نظّم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات مؤتمرًا علميًّا على مدار ثلاثة أيام من 27 إلى 29 تشرين الثاني/ نوفمبر2011، واختار له عنوان: "العرب والقرن الأفريقيّ: جدليّة الجوار والانتماء"، وضم كتاب أصدره المركز بعنوان: العرب والقرن الأفريقي: جدلية الجوار والانتماء أبرز الأوراق البحثية المقدمة خلال المؤتمر. وناقش المؤتمر غالبيّة القضايا التي تتّصل بطبيعة العلاقة بين الوطن العربيّ ومنطقة القرن الأفريقيّ وحوض النّيل من خلال محاور خمسة: التّاريخيّ، والسّياسيّ الاقتصاديّ، والأمنيّ الإستراتيجيّ، والفكريّ والثقافيّ الاجتماعيّ، والإعلاميّ، لفهم هذا الجوار واستشراف آفاق مستقبليّة للعلاقة بين الطّرفين، بالاستفادة من أخطاء الماضي، التي سمحت لدولة الاحتلال الإسرائيليّ بالتغلغل في هذا الإقليم، كما جعلت منها منطقة استقطاب غربيّ دون مقابل عربي.

اليوم الأول

وفي افتتاحه لجلسات المؤتمر، أوضح الدكتور عبد الوهاب القصاب الباحث المشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنّ المركز بادر إلى تنظيم هذا المؤتمر، لسدّ فجوة خلّفتها قلّة الاهتمام البحثيّ العربيّ بمنطقة القرن الأفريقي، على الرغم من الموقع الجغرافي المهم الذي تحتلّه المنطقة في جوار العالم العربي، مضافا إليه البعد التاريخي للعلاقة بين الجانبين. وأضاف القصاب، أنّ المؤتمر يدخل في سلسلة المؤتمرات التي يعقدها المركز منذ إنشائه في ديسمبر 2010، والتي تتناول علاقات العالم العربي بجوارها الإقليمي، بدايةً بمؤتمر العرب وإيران ثم العرب وتركيا، وبعدهما مؤتمر القرن الأفريقي. 

تمازج عبر التّاريخ وانكسارات أيضًا

وقد انطلقت أعمال المؤتمر بجلسةٍ تناولت المحور التاريخيّ في علاقة العرب بالقرن الأفريقيّ، وقد ترأّسها الدكتور سيار الجميل رئيس وحدة الأبحاث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، حيث نبّه في تمهيده لمداخلات المساهمين في الجلسة إلى أنّ البعد التاريخيّ يعدّ منطلقًا جوهريًّا في فهم العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ ويشكّل التّأسيس لنظرة أكاديميّة واقعيّة لهذا التاريخ المشترك أحد مقوّمات النّهوض بهذه العلاقة وتطويرها خدمةً لمصالح الطّرفين.

وكان البروفيسور يوسف فضل، رئيس كرسيّ الدّراسات التركيّة في معهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة، أوّل المحاضرين في جلسات المؤتمر عن "بعض ملامح الرّوابط التاريخيّة بين الجزيرة العربيّة والقرن الأفريقيّ منذ فجر التّاريخ حتّى مطلع القرن التّاسع عشر". وقال إنّ العلاقة بين القرن الأفريقيّ وشبه جزيرة العرب قديمة، وترجع إلى أكثر من ألفيْ عام. وأوضح أنّ التّفاعل البشريّ بين الجانبين كان على عدّة مستويات: الاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ. وتناول أبرز التّفاعلات عبر التّاريخ ومن بينها الهجرات البشريّة، والعلاقات التجاريّة، والمؤثّرات الدينيّة، خاصّة انتشار الإسلام والتّنافس المسيحيّ الإسلاميّ في المنطقة، وتأثير كلّ من التوسّع البرتغاليّ، والعلائق التجاريّة الرأسماليّة الحديثة في التّواصل بين المنطقتين. ولفت إلى أنّ ما يعكس عراقة الصّلة بين المنطقتين؛ شدّة التّشابه العرقيّ واللغويّ والثقافيّ بين الشّعوب الناطقة باللغات الحامية أو الكوشية، والشّعوب النّاطقة باللّغات الساميّة كالعرب.

