للاطلاع على الورقة كاملة، انقر هنا، أو انقر على الصورة في الأسفل
مدخل
إنّ ارتباط الدين بالقيم الإنسانية الكونية ليس أمرًا جديدًا أو عرضًا حادثًا على مستوى النظر العقلي، كما يمكن أن يستشّف للوهلة الأولى؛ بل إنّ تعالقهما وتداخلهما يضربان بجذورهما العميقة في تاريخ الفكر النظري. يحتّم علينا مثل هذا الارتباط، متى أردنا الكشف عن طبيعته أو شكله، أن نحيط الفهم بتلك التساؤلات والإشكالات التي يطرحها حوار الديني والكوني. فكلا الجانبين قيم متداخلة ومتشابكة، تتصارع تارةً وتتحاور أخرى؛ لكن طبيعة فهم تشابكهما هذا، وكذا المسارات التي يؤدي إليها حوارهما المفترض ذاك، هو ما سيحدّد أمر تعارضهما وتنافيهما أو تعانقهما وتلاقيهما.
لذا، فقد ظلّ دومًا الصراع بين هذين المعطيين جدليّة قيمية معقّدة ومتشابكة منذ القدم، خصوصًا لمّا تأسّست قناعة فلسفية مفادها أنّ العقلي قول برهاني، ومن ثمّ فحقائقه بنائية استدلالية وكونية؛ بينما الديني قول قصصي، من ثمّ فحقائقه رمزية مرسلة وغير قابلة للإثبات العقلي. ظلّت تشتغل هذه التفرقة بوعيٍ أو من دون وعي، إلى أن نجم عنها تفريق ثانٍ مفاده أنّ الدين أديان شتّى، ومن ثمّ فهو ما يفرّق الناس ويشكّل خصوصياتهم؛ بينما العقلي واحد يجمع كلّ الناس على اختلاف خصوصياتهم، ومن ثمّ فهو ما يشكّل كونيتهم[1].
أفضى هذا التعارض بين الديني والعقلي إلى خلق المفارقة الشهيرة بين الخصوصية والكونية، والتي طالما غذّتها التصورات المتنطّعة والمتطرّفة لهذا المنظور أو ذاك. ثمّ، وهذا هو الأهمّ، نجم عن كلّ ذلك قيام ما نسمّيه "جدلية الديني والكوني" التي طالما شكّلت تاريخ الصراع بين الخصوصيات الثقافية والنزوع الكوني للقيم المشتركة للتجارب البشرية على اختلاف هويّاتهم الدينية. وقد أدّى هذا الصراع إلى البحث عن طبيعة هذه الجدلية قصد تجلية غموضها ولبسها، وذلك لإزالة سوء الفهم عنها ثمّ وضعها في سياق التحاور والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب عوض النزاع والصدام المدمّرَين، مصداقًا لقوله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير)[2].
هكذا، تكمن المسألة في الأساس في طبيعة فهمنا للعلاقات القائمة بين المعطى الديني بما هو مجموعة قيم مخصوصة والمعطى الكوني بما هو جملة قيم مشتركة، وذلك من أجل البحث عن السبيل الأمثل والمفيد لاستجلاء طبيعة هذه "الجدلية" القيمية التي طبعت تاريخ الحوار بين الكوني العقلي والديني الخصوصِي، وفهمها.
