعب كرة، وغطّاس، وحامل كلاشينكوف، ويتدرّب على القتال في خنادق مجهولة المكان)؛ فالصورة الإلكترونية المترافقة مع تصريحات وتهديداتٍ عنيفة وقطع طرقات ونصب خيم للاحتجاج، كانت في مجموعها تشكّل هيئة كاريزمية/كاريكاتورية تجمع بين واقعٍ افتراضي غير قادر على تجاوز حدود الحارة، ومساحة يتّخذ منها منبرًا للخطابة أو التحريض وإثبات الوجود في أكثر من مكان.

هذه هي حدود ظاهرة أحمد الأسير مهما جرى تكبيرها وتضخيمها وتعظيمها؛ فالظاهرة موضعية ومحلّية التأثير. وهي تشبه الكثير من الحالات في مناطق وحارات وأحياء أخرى. والتشابه لا يعني بالضرورة وجود روابط تنظيمية (حزبية) تجتمع عموديًّا على برنامج سياسي مركزي، كما هي حال الأحزاب الحديثة. ومثل هذه الحالات لا يمكن أن يُتوقّع منها أكثر من التعاون والتنسيق وتبادل الآراء والزيارات؛ وذلك بسبب الطبيعة الاجتماعية المحلّية التي تتحكّم في آليات هذه الظواهر الموضعية.

في هذا السياق، تبدو ظاهرة الشيخ القبضاي غير مفتعلة، وتتكرّر حالاتها بوصفها حاجة اجتماعية ناجمة عن ضعف سلطة الدولة وتقلّص وظائفها، في فضاءٍ إقليمي أخذ ينشطر عموديًّا ويفكّك شبكات العلاقات التقليدية التي أصيبت بالوهن بفعل موجات الزمان. والظاهرة في صورتها المتخيّلة أو المشاهدة مرئيًّا، ليست فوق الواقع وأكبر منه، وإنّما هي جزء بسيط من تعبيراته التي تبقى محدودة ومرهونة بمدى طاقة الحيّ (الحارة) على التحمّل. لذلك يمكن ملاحقة نموّ الظاهرة أفقيًّا وليس عموديًّا في اعتبار أنّ كلّ حالة منفصلة عن الأخرى ولا تتشابه سوى في المظهر العامّ المشترك؛ لأنّ أسباب نموّها تختلف في خصوصياتها (البيئة، والبؤرة) عن الأخرى.

هذا بالنسبة إلى الجانب الاجتماعي (البيئة الثقافية) لظاهرة الأسير. أمّا على الجانب السياسي، فالمسألة مختلفة؛ لأنّ الشيخ نجح في استخدام التقنيات لرفع صوته وإرساله إلى مجالاتٍ بعيدة. ورفع الصوت لا يعني بالضرورة أنّ صاحبه يتمتّع بقوّة ممتدّة خارج أسوار الحيّ (الحارة). وهذه القوّة المحدودة لا تحتاج بالتأكيد إلى قوّات مجوقلة للسيطرة عليها والتحكّم في مداخلها ومخارجها. فالظاهرة عمومًا، وكما أكّدت الوقائع الميدانية، صوتيّة. ولكنّها كانت حاجة إلى الفريق الآخر ليصنع منها انتصارًا عسكريًّا يُحسّن فرص صهر الجنرال ميشال عون (قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز) بالوصول سريعًا إلى قيادة الجيش اللبناني[2].

لا يُعرف الآن أين هو الأسير؛ فالظاهرة اضمحلّت من دون أن تترك بصماتها إلا في الحيّز الضيّق الذي انطلقت وفاضت منه، ما يؤكّد مدى انعزالها السياسي عن الميدان اللبناني، وانحصارها في إطارٍ لا يتجاوز حدود قبضاي الحارة.

 


 

[1] للمزيد عن أحمد الأسير، انظر: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، على الرابط: http://ar.wikipedia.org/wiki

[2] عن شامل روكز، انظر: www.annahar.com، www.alkalimaonline.com