من جانبه أضاء البروفيسور عبد الله علي إبراهيم،أستاذ شرف تاريخ أفريقيا في جامعة ميسوري في الولايات المتّحدة، واحدة من النقاط المظلمة في تاريخ العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ، واعتبر أنّ العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ اتّسمت بمراحلَ طويلة من التّواصل والتّآلف لكنّها شهدت حالات انقطاع كانت أبرزها وأحدثها في التّاريخ المعاصر "مذبحة" العرب في زنجبار التي أوقعتها بهم ثورة "الأفارقة" في العاشر من كانون الثّاني/ يناير 1964 بقيادة جون أوكولو، وقضت على سلطان العرب في الجزيرة، وتعقّبتهم قتلا واعتقالا واغتصابًا وتهجيرًا فيما يوصف في المصطلحات الحديثة بالتّصفية العرقيّة. وأوضح أنّ هذه الثّورة العرقيّة كانت مبنيّة على أيديولوجية "الزّنوجية" أو عنصريّة أفريقيا السّوداء، وارتكزت في إثارة الأتباع الأفارقة على مناهضة "الرقّ العربيّ". ونبّه إلى أنّ الدّول العربيّة لم تَعِ حينها ما حدث فعليًّا، وسُوّقت هذه الثّورة على أنّها ثورة ماركسيّة من الطّبقات الكادحة ضدّ الأرستقراطيّة، وتقبّلها العالم العربي على هذا الأساس بدايةً بدعم جمال عبد الناصر لها، في حين أنّ ما حدث هو بالفعل جريمة إبادة عرقيّة تعرّض لها العرب على يد أتباع جون أوكولو.

التّنافس الدوليّ على منطقة القرن الأفريقيّ

وتناول الدكتور النور حمد - رئيس قسم التربية الفنّية في جامعة قطر- في محاضرته ضمن الجلسة الأولى للمؤتمر الآثار الممتدّة للحملات الخديوية التوسّعية التي انطلقت من مصر في القرن التّاسع عشر نحو جوارها الجنوبيّ في كلٍّ من السودان وإثيوبيا وإريتريا والصّومال، وعلى ما نتج من تلك الحملات من توجّسٍ وإحساس بالرّيبة، واهتزاز الثّقة تجاه مصر وسط شعوب هذه البلدان. وقدّم نقدا موضوعيًّا لانطلاق السّاسة والنّخب المصريّة من الإحساس المطلق بالاستحقاق، ومن الرّغبة الصّريحة في الاستحواذ. وهي منطلقاتٌ دفعت بالمؤسّسة الخديوية المصريّة في القرن التّاسع عشر إلى التوسّع في جوارها الجنوبيّ مستخدمةً القوّة العسكريّة، ما تسبّب في عجز النّخب المصريّة، عبر ما يقارب المئة عام، عن التّعامل مع الجوانب السلبيّة في الإرث الخديويّ- العثمانيّ.

 ويؤكّد الدكتور النور حمد أنّ الارتباط العضويّ القائم على الشّراكة المبنيّة على فهم الخصوصيّة التي يتّسم بها السّودان بوصفه قطرا متعدّد الأعراق، متعدّد اللغات، متعدّد الأديان، متعدّد الثقافات، ضروريٌّ جدّا لمستقبل كلّ من السودان ومصر. وإنّ الدعوة إلى الاعتراف بالتنوّع الثقافيّ، لا تتوجّه إلى المؤسّسة المصريّة الحاكمة والنّخب التي تقف وراء سياساتها، وإنّما تتوجّه، وبقدرٍ أكبر، إلى الحكومة السودانيّة، والنّخب السودانيّة التي تقف وراءها أيضا، التي ظلّت لا ترى في السودان سوى قطرٍ عربيّ إسلاميّ وحسب.

