يجد العالم نفسه، أول مرة منذ عقود، أمام حالة استثنائية وغير مسبوقة من الاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية المتزامنة. فدول تخوض معركة ضروسًا في مواجهة الضغوط التضخمية، في حين تسعى أخرى، على نحو يائس، لتحقيق النمو. وتتصاعد الديون وأعباؤها، سواء على مستوى الحكومات أو الأسر، بوتيرة مقلقة جدًا على نحو يضع الأنظمة المالية الوطنية والنظام المالي العالمي على المحكّ، ويجعل من آفاق النمو الاقتصادي المستقبلي أمام تحديات صعبة. ويشهد العالم أيضًا تحولات دراماتيكية في ديناميات المصالح الاقتصادية، حيث تتصاعد الحروب التجارية والسياسات الحمائية في سبيل الصراع على الهيمنة وسعيًا للاستئثار بالمصالح الذاتية، في مواجهة مبدأ المنفعة المشتركة التي تقوم على أساسها التبادلات التجارية والتكتلات الاقتصادية.
وتزامنًا مع ذلك، تتصاعد الصراعات، وأصبحت الحروب والانتهاكات الفاضحة للمعايير الإنسانية والأخلاقية أمرًا شائعًا واعتياديًا، في الوقت الذي نشهد فيه صعودًا للحركات اليمينية والقادة المتطرفين في معتقداتهم ونزعاتهم التي تدفعهم إلى انتهاج سياسات متقلبة وخطرة تزعزع استقرار النظام العالمي. وفي خضمّ هذه الفوضى، هناك تمرد حقيقي على عالم أحادي القطب، يزداد وضوحًا وواقعية يومًا بعد يوم مع بروز قوى وتحالفات جديدة تطالب بدور لها على الساحة الدولية؛ ما يغذّي التوترات الجيوسياسية ويهدد التعاون والسلام الهش وغير العادل الذي شكّل أساسًا للمنظومة الدولية طوال عقود.
أمام كل هذه الإرهاصات، يقف العالم اليوم أمام حالة غير مسبوقة من عدم اليقين، وعلى حافة واقع جديد، وربما غير متوقع، حيث قد تصبح الضائقة الاقتصادية والخلافات السياسية السمة الغالبة لمستقبلنا القريب.
لم تكن الانتكاسة التي تعرّضت لها الأسواق المالية العالمية في بدايات آب/ أغسطس 2024 مجرد حالة عابرة مدفوعة بالذعر غير المبرر، بل هي تعبير ضمني عن هشاشتها وغياب الاعتبارات والركائز الأساسية المفسرة للفورة الاستثنائية التي شهدتها في الأعوام الأخيرة. فشروع البنك المركزي الياباني في إقرار زيادة محدودة على سعر الفائدة التأشيري، وإن كانت هذه الزيادة هي الثانية منذ عام 2007، وظهور بيانات مغايرة للتوقعات عن الوظائف المستحدثة في الاقتصاد الأميركي، كفيلان بقلب رؤوس كبرى الأسواق المالية على أعقابها. ولربما هذان الحدثان دليلان دامغان على أن القفزات التي شهدتها هذه الأسواق على مدار السنوات القليلة الماضية جاءت مدفوعة أساسًا بالتفاؤل المفرط بالمستقبل المشفوع بالأداء الاقتصادي المتميز الذي أفضت إليه التدابير الاستثنائية للتعامل مع تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وهي حتمًا غير مستدامة، ومدفوعة أيضًا بعمليات المضاربة التي يلجأ إليها الضليعون والمتنفذون في هذه الأسواق لاستدراج صغار المستثمرين ممن تحكمهم النزعة الربحية، وهم كُثر، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، ارتفعت نسبة السكان البالغين المستثمرين في الأسواق المالية الأميركية من 55 في المئة إلى 61 في المئة[1].
بموازاة ذلك، وفي ظل الارتفاعات الكبيرة التي شهدتها أسعار الفائدة في غالبية دول العالم، ارتفعت مديونية الأسر الأميركية في نهاية الربع الثاني من عام 2024 إلى نحو 17.8 ترليون دولار، وهو مستوى قياسي غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، منها 12.9 تريليون دولار قروض عقارية[2]، وإضافة إلى ذلك شكّلت خدمة هذه الديون نحو 9.8 في المئة من صافي دخل هذه الأسر المتاح[3].