لكن قبل استشكال هذا المطلب وكذا العلاقة المفترضة بين المعطيين: الديني والكوني، نودّ بدايةً أن ندقّق النظر في المعنى الذي سنوظّف به كلا المفهومين: "الديني" و"الكوني"، حتى نقدر بعد ذلك على تحديد المقصود من استخدامنا لهما، لمّا نقيم الترابط بينهما في ما نسمّيه "جدلية الديني والكوني". فنقول: إنّ الديني Le religieux[3] معطى بشري عامّ مشترك بحيث لا ينفكّ منه أحد من الناس سواء أدرك ذلك أو لم يدركه؛ إذ نحن البشر على الحقيقة، كائنات متديّنة بالطبيعة والفطرة القائمة فينا مصداقًا لقوله تعالى: (يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحًا فملاقيه)[4]. فكدح الإنسان هذا هو دينه تجاه القوّة الخارقة التي أوجدته والتي تسمّى تلميحًا أو تصريحًا في الدين العقلي بـ "الطبيعة" كما في الفلسفات اللادينية، بينما يكون بالنسبة إلى المؤمن بالوحي السماوي هو الله الذي لا إله إلّا هو الذي خلق كلّ شيء من لا شيء بإرادته وحكمته بما في ذلك هذا الإنسان. لذلك يدين له المؤمن به بالفضل والطاعة والعبادة والعمل الحسن الخيّر.
أمّا بخصوص الموقف الدهراني اللاديني Le secularisme، فإنّه وإن كان يستبعد الدين بمعناه السماوي القدسي المتعالي؛ إلا أنّه لا يخفي تعلّقه بمثالات أخرى معنوية واعتبارية دنيوية ودهرية، يؤلّه من خلالها إمّا هذه القيمة المعنوية أو تلك المادية. لذا فالظاهرة الدينية في معناها الشامل ليست مقتصرة فقط على تلك الأشكال الطقوسية الرمزية والشعائر الملّية التي غالبًا ما نصادفها في المجتمعات الدينية التقليدية[5]. وإنّما تمتدّ أيضًا حتى إلى أكثر التصورات العقلانية معاداةً للدين بمعناه الكلاسيكي، مثل تلك النزعات الإلحادية الجاحدة للوحي وكذا الناسوتية L’humanisme الحديثة والمعاصرة التي لا يكون تديّنها طقوسيًّا شرعانيًّا في الغالب، بل اعتباريًّا فقط وميتافيزيقيًّا يجوز نعته بالدين الطبيعي الجاحد. ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّه يجوز لنا عدّ المعطى الديني عمومًا كمثل جِلْدَة الإنسان التي لا انفكاك له منها؛ بذلك يصحّ القول إنّه لا يوجد في الوجود إنسان واحد غير متديّن.
بهذا المعنى، نعدّ المعطى الديني في طبيعته العامة ظاهرة كونية مثله مثل باقي القيم الإنسانية الكونية الكبرى (الحرية، والعدل، والمساواة، والحق...). لكن، هاهنا تكمن المفارقة الدينية في عمقها وحقيقتها؛ فبالقدر الذي يحضر المعطى الديني عند جميع الناس، فإنّه كذلك وبالقدر نفسه أيضًا يمثّل العنصر الأكثر خصوصية في حياتهم الشخصية والاجتماعية، إذ بموجبه يصبح لكلّ إنسان معتقداته الخاصة التي باسمها يعنّف الآخر أو ينفيه فيصادر حقوقه باسم الدفاع عن ذلك المعتقد. فهل يعني ذلك أنّ الديني الذي قلنا عنه إنّه كوني (من حيث كونه حاضرًا لدى الجميع) إنّما يشذّ عن القاعدة التي تقول إنّ كلّ ما هو كوني فهو مشترك، ومن ثمّ فهو معطى يجتمع الناس حوله ولا يفرّق أبدا؟
للجواب عن هذا التساؤل نحتاج بدايةً إلى توضيح المقصود بالكوني Universel، إذ الشائع بين الناس أنّ ما يتقاسمونه إنّما يشملهم كلّهم لذلك فهو مشترك بينهم. أمّا في علم المنطق، فغالبًا ما يستخدم مفهوم الكوني للدلالة على أنّ القضية المنطقية التي تشير إلى جملة من العناصر أو الأفكار هي التي يشملها الحكم نفسه، مثل قولنا: كلّ الناس فانون، بحيث يصير الحكم فيها شاملًا كلّ إنسان من دون استثناء. بينما في الاستخدام الفلسفي العام، فإنّ الكوني غالبًا ما يدلّ على فكرة معيّنة أو قيمة ما عليا منظورًا إليها بوصفها مثُلًا أعلى، مثل (الخير، والجمال، والعدل...). وقد يدلّ الكوني أيضًا على منظورية قيمية أخرى قادرة على تأطير الإنسانية في كلّيتها وشموليتها مثل: السلام، والعدالة، والحرية...[6].
