العنوان هنا
مقالات 26 نوفمبر ، 2023

عن مفهوم المجتمع الدولي وخيبته المريرة في غزة

محمد حمشي

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر. عمل سابقًا أستاذًا في العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية في جامعة أم البواقي في الجزائر. حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة باتنة في الجزائر. نشر العديد من الدراسات والأوراق البحثية باللغتين العربية والإنكليزية في عدد من المجلات العلمية المحكمة.

مقدمة

يتوسل قادةٌ عربٌ، وغيرهم، بالمجتمع الدولي في سياق ما يسمى المساعي لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وتتردد أيضًا، خاصة في الإفادات اليومية التي يدلي بها مسؤولو القطاع الصحي في غزة، عبارة "نناشد المجتمع الدولي". يمكن المرء أن يفهم ويتفهم مناشدة مسؤولي القطاع الصحي في غزة المجتمعَ الدوليَّ للتدخل، خاصة لحماية المستشفيات والكوادر الطبية وسيارات الإسعاف، وهي حماية في المقام الأول للمرضى والجرحى والأطفال الخُدَّج، فضلًا عن المدنيين النازحين الذين يحتمون بباحات المستشفيات. ولا شك أن في ذلك بعضًا من تحميل المجتمع الدولي، كما يتصوره هؤلاء، مسؤولية أخلاقية عن الفظاعات التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي.

يمكن المرء أن يفهم ويتفهم أيضًا أن تناشد المنظمات، الحكومية وغير الحكومية، بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة، المجتمعَ الدوليَّ بالتدخل؛ فالأمم المتحدة ليست المجتمع الدولي؛ بل هي، كما تعرّف نفسها، "المكانُ الوحيدُ على وجه الأرض الذي يمكن فيه كل دول العالم أن تتجمع معًا وتناقش المشكلات المشتركة وتجد حلولًا مشتركة لصالح البشرية جمعاء". لكن أن تناشد دولٌ المجتمعَ الدولي، وإذا ابتغينا بعض الدقة أن تناشد دولٌ مجتمع الدول التدخلَ، فهذا ما لا يمكن فهمه. وقد بيّنتُ في سياق آخر لِمَ "تعرب الأمم المتحدة عن قلقها" بشأن أزمةٍ ما، فهي حين "تعرب عن قلقها" بشأن الأزمة إنما "تلفت انتباه" مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والمجتمع الدولي قاطبةً، إليها؛ والأمم المتحدة منظمةٌ لا سلطة لها مستقلةٌ عن الدول الأعضاء؛ لا في اتخاذ القرار، ولا في تنفيذه. أما من يملك سلطة القرار وتنفيذه فهي الدول. لذلك، قلت إن "إعراب الدول عن قلقها"، مثلما يرِد في البيانات العربية الرسمية، لغةٌ غريبةٌ عن خطاب الدولة. وكذلك هي مناشدة الدول المجتمع الدولي؛ لغة غريبة عن خطاب الدولة.

وحين نسمي المجتمع الدولي مجتمع الدول، فليس هذا على سبيل اللعب بالمصطلحات. المجتمع الدولي حرفيًّا هو المجتمع المتشكل من دول، ولا يحيل نعته بالدولي إلى كونه دوليًّا، أي يشمل دول العالم جميعًا، بالمعنى النقيض للوطني أو الإقليمي مثلًا. ويسري ذلك أيضًا على مصطلح النظام الدولي، فليس المقصود به سوى نظام الدول، أي النظام الذي يتشكل من مجموعة من الدول، ولا علاقة له بالنطاق الجغرافي؛ فالنظام الإقليمي، المتشكل من دول إقليمٍ ما، هو أيضًا نظام دولي. سأعود إلى مسألة المصطلح لاحقًا، لكنني وددت إثارتها هنا حتى تتبين المفارقة الكامنة في أن تناشد دول المجتمع الدولي، كأنها ليست منه وليس منها. إن الدول حين تناشد المجتمع الدولي، فهي بذلك تناشد نفسها.

أروم في هذه المقالة مراجعةَ مفهوم المجتمع الدولي مراجعةً نقديةً في سياق العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة. سأقدم ملاحظة على المصطلح وافتقار ترجمته العربية إلى الدقة، فما نسميه المجتمع الدولي هو ما يسمى في اللغات الغربية (الإنكليزية وغيرها) الجماعة الدولية، حتى في أدبيات الأمم المتحدة. ثم أميّز بين مفهومَي الجماعة والمجتمع. بعد ذلك، أتعقب جذور مصطلح الجماعة الدولية في مصطلح آخر أقدم منه، هو "عائلة الدول". ثم أبني على ذلك، لأبيّن أن الجماعة الدولية ليست سوى جماعة الدول الغربية. وأخيرًا، أعود إلى مصطلح المجتمع الدولي لأحاجّ بأنه دالٌّ بلا مدلول ثابت، يمكننا من خلاله تحديد توقعاتنا ممن يتكلمون عنه أو يتصرفون باسمه؛ لأخلص في الخاتمة إلى أن النظام الدولي لا يزال حبيس حالة الجماعة وبعيدًا عن حالة المجتمع، ويُخشى أن موقف الولايات المتحدة الأميركية وحليفاتها الغربية وسلوكها، في سياق العدوان الإسرائيلي على غزة، إنما يهدد الجماعة الدولية نفسها بالنكوص والتقهقر نحو حالة أشد ما قبل حداثيةً، هي "عائلة الدول".