يتمثل الخطر المحدق والمرتبط بكل هذه المعطيات في أن أيّ حالة هلع مفرطة من المستثمرين، لا سيما الأفراد منهم، قد تسبب انتكاسة ممتدة في الأسواق المالية وأسعار الأصول الأخرى، لا سيما العقارية، وستغيّر المشهد تمامًا على نحو يُدخل غالبية الأسر الأميركية في أزمة مالية خانقة، وستجعل استحقاقات هذا القدر الهائل من القروض تستحوذ على قدر كبير من مداخيلهم، وقد تُدخل الجهاز المصرفي في أزمة عميقة في حال امتزج هذا السيناريو بتراجع مستويات المداخيل وانحسار مستويات التوظيف.
ليست احتمالية تحقق مثل هذه الانتكاسة مستبعدةً في ضوء التباطؤ الكبير الذي شهده الاقتصاد الأميركي خلال الأشهر الأولى من عام 2024، والمدفوع على نحو أساسي بتراجع الإنفاق الخاص الذي ربما يشهد المزيد من الانحسار مع تلاشي شغف الإنفاق الذي تبع جائحة كورونا[4]، ومع تراجع ثقة المستهلكين وتنامي عبء الديون الفردية، وأيضًا مع تراجع الإنفاق العام الذي سيكون أمام ضغوط حقيقية في ظل تفاقم مستويات ديون الحكومة الأميركية ذاتها والتي وصلت في نهاية الربع الأول من عام 2024 إلى 34.6 تريليون دولار؛ أي ما يزيد بنحو 26 في المئة على حجم الاقتصاد الأميركي[5]، وهو ما يعني بالضرورة أن خدمة هذه الديون الكبيرة والمتصاعدة التي تقترب من تريليون دولار سنويًا، ستشكّل ضغوطًا على الإنفاق العام وستُزاحم برامج ذات أولويات ملحّة[6]، فضلًا عن تأثير ذلك في هامش المخاطر على السندات الحكومية الأميركية[7].
يزداد مشهد الاقتصاد العالمي تعقيدًا وغموضًا في ضوء الانحسار الملحوظ في حركة التجارة العالمية، التي من الممكن أن تشهد مزيدًا من القيود التي تشكّلها السياسات الحمائية وتعقّد الاعتبارات الجيوسياسية الآخذة في التنامي، وتبلور تكتلات اقتصادية وازعها الصراع التجاري والسياسي. والأمر ذاته يندرج على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تراجع عالميًا في عام 2023 بنحو 2 في المئة، ولا يزال أقل من مستوياته في العام الذي سبق الجائحة بنحو 24 في المئة[8].
الخلاصة التي يمكن استنباطها من كل هذه الحيثيات أن الظروف والإرهاصات التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي اليوم هي على درجة عالية من التثبيط، وتتقارب في طبيعتها وحدّتها مع تلك التي كانت سائدة قبيل الكساد العظيم، التي كان التفاؤل المفرط سببًا في إحداث تشاؤم أكثر وطأة وأعمق أثرًا، وربما سيشهد العالم انتكاسات حادة في الأسواق المالية العالمية والأوضاع الاقتصادية تبعًا لذلك، ابتداء من الولايات المتحدة التي سرعان ما ستنتقل إلى باقي الدول من خلال قنوات التأثير المتعددة، النفسية والمادية.
[1] “Share of Adults Investing Money in the Stock Market in the United States from 1999 to 2023,”
Statista, accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zOzJ
[2] “Household Debt and Credit Report (Q2 2024),” Federal Reserve Bank of New York, accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zOm5
[3] “Household Debt Service Payments as a Percent of Disposable Personal Income,” Federal Reserve Bank of St. Louis, accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zP57
[4] Abha Bhattarai, “U.S. Economy Grew at 1.6 Percent Annual Rate in First Quarter 2024, a Sharp Slowdown,”
The Washington Post, 25/4/2024, accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zODT
[5] “Federal Debt: Total Public Debt,” Federal Reserve Bank of St. Louis, accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zOVh
[6] Jacob Manoukian et al., “How Worried should you be about the U.S. Debt and Deficit?” J. P. Morgan Wealth Management, 28/6/2024, accessed on 13/8/2014, at:
https://acr.ps/1L9zOXW
[7] “What is the National Debt Costing Us?” Peter G. Peterson Foundation, 6/8/2024, accessed on 13/8/2014, at:
https://acr.ps/1L9zOiY
[8] United Nations Conference on Trade and Development (UNICTAD),
World Investment Report 2024: Investment Facilitation and Digital Government (New York: United Nations Publications, 2024), accessed on 13/8/2024, at:
https://acr.ps/1L9zOio