العنوان هنا
مقالات 22 أكتوبر ، 2023

عن الموقف العربي الرسمي من عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي على غزة

محمد حمشي

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر. عمل سابقًا أستاذًا في العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية في جامعة أم البواقي في الجزائر. حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة باتنة في الجزائر. نشر العديد من الدراسات والأوراق البحثية باللغتين العربية والإنكليزية في عدد من المجلات العلمية المحكمة.

مقدمة: ما بعد الذهول

باغتت عملية طوفان الأقصى، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية فجر 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، جيشَ الاحتلال الإسرائيلي ومستوطني ما يُعرف بـ "غلاف غزة"، وأذهلت العالم برمته، بما في ذلك الفلسطينيين أنفسهم. وحُق للعالم أن يذهل، لأسباب عديدة؛ منها نوعية العملية وأدواتها وتكتيكاتها العسكرية وما تحقق منها من سيطرةٍ على مواقع عسكرية إسرائيلية، ولا مجال لحصر أسباب الذهول هنا. وقد بدا مشهد عبور المقاومين الفلسطينيين الجدارَ الفاصل بين قطاع غزة والمستوطنات الإسرائيلية أشبه بمشهد عبور الجنود المصريين خط بارليف الفاصل بين ضفة سيناء الشرقية وضفتها الغربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967؛ بين العبورَين خمسون عامًا لا ينقص منها يوم واحد (6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 – 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023). غير أن الذهول لم يكن واحدًا، فقد اتخذ مع مساء اليوم الأول من العملية أشكالًا متباينة.

تحوَّل ذهول دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى صدمة جسيمة Psychotrauma؛ وبما هي كذلك، فقد كبَّلت دولة الاحتلال الإسرائيلي في البداية وجعلتها عاجزةً تمامًا عن التصرف (استمرت سيطرة المقاومة الفلسطينية على مواقع عسكرية إسرائيلية، واستمرت قدرتُها على شن هجمات وخوض اشتباكات في عمق المستوطنات أيامًا)، ثم حولتها إلى "وحش جريح وخطير"، بتعبير عزمي بشارة، لتشن حرب إبادة وتطهير ومحوٍ لأحياء سكنية كاملة بمرافقها، وتسوّيها بالأرض؛ حرب غير مسبوقة، بلغت حد التخطيط لإبادة جماعية من أجل تطهير شمال غزة من السكان وتهجيرهم نحو جنوبها ثم قصفهم وتصفيتهم وهم يُهجَّرون، فضلًا عن مظاهرها القروسطية الفاجرة (Medieval، من القرون الوسطى)، التي بلغت حد قطع المياه والكهرباء؛ لا عن السكان فحسب، بل عن المستشفيات أيضًا، بل إن الأمر وصل حتى إلى قصف المستشفيات نفسها، بمن فيها من مرضى ومسعَفين ومسعِفين ونازحين إلى ساحاتها ظَنًّا منهم أنها آمنة. وهي بحق قروسطية في الجوهر والمظهر، حيث تتصرف دولة الاحتلال تمامًا مثل مجموعة من قطّاع الطرق، متعطشة للقتل (تقتل من أجل القتل)، تُغِير على القرية فتمسحها ذبحًا وحرقًا من على وجه الأرض، على مرأى من العالم. تتصرف دولة الاحتلال وكأن العالم، الذي يرى ويسمع بفضل الإعلام التقليدي والجديد، لا يرى ولا يسمع؛ ونتيجةً لذلك، وكما كانت عليه الحال في القرون الوسطى، لا أحد يحمي المعتدى عليه، ولا أحد يحاسب المعتدي.

ثمة ملاحظة نأبى إلا تسجيلها هنا رغم أنها لا صلة لها بموضوع هذه المقالة، وهي تتعلق بمقولة باتت سائدة فحواها أن شراسة ردة فعل دولة الاحتلال إنما يفسرها (وبالنسبة إلى البعض يبررها) الإذلال الذي تعرضت له في إثر عملية طوفان الأقصى؛ ومن ثم فهي تفعل ما تفعله لاستعادة هيبتها، محليًا ودوليًا. وهذا تفسير غير كافٍ. إن ما يفسر الأمر برمته هو أن دولةَ الاحتلال دولةُ احتلال (استيطاني للدقة) بالهوية والسلوك، فهذا ما هي عليه، وهذا ما تفعله بوصفها دولة احتلال. هل ارتكبت فرنسا الاستعمارية (الاستيطانية) ما ارتكبته من فظاعات في الجزائر، من سياسة أرض محروقة وإبادات جماعية ومحارق ومحتشدات وتهجير قسري، سعيًا لاستعادة هيبة مهدورة، محليًا أو دوليًا؟ كلَّا! بل لأنها لم تكن إلّا دولة احتلال استيطاني. ونعود الآن إلى تحولات حالة الذهول التي أعقبت عملية طوفان الأقصى.

تحوَّل ذهول الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية عمومًا، مع استثناءات نادرة، إلى حالة جنون Insanity؛ وبما هو اختلالٌ عقليٌّ وفقدانٌ كاملٌ لوظائف الإدراك والتمييز والتذكُّر وغيرها، فقد دفع بالغرب نحو هاوية أخلاقية لا قعر لها، فخلا فجأة مُعجمه من كل ما له صلة، قريبة أو بعيدة، بمبادئ "القانون الدولي (الإنساني)"، أو "عملية السلام في الشرق الأوسط"، أو "التهدئة وضبط النفس"، واقتصر على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وفي أن يكون ردها "سريعًا وحاسمًا وكاسحًا"، وشيطنة المقاومة الفلسطينية وتسمية عمليتها إرهابًا لا يختلف عن إرهاب 11 سبتمبر 2001. تعطلت وظيفة الإدراك والتمييز في العقل الغربي الرسمي، فصار لا يميز بين الفعل ورد الفعل في الاستجابة لعملية طوفان الأقصى، فعزلها أولًا وأخيرًا عن سياق الاحتلال (للدقة مرة أخرى، الاستعمار الاستيطاني)، ثم عزَلها عن سلسلة ممتدة من الأفعال وردود الأفعال، حلقتها الأولى وأصل الفعل الأول فيها نكبة 1948، ثم عزَلها عن سياقها الأقرب بوصفها ردة فعل مباشرة على انتهاكات الاحتلال، جيشًا ومستوطنين، خلال فترة ما يسمى عيد العُرش اليهودي (29 أيلول/ سبتمبر – 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023). ومن ناحية أخرى، تعطلت وظيفة التذكر في العقل الغربي، فنسي تمامًا ما أقامه ولم يقعده من الدنيا ردًّا على العدوان الروسي على أوكرانيا، فصار التأييد، الذي سبق أن حشده لمصلحة أوكرانيا المحتلَّة ضد الاحتلال الروسي، هذه المرة وعلى نحو أوسع وأشد فظاظة، لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي ضد فلسطين المحتلة.