بمعنى آخر، يدلّ الكوني على المعطى الذي يوحّد الناس ويجعل اختلافاتهم تمّحي بخصوص جملة القضايا أو القيم التي يتقاسمونها ويشتركون فيها، تجريدًا لها ورفعًا للخصوصية والمحلّية عنها، وذلك من خلال إعادة تأسيسها على أساس الفهم الكوني للإنساني بوصفه مواطنًا عالميًّا. فلمّا فُهِمَ الكوني على هذا الأساس وضع على نقيض المعطى الديني الذي يظلّ خصوصية شخصية فردية بين الإنسان وربّه. بذلك يصحّ أن يفهم الديني على أنّه كوني من حيث هو معطى يخترق الجميع ويوجد لدى كلّ واحد واحد؛ إلّا أنّه، وفي مقابل ذلك أيضًا، يصحّ أن يقال إنّ الدين هو ما يفرّق الناس نِحَلًا وشيعًا كثيرة، حتى قيل إنّ لكلّ دينه الخاص (لكم دينكم ولي ديني) كما في مجتمعاتنا الحديثة المعاصرة، حيث نجم عن انفجار القيم وتعدديتها الدعوة إلى ممارسة الحريات الدينية، ومن ثمّ فصل الديني عن الفضاء العمومي كما في التجربة التاريخية الغربية الحديثة.
هكذا يستنتج من تقابل العلاقة بين الديني والكوني تعارضهما وتباين الواحد منهما مع الآخر، على أساس أنّ الكوني بمنزلة قيم ومثل عليا توجد في مختلف الثقافات البشرية على الرغم من تعدديتها وكلّ الاختلافات القائمة بينها. لذا يظلّ الديني عقيدة وهويّة في عداد الخصوصيات الفردية والجماعية التي يسعى كلّ طرف إلى صيانتها والدفاع عنها. لكن على الرّغم من عالمية السعي أو كونية هذه الإرادة الجماعية في البحث عن صيانة الهويّة الدينية، فذلك لا ينفي التفاوت بين ما هو ديني خاص وما هو كوني مشترك على الرغم من وجود ما قد يساعد على ترسيخ المشترك ويعزّزه في الأديان المختلفة نفسها، كالتسامح الديني La tolerance religieuse على سبيل المثال: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ)[7]، وكذا الإيمان بالإله الواحد على الرّغم من اختلاف العقائد الملّية للأديان السماوية.
لهذا فإنّ إشكالية الديني والكوني في عمقها لا تقوم فيما إذا كان الواحد منهما يقوم على نفي الآخر، أو في القول بوجود تعارض صميمي بين منطقيهما؛ بل هي على الأصحّ، تكمن في الجواب عمّا إذا كان كلّ واحد منهما يشترط الآخر؟ وكيف يشترطه؟ وعلى أيّ أسس ومبادئ يقوم هذا الاشتراط[8]؟ بمعنى آخر؛ كيف يجب أن يفهم الناس استحالة وجودهم وتعايشهم في ظلّ تعصّبهم الديني والقيمي، ومن ثمّ ضياعهم وغربة بعضهم عن البعض في الوقت الذي ينشدون فيه الإيمان والتعارف والكونية دون فقدان اختلافاتهم وتمايز هوياتهم الثقافية والدينية؟ أليس ما يحكم علاقة الديني بالكوني هو التبادل القيمي الإيجابي المشترك عوض الصراع والانغلاق الهوياتي السلبي؟ كيف يمكن أن نجعل من هذه الجدلية القائمة بين القيم الدينية والقيم الكونية وسيلة فعّالة لترسيخ الحوار بين الشعوب والثقافات قصد تقاسم الخيرات المشتركة وتجاوز الأحقاد والعصبيات والأنانيات الضيّقة؟
تُظهر هذه التساؤلات وغيرها مدى حاجتنا الملحّة اليوم إلى إبراز كيف يمكن للقيم الدينية والكونية أن تتحاور وتتعايش لتتجاور، حتى تحقّق إنسانية الإنسان وظيفتها الوجودية المتمثلة في الكمال والرشد والتقدم الإيجابي لكلّ البشرية. ولتحليل هذه الإشكالية ومناقشتها، نقترح تناولها كما يلي:
- قسم أوّل: ينصرف إلى إبراز السياقات الفكرية والتاريخية لتبلور إشكالية الديني والكوني في تنافيهما وتعارضهما وتوضيح ما آل إليه جدلهما فيما بعد.