وخصّصت محاضرات الجلسة الثّانية من المؤتمر التي ترأّسها الأستاذ جمال باروت الباحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، لتناول المحور السياسيّ الاقتصاديّ في العلاقة بين القرن الأفريقيّ والعرب.

وقد تناول البروفيسور بيتر ودورد، الذي عمل مستشارًا لدى عدة جهات دوليّة وحكوميّة في القضايا الأفريقيّة، قضيّة المنافسة الدوليّة في القرن الأفريقيّ. وأشار إلى أنّ المنطقة تعدّ بؤرة توتّرات على ثلاثة مستويات: المستوى الدّاخليّ والمستوى الإقليميّ والدوليّ. وقدّم نماذجَ عن التوتّرات التي تنخر القرن الأفريقيّ بدايةً بالنّزاعات الداخليّة مثلما وقع في الصّومال والسّودان، وبعد نهاية الحرب الباردة طغت نظريّة الأمن الإقليميّ على علاقات دول القرن الأفريقيّ، أي أنّ الأمن القوميّ لدولة ما يعتمد على الأمن في البلدان المجاورة. فثارت النّزاعات فيما بين هذه الدّول، ونشبت الحرب بين إثيوبيا والصّومال عام 1977/1978، ولا تزال نتائجها مستمرّة من خلال التدخّل الرّاهن لإثيوبيا في الأزمة الصّوماليّة. كما تدخّلت إثيوبيا في النّزاع الداخليّ في السّودان من خلال تقديم الدّعم للمتمرّدين في الجنوب. ومن ضمن النّزاعات الإقليميّة الكبرى في المنطقة أيضا الحرب بين أرتيريا وإثيوبيا.

أمّا عن تدخّل القوى العظمى في القرن الأفريقيّ، فقد أشار البروفسور ودورد إلى أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة كان لها تدخّلات مباشرة في القرن الأفريقيّ خلال مرحلة الحرب الباردة وكانت لها علاقات قويّة بالإمبراطور هايليجيبريسيلاسي. وفي المقابل، كان للاتّحاد السوفييتي أيضًا تدخّلاته في الصّومال ثمّ ربط علاقات قويّة مع إثيوبيا عندما قرّرت الولايات المتحدة التدخّل بقوّاتها في الأزمة الصّوماليّة. وعلى النفس التّبادليّ للمواقع بين القوّتين كان الاتحاد السوفييتيّ قد وثّق علاقاته ووجوده في السّودان قبل أن تنزع الخرطوم إلى الاقتراب من الولايات المتّحدة بعد انهيار حكم جعفر النّميري.

والأكيد بحسب البروفيسور ودورد هو أنّ قطبي الحرب الباردة قد ساهما في تأجيج الصّراعات في القرن الأفريقيّ من خلال تغذيتها بموارد التّسليح. وبعد نهاية الحرب الباردة صارت الولايات المتّحدة أكثر نفوذًا في القرن الأفريقيّ محاولة الوصول إلى إقامة سلام شامل فيها، لكنّها عجزت عن ذلك نظرًا لأنّها رغبت في فرض هيمنتها على المنطقة وتحديد طبيعة التّسويات التي ستؤدّي إلى إحلال السّلام، وهو ما لم تستسغه دول القرن. وقد برز في الفترة الأخيرة فاعلون جدد في المنطقة تتقدّمهم الصّين والهند وماليزيا من خلال الوجود الاقتصاديّ الاستثماريّ في القرن الأفريقيّ، وأصبحت المصالح التجاريّة الاقتصاديّة للولايات المتّحدة الأميركيّة ضئيلة بالمقارنة مع المصالح الصينيّة، وهو ما غيّر معادلة التّنافس الدوليّ على المنطقة.

