*
هذه المقالة هي مقدمة كتاب:
مقالات مرجعية في دراسات الانتقال الديمقراطي، ترجمة مجموعة مترجمين، الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023
في عام 2017، نُشر كتابٌ جماعي حرره محمد محمود ولد محمدو وتيموثي سيسك، عنوانه
الدمقرطة في القرن الحادي والعشرين: إحياء علم الانتقال، شارك فيه باحث عربي واحد، هو بهجت قرني، بفصل عنوانه: "علم الانتقال على الطريقة العربية: تأكيدٌ وتحدٍّ". وقد حاجّ فيه، وهو يكتب عن العالم العربي أو ما سماه "شرقًا أوسطَ جديدًا"، بأن حدود بردايم الانتقال لا تنفي قدرته على تشكيل طريقة تفكيرنا بشأن "موجات" تغيّر نظام الحكم في عدد متزايد من البلدان، فضلًا عمّا يمكن أن يفيدنا به، مفهوميًا وإمبريقيًا، خاصة من خلال البيانات المتراكمة حول جوانب مختلفة، وربما قابلة للمقارنة، للانتقال في مناطق مختلفة من العالم، من أميركا اللاتينية إلى جنوب أوروبا وشرقها إلى العالم العربي. وعلى الرغم من أن منطق
إحياء علم الانتقال في الكتاب برمّته يستند إلى التحديات التي تواجه دراسات الانتقال في تفسير حالات الانتقال العربي بعد انتفاضات عام 2011، فإنني أسوقه مثالًا للتشديد على مسألتَين رئيستَين.
المسألة الأولى هي أن ما يُسمى علم الانتقال ليس عرضةً للفناء والإحياء بهذا المعنى، لكنّه كأيّ حقل معرفي ينمو على حل المزيد من الأحاجي Puzzle-solving (أو حل المشكلات، أو تفسير الحالات الشاذة، أيًّا كان المُصطلَح عليه) التي تواجهه في العالم الواقعي المتغير باستمرار؛ فكلما تغير الواقع، واستجدّت أحجيات جديدة أو حالات شاذة لا يمكن أن تتعامل معها المقاربات السائدة، بات في حاجة إلى نقد ذاتي ومراجعة وتنقيح. هذا ما تقوم به حقول المعرفة الاجتماعية باستمرار، ولا ينبغي لدراسات الانتقال الديمقراطي أن تشذّ عن ذلك. أما المسألة الثانية فهي أن البلدان العربية ليست استثناءً بأيّ معنى من المعاني، إلا بالمعنى الأيديولوجي الذي بثّته دراسات الاستشراق، والذي كشفت انتفاضات الربيع العربي ضيق أفقه. وإن كان ثمة قصور في فهم المنطقة العربية من منظور حقل الانتقال الديمقراطي السائد، فهو يعود إلى سببَين رئيسَين (من بين أسباب أخرى): الأول هو التسليم بفرضية الاستثناء، ومن ثم استبعاد المنطقة من نظريات الحقل ودراساته الإمبريقية المقارنة، والثاني هو حدود المساهمة العربية في الحقل.
أعني بالمساهمة العربية هنا أبحاثًا عينية من المنطقة العربية وعنها. ثمة، من دون شك، باحثون عرب ينتجون دراسات متناثرة ذات صلة، تُنشر هنا وهناك في دوريات غير عربية، ناطقة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو غيرهما؛ وهي مهمة وتحتفظ للمنظور العربي بموطئ قدم في الحقل، مهما كان هشًّا أو غير مرئي. لكن ما أعنيه هو الاتجاه نحو تطوير جماعة (أو حتى جماعات) معرفية عربية، تتشارك الانشغال في إشكاليات الانتقال وقضاياه في المنطقة، وتدرسها وتتدارسها على نحو يسمح بالتواصل المعرفي بين الباحثين العرب وتبادل (نتائج) الأبحاث وتداولها. وجماعةٌ مثل هذه ينبغي أن تتطور
هنا والآن:
هنا، وعلى بساطة الأمثولة، لأن "أهل مكة أدرى بشعابها"، ونعرف جميعًا ما جنته دراساتُ المناطق الغربيةُ على باحثين عرب قبل غيرهم؛
والآن، لأن دراسة موضوع الديمقراطية والانتقال إليها في المنطقة العربية، والمقارنة بالتجارب غير العربية والتعلّم منها، باتت أشد إلحاحًا على العلوم الاجتماعية العربية، خاصة بعد أن تبيَّن أن الخيبات التي أرخت سدولها على انتفاضات موجة الربيع العربي الأولى، باستثناء تونس ومصر (حتى تموز/ يوليو 2013)، لم تمنع نشوب موجة ثانية من الانتفاضات بين عامَي 2018 و2019 في بلدان اعتُقِد أنها منيعة من عدوى الاحتجاج. وقد عبّرت جميعُها عن التطلع إلى الانتقال نحو الديمقراطية. وحين نسمّي تلك الخيبات فشلًا، أو انتكاسةً، أو تراجعًا، أو حتى انتقالًا إلى غير الديمقراطية ونكوصًا نحو السلطوية، أو انزلاقًا نحو حروب أهلية، ينبغي أن نعي أنّ المنطقة العربية ليست استثناءً، فقد حدث ما يشبه ذلك في مناطق مختلفة. ومهمتنا هي فهم أسباب ذلك، بناءً على معرفتنا "بشعاب مكة، ونحن أهلُها"، وبالتعلم النقدي مما تراكم من دراسات، نظرية وإمبريقية، عن الحالات غير العربية. وفي سياق التشديد على دور التعلم النقدي من المعرفة المتراكمة عن الانتقال إلى الديمقراطية، تأتي أهمية إصدار كتاب
مقالات مرجعية في
دراسات الانتقال الديمقراطي.