العنوان هنا
مراجعات 30 أغسطس ، 2020

لماذا ينبغي أن يفكر طالب العلاقات الدولية كما يفكر الأنثروبولوجي؟

مراجعة كتاب: "كيف تفكر كأنثروبولوجي"

محمد حمشي

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر. عمل سابقًا أستاذًا في العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية في جامعة أم البواقي في الجزائر. حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة باتنة في الجزائر. نشر العديد من الدراسات والأوراق البحثية باللغتين العربية والإنكليزية في عدد من المجلات العلمية المحكمة.

عنوان الكتاب: كيف تفكر كأنثروبولوجيThink Like an Anthropologist.

المؤلف: ماثيو أنجيلكه.

المترجم: عومرية سلطاني.

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

عام النشر: 2020.



مقدمة: تَطفُّلٌ فتَوغُّلٌ فتَوصُّلٌ

حين استلمتُ نسخةً من كتاب كيف تفكر كأنثروبولوجي الذي ألّفه ماثيو أنجيلكه، الأستاذُ في قسم الأنثروبولوجيا بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وترجمته إلى العربية عومرية سلطاني، ثم تصفحتُه، بدوتُ مفتونًا للوهلة الأولى باللغة الأنيقة التي تُرجِم بها النص. وهو انطباعٌ يجعلك تشعرُ بأنّ النصَّ مكتوبٌ بالعربية، لا مترجَمٌ إليها. غير أنّ ثمةَ دافعًا آخرَ جعلني أتصفح مقدمة الكتاب وخريطة أطروحاته الأساسية قبل التوغُّل فيه. فأثناء العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، كانت ثمة دعوةٌ إلى إقحام الاجتماعي والثقافي في تفسير/ فهم السياسة الدولية، بعد عقودٍ طويلةٍ من هيمنة المنظور العقلاني الوضعي. وقد شكّلت البنائية الاجتماعية – التي تُعرَف اختصارًا بـ "البنائية"، مع أنَّ لِنَعتِها بالاجتماعيةِ أهميتُه – ما يشبه الناطق الرسميَّ باسم تلك الدعوة. غير أنّ طيفًا واسعًا من المقاربات الأخرى حملت لواءها، أبرزُها النسويةُ والنقديةُ والبنيوية.

في السنوات الأولى التي شهدت بزوغ نجم البنائية الاجتماعية، أشار أحد روادها، تاد هوف، إلى أنّ استنتاجاتٍ قويةً وذاتَ قيمةٍ مضافةٍ بشأن البناء الاجتماعي للهوية – على أيِّ مستوًى – تتطلب من الباحث أعمالًا مُضنيةً ومُجهِدةً لجمع الحد الأدنى اللازم من البيانات الإمبريقية؛ إنها "تقتضي [قراءة] آلاف الصفحاتِ من الأدبيات وأشهرًا من المقابلات والبحث في الأرشيف، ناهيك عن عددٍ من الأنشطة غير المعتادة، كركوب وسائل النقل العمومي، والوقوف مطولًا في محطات النقل وارتياد المقاهي [والمطاعم وغيرها]"[1]. وتلك ما هي إلا طرائقُ للقيام بالعمل الميداني في حقل الأنثروبولوجيا، وإن كانت أقل تَطلُّبًا في حالة العلاقات الدولية منها في الأنثروبولوجيا. لكن هذا من شأنه أن يزودنا بتصورٍ مبدئيٍّ لدلالاتِ أن يفكر طلاب العلاقات الدولية كما يفكر الأنثروبولوجي. إن فضائل العمل الميداني لا تكمن دائمًا في أن ينجزه الباحث بنفسه، لكنها تكمن في أن يوظف نتائجَه التوظيف الملائم والمثمر، سواء في اختبار فرضياته أو في بناء حججه، وإلا لما كان لدينا حقلٌ قائمٌ بذاته اسمه الأنثروبولوجيا النظرية، ولما كان كلود ليفي شترواس أحدَ أعظم أنثروبولوجيي القرن العشرين، مع أنه "لم ينجز في حياته بحثًا ميدانيًّا بنفسه" (ص 257).

أسابيعَ معدوداتٍ قبل نشر هذه المراجعة، أصدرت دار بريل Brill العدد الأول من دوريةٍ اسمُها بحوثٌ أنثروبولوجية سياسية في العلوم الاجتماعية الدولية[2]. وقبلها بثلاث سنوات، نشر مجموعة من الباحثين كتابًا جماعيًّا عنوانُه علم الاجتماع السياسي الدولي: خطوطٌ متقاطعة[3]. وقبلها بسنتين، نشر المعهد الدنماركي للدراسات الدولية DIIS ورقةَ عملٍ عنوانُها الإثنوغرافيا السياسية العالمية: مقاربة منهجية لدراسة أنظمة السياسات العالمية[4]. وإنَّ هذا لَغيضٌ من فيض؛ إذ يُعَدُّ الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العلاقات/ السياسة الدولية ظاهرةً غير حديثة، لكن النزعة الحديثة لعبور الحدود المعرفية بين العلوم الاجتماعية أعطته زخْمًا إضافيًّا. أما الأنثروبولوجيا، فمعروف أنّ للعلوم السياسية تقليدًا بحثيًّا عريقًا، قائمًا بذاته، اسمه الأنثروبولوجيا السياسية[5]، وهو شبيهٌ إلى حدٍّ ما بعلم الاجتماع السياسي.