وحلّلت الدكتورة إرما تاديا، أستاذ تاريخ أفريقيا الحديث في جامعة بولونيا في إيطاليا، تداعيات نشوء الدّول الجديدة في أفريقيا على دول القرن الأفريقيّ. وقالت إنّ القرن الأفريقيّ يوصف في العقود الأخيرة بأنّه واحدٌ من أشدّ مناطق العالم ابتعادًا عن الاستقرار وخلوًّا من عمليّات إحلال السّلام، وبناء المؤسّسات، وسيرورات التحوّل الدّيمقراطيّ.

ومن جانبها تناولت البروفيسور إجلال رأفت أستاذة الدّراسات الأفريقيّة في جامعة القاهرة، تقاطع المصالح القوميّة للدّول العربيّة المطلّة على البحر الأحمر ودول القرن الأفريقيّ. وأشارت إلى أنّ القرب الجغرافيّ والتّسابق الدوليّ يظلان يذكّران الدّول العربيّة بأهمّية القرن الأفريقيّ الجيو-إستراتيجيّة، وبالمخاطر التي يمكن أن تتمدّد منه إليها مهدّدة أمنها القوميّ. ومن ثمّ يمكن اعتبار القرن الأفريقيّ ملتقى إستراتيجيًّا إقليميًّا ودوليًّا هامًّا، تتقاطع فيه المصالح أحيانًا، وتتناقض أحيانًا أخرى.

وأكّدت أنّ الظّروف الداخليّة الآنيّة في الدّول العربيّة تشكّل إعاقةً لمشروع التكتّل العربيّ الاقتصاديّ ومن ثمّ الانطلاقة الاقتصاديّة العربيّة نحو القرن الأفريقيّ. وأكّدت أنّ الفاعل الحقيقيّ في المنطقة لا يزال هو العامل الدوليّ الذي يتمثّل في الصّراع المحتدم حول المصالح الإستراتيجيّة لأطرافه.

إسرائيل تسابق العرب في القرن الأفريقيّ

وقد تواصلت أعمال المؤتمر في جلسته الثّالثة، التي ترأّسها الدكتور هشام القروي الباحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، بالاستمرار في تحليل المحور السّياسيّ الاقتصاديّ للعلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ.

أبرزت محاضرة الدكتور محمود محارب، الأستاذ في جامعة القدس، تدخّلات إسرائيل في القرن الأفريقيّ. وأشار في هذا الصّدد إلى أنّ إسرائيل تمكّنت بفضل الأهمّية التي أولتها لعلاقاتها مع الدّول الأفريقيّة وبفضل التّمويل الغربيّ لنشاطاتها في أفريقيا من إقامة علاقات دبلوماسيّة مع الغالبيّة العظمى من الدّول الأفريقيّة في العقدين الأوّلين من تأسيس إسرائيل. واندفعت إسرائيل في منتصف خمسينيّات القرن الماضي إلى إقامة علاقات وطيدة مع إثيوبيا على أرضيّة المصالح المشتركة بين الدّولتين، خاصّة مع شروع إسرائيل في بلورة "حلف المحيط" بهدف مواجهة مصر وإفشال مشروعها النّهضويّ الوحدويّ بقيادة الرّئيس عبد الناصر. ويوضّح الدكتور محارب أنّ إسرائيل كانت من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسيّة مع إيريتريا. ولقد أولت إسرائيل أهمّية قصوى لعلاقاتها مع إريتريا بعد نيلها الاستقلال. ومن أجل تحقيق أهدافها، بذلت إسرائيل خلال العقود الماضية جهودًا كبيرة في إقامة علاقات سرّية وعلنيّة مع دول القرن الأفريقيّ. 