- ثمّ قسم ثان: يعالج دور القيم الإنسانية الكونية في تعارف الناس وتأسيس تنوّعهم (جدلية القيم الإنسانية)، متسائلين في الأخير عن آفتَي: الفهم الذاتي والتحيّز الأيديولوجي، وما يترتّب عنهما من عنف وخروج عن روح الحضارة الكونية الإيجابية.
[1] إنّنا نوظّف مفهوم الكوني في هذا البحث قاصدين به أحقية كلّ ثقافة على كوكبنا، كيفما كانت، أن تدّعي لنفسها نصيبها في هذه الحضارة الإنسانية العالمية دون أن تزعم الهيمنة على الثقافات الأخرى. بذلك فالكوني هو كلّ ما ساهمت الإنسانية في بنائه وتشييده على مرّ تاريخها الممتدّ إلى آلاف السنين، إنّه الفكر النظري: التقنية، العلم، الفكر، الآداب؛ انظر: جيرار كليرك، العولمة والثقافة، جورج كتورة (مترجم)، ط1 (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، أيلول/سبتمبر 2004).
[2] القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 13.
[3] نستعمل معنى الدين كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: (ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، سورة آل عمران، الآية 85. ومعناه أنّ الدين المقبول من المؤمن بالرسالة السماوية هو الإسلام، وللإنسان أن يختار غيره من الأديان لكنّها غير مقبولة منه يوم الحساب، وفي هذا اعتراف ضمني بتديّن الناس بأديان أخرى غير الإسلام، لأنّ المسألة في النهاية مرتبطة بالإرادة الحرّة للفرد وعليه أن يختار.
[4] القرآن الكريم، سورة الانشقاق، الآية 6.
[5] بهذا المعنى يمكن تجاوز المنظور الأنثروبولوجي الضيّق لفهم الظاهرة الدينية مثل منظور "ميرتشيا إلياده" الذي يربط المعطى الديني فقط بتجلّي المقدس وظواهريته في الحياة، مستثنيًا الأشكال الأخرى اللادينية كالدهرانية التي ترفض التجلّي المقدس في العالم لكنّها تقيم مكانه تنصيبًا جديدًا اعتباريًّا لقيمة أخرى زمنية مثل الإنسان المؤلّه عند الفيلسوف الناسوتي الفرنسي المعاصر لوك فيري. انظر: ميرتشيا إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، سعود المولى (مترجم)، ط1 (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007).
[6] Élisabeth Clément et autres, La philosophie de A à Z (Paris : Hatier, 2000), p 456.
[7] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 256. تؤكّد هذه الآية الكريمة اختيارية المسألة الدينية انطلاقًا من مبدأ حرية الاختيار الموجودة لدى الإنسان.
[8] إنّنا ونحن نؤكد هذا الاشتراط، نعي جيّدًا أنّه لا يشمل المعرفي المحض، لأنّ ذلك يخصّ العلم والمعرفة حيث يتعذّر على المنطق الغائي الذي يقوم عليه الديني أن يشمله وإلا أصبح العلم غير العلم كما نعرفه اليوم؛ بل نقصد به فقط الشرط الأخلاقي القيمي الذي ما فتئ الفيلسوف طه عبد الرحمان يدعو إليه. وسنعود إلى هذا في حينه.