ينبغي أن أقرّ منذ البداية أن هذه المراجعة ليست بحثًا في أنثروبولوجيا العلاقات الدولية، إنما تسعى أساسًا إلى استخلاص بعض الدروس من كتاب كيف تفكر كأنثروبولوجي؛ ومن ثَمَّ، فهي جزءٌ من الدعوة التي أشرتُ إليها آنفًا، أي الدعوة إلى إقحام الاجتماعي والثقافي في تفسير وفهم العلاقات الدولية. يتضمن الكتاب تسعة فصول، يعالج كلُّ فصلٍ منها مفهومًا مفتاحيًّا في علم الأنثروبولوجيا، أو في التفكير الأنثروبولوجي، على حد تعبير أنجيلكه. وهو ينطلق من افتراضٍ مفادُه أن الأنثروبولوجيا "ليست مجرد نقدٍ وحسب، وهي لا تشير فقط إلى الطرائق ذات الطبيعة الثقافية التي نفهم بها مصطلحاتٍ [عديدةً مثل] الوفرة، والحضارة، والدم، أو تلك البقع العمياء في إدراكنا السائد التي تعوق مثل هذا الفهم. بل إن الأنثروبولوجيا، وقبل كل شيء، تشرح كيف ولماذا تُعتبر الثقافة أمرًا أساسيًا في تركيبتنا كبشر. فنحن لسنا أناسًا آليين، ولا نخضع لقوةٍ هي الطبيعة البشرية، كما أننا لسنا نتاجات بسيطة لجيناتنا؛ بل نحن نصنع خياراتنا بأنفسنا" (ص 14).

تستكشف فصولُ الكتاب المفاهيمَ المفتاحيةَ التسعةَ، لكنها لا تكتفي بذلك، بل تسائلُها أيضًا. ويصفها أنجيلكه بأنها "ليست بمفاهيمَ تقنية، بل كلها ستصير مألوفة لد[ى] القرّاء" (ص 13). ويبدأ بمفهوم الثقافة الذي يُشِكّل المفهوم التأسيسي للأنثروبولوجيا نفسها، أو على الأقل للأنثروبولوجيا الثقافية التي ينصب عليها مجالُ اهتمام المؤلف، واختصاصُه أيضًا[6]. وتشمل بقية المفاهيم الموزعة على هذه الفصول، إضافةً إلى الثقافة، كلًّا من الحضارة، والقيم، والقيمة، والدم، والهوية، والسلطة، والعقل، والطبيعة.

يذكّرنا المؤلف بأن هذه القائمة تحوي المفاهيمَ الأساسية فحسب، ويُقرّ بأن "غيرها ربما استُبعد منها [...] لكن الهدفَ المُتوخَّى من الكتاب ليس تقديمَ عرضٍ شاملٍ، لأنه سيتبقَّى دومًا مصطلحٌ آخرُ نحتاج لإضافته"، ولا يتوقف طموح الكتاب عند تزويدنا بخريطةٍ "تحوي بعضَ معالم التوجيه، [و]يُفترض لها أنْ تعمل كدليلٍ مفيدٍ في حقلٍ شاسع، هو حياتُنا، التي تتحدد دائمًا على أساس أهمية مراعاة حياة الآخرين" (ص 13). وهذا، تحديدًا، ما يجعل الكتابَ متميزًا من حيث أهميته المدرسية والتثقيفية على حدٍّ سواء، فهو لا يقدم تاريخًا مفصلًا ومعقدًا عن الأنثروبولوجيا، لكنه يكتفي بالإحالة، في سياقات مناسبة، على نحو مقتضب ومُحكم، إلى بعض الأسماء والتيارات العلمية المؤثرة في تاريخ الحقل المعرفي، والتي شكّلت هويته الراهنة.

كما ذكرتُ آنفًا، لن تستعرض هذه المراجعةُ تلك المفاهيمَ التسعةَ جميعَها بالتفصيل، بما أنها ليست مراجعة موجهة إلى القراء المختصين في الأنثروبولوجيا، لكنها تستهدف في المقام الأول دعوةَ القراء غير المختصين في الأنثروبولوجيا – خاصة من طلاب العلاقات الدولية – إلى التفكير في العالم كما يفعل الأنثروبولوجي تمامًا. لذلك، أسعى في كل مرةٍ إلى فتح نقاشٍ بشأن تلك الدروس التي تجعل التفكير في العلاقات الدولية كما يفكر الأنثروبولوجي عملًا ذا مغزى. وما من شك في أن لمترجِمة الكتاب الملَكة الكافية لجعل قراءة الطبعة العربية تجربةً ممتعةً، تجعل المتطفلَ متوغلًا، فمتوصِّلًا إلى إنهاء قراءة النص حتى آخره.



[1] Ted Hopf, “The Promise of Constructivism in International Relations Theory,” International Security, vol. 23, no. 1 (1998), p. 198.

[2]Political Anthropological Research on International Social Sciences, vol. 1, no. 1 (July 2020), accessed on 8/8/2020, at: https://bit.ly/2DwygAM

[3] Tugba Basaran et al. (eds.), International Political Sociology: Transversal Lines (London/ New York: Routledge, 2017).

[4] Finn Stepputat & Jessica Larsen, “Global Political Ethnography: A Methodological Approach to Studying Global Policy Regimes,” Danish Institute for International Studies, DIIS Working Paper (2015), accessed on 8/8/2020, at: https://bit.ly/3ko2Zkd

[5] ينظر على سبيل المثال: جورج بالانديه، الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، ط 2 (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2007).

[6] تشمل الأنثروبولوجيا في الأكاديميا الأميركية، على سبيل المثال، أربعة تخصصات فرعية كبرى: علم الآثار، والأنثروبولوجيا البيولوجية، والأنثروبولوجيا اللغوية، والأنثروبولوجيا الاجتماعية/ الثقافية. ويتضمن كتاب كيف تفكر كأنثروبولوجي إحالاتٍ متكررة، بعضها مستفيضة، لهذه التخصصات.