وألقت الدكتورة أماني الطويل، مديرة الوحدة الأفريقيّة في مركز الأهرام للدّراسات السياسيّة والإستراتيجيّة، محاضرةً عن الأهداف الإستراتيجيّة لإسرائيل في القرن الأفريقيّ. حيث أبرزت الخصائص المفتاحيّة للموقع الإستراتيجيّ للقرن الأفريقيّ كون دوله تطلّ على المحيط الهنديّ من ناحية، وتتحكّم في المدخل الجنوبيّ للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحيةٍ ثانية؛ ومن ثمّ التحكّم في طريق التّجارة العالميّ، خاصّة تجارة النّفط الآتية من دول الخليج والمتوجّهة إلى أوروبا والولايات المتّحدة. كما أنّه يُعدّ ممرًّا مهمّا لأيّ تحرّكات عسكريّة قادمة من أوروبا أو الولايات المتّحدة في اتّجاه منطقة الخليج العربيّ.

وتوضّح الدكتورة أماني أنّ طبيعة دولة إسرائيل النّاشئة في محيطٍ معادٍ، والتي تعتمد على الاستيطان كآليّة للاستمرار والتّوسّع، تفاعلت مع معطيات القرن الأفريقيّ الجيوستراتيجيّة، ليتمّ وضع الأهداف الإستراتيجيّة الإسرائيليّة طبقًا لعددٍ من المحدّدات هي: تحجيم وتحييد القدرات العربيّة في إطار الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، دعم متطلّبات الأمن المائيّ الإسرائيليّ التي تعدّ عماد استمرار الدّولة وتوسّعها، حرّية الملاحة الإسرائيليّة في البحر الأحمر كأحد المعطيات المحلّية للأمن الإسرائيليّ، بما يشمله من توفير المتطلّبات العسكريّة والاقتصاديّة لدولة إسرائيل، دعم العلاقات السياسيّة مع دول القرن الأفريقيّ بما تمثّله من كتلة تصويتيّة جزئيّة في المحافل الدوليّة ضمن الكتلة التصويتيّة الكلّية للقارّة الأفريقيّة، والتي تصل حاليًّا إلى 54 دولة. وأخيرا محاربة ومحاصرة قوى الإسلام السّياسيّ التي تعادي إسرائيل من منظورٍ أيديولوجيّ، وتعتبر أنّ الصّراع العربيّ الإسرائيليّ هو صراع وجود وليس صراعَ حدودٍ فقط.

وختمت الدّكتورة أزهار الغرباوي، الأستاذة في مركز الدّراسات الدوليّة في جامعة بغداد، الجلسة الثالثة من المؤتمر بمحاضرة عن النّموذج الكينيّ للتّغلغل الإسرائيليّ في دول القرن الأفريقيّ. وقالت: لقد أصبح لإسرائيل اليَوم مُخطّطاتها الواضحة مِن أجلِ التَّغلغل في دول القرن الأفريقي لِتحقيق أهدافها المتعدِّدة وذلك للأهمية الإستراتيجيّة والاقتصادية والأمنيّة والجيوسِياسيّة الواضحة التي تَتمتّع بها المنطقة، لذلك فإنّ دخول إسرائيل إلى القارّة الأفريقيّة يُمثِّل رؤية إستراتيجيّة مخطّطا لها تقوم على الهيمنة والتوسّع في شرق أفريقيا ومنطقة البُحيرات العظمى، من أجل تحقيق متطلَّبات أمنها والذي يقوم على وجودها الدّائم في هذه المنطقة.

وتؤكّد أنّ أطماع إسرائيل في منطقة القرن الأفريقيّ المطلّ على باب المندب وخليج عدن وعلى البحر الأحمر تعود إلى فترة طويلة منذ أوّل تصريح مسجّل لبن غوريون في عام 1933، عندما صرّح: "أنّ العقبة وموقع إيلات التّاريخي - أم الرشاش- سيسمح لنا بالتَّمركز في الخليج والعقبة والبحر الأحمر"، وفي ظلِّ غياب قواعد عربيّة واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، فضلا عن استقلال إريتريا في عام 1993 وابتعادها عن النِّظام العربي، فقد وجدت إسرائيل في ظلّ" التّسوية السِّلميَّة "التي حصلت سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنيّة الخاصّة بالبحر الأحمر، وانطلاقًا من ذلك فهي سوف تسعى جاهدة من أجل تحقيق أقصى درجات الاستفادة من أجل تحقيق أهدافها في الهيمنة والتّوسّع.

محاضرة بيتر ودورد

ألقى الباحث البريطانيّ بيتر ودورد محاضرة أكاديميّة على هامش المؤتمر شرح فيها مجموعةً من العوامل والمحدّدات التي تحكم الاتّجاهات العامّة في دراسة منطقة القرن الأفريقيّ من خلال التّجارب التاريخيّة في دول هذا الإقليم خلال القرن العشرين، وكيفيّة تحوّل الاهتمام الدوليّ بهذه المنطقة وفي مقدّمتها التغيّر في السّياسات الأميركيّة، حيث حاولت الولايات المتّحدة الأميركيّة الاستفادة من دروس الماضي في كيفيّة التّعاطي مع الأزمات بطرقٍ جديدة تقلّل من التدخّل العسكريّ المباشر على غرار ما حصل في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي، والاتّجاه نحو إنتاج حلول مختلفة. وقد اعتبر ودورد أنّ طريقة عرض تاريخ هذه المنطقة هي الفكرة الأولى التي يجب أن تنطوي عليها عمليّات البحث حول مستقبل العلاقات بين دول هذه المنطقة، مع التّركيز على الجانب الاقتصاديّ الذي صنّفه في المرتبة الثّانية من حيث الأهمّية التي تحكم المحدّدات المتعلّقة بالقرن الأفريقيّ. فعلى الرّغم من الاندماج الإقليميّ الكبير المشجّع على الاستثمار والاهتمام الدوليّ والعربيّ الكبير الذي تَبدَّى من خلال الاستثمارات الكبيرة في دول القرن الأفريقيّ وخاصّة في السّودان، إلا أنّه يجب توخّي الحذر في الطريقة التي يتمّ من خلالها الاستثمار في هذه المنطقة نتيجة هشاشة البنية الاستثماريّة والتي تشكّل - بحسب وصف ودورد - تحدّيًا أمام البيئة الاستثماريّة في القرن الأفريقيّ. 

وقدّم ودورد في هذا السّياق أمثلةً عن اتّجاهات الاستثمار الأجنبيّ في منطقة القرن الأفريقيّ، فعلى سبيل المثال كان الاستثمار في المعادن وخاصّة الذّهب هو السّبب الرّئيس للنّجاح الذي حقّقه السّودان وبعض دول أفريقيا في معدّلات الاستثمار، لكن هذا النّوع من الاستثمار يحتاج هو نفسه إلى أدوات استثماريّة جديدة تخرج من النّمط الموجود حاليًّا. كما يحتاج دعم الاستثمارات إلى تقليل النّزاعات الحاصلة في هذه المنطقة، فقد أسهم الصّراع بين القوى الدوليّة عقب اكتشاف النّفط عام 1993 في وسط السّودان في تأخّر إنتاجه 15 عامًا، حتّى استطاعت الشّركات الصينيّة التفوّق على مثيلاتها الغربيّة. وهذا ما يطلق عليه ودورد تسمية "لعنة الموارد"، وهي اللّعنة التي تحدّ مثلا من الاستثمار في القطاع الزراعيّ نتيجة التّنافس على موارد المياه وبناء السّدود. ولا تزال هذه القضيّة تشكّل التّحدّي الأكبر أمام الاستثمار الزّراعيّ في منطقة القرن الأفريقيّ. كما نبّه ودورد إلى ضرورة تلمّس التأثير الاجتماعيّ للزّارعة وتحديد الوسائل الكفيلة بالتّعامل معه، فالسّودان كان في سبعينيّات القرن الماضي يشكّل سلّة الغذاء العربيّ على خلاف الواقع اليوم، وسبب التّراجع في الاستثمار في الزّراعة يعود بشكل أساسيّ إلى عدم استقرار المجتمع المحلّي، وهذا العامل أيضا كان مؤثّرًا في أثيوبيا. 

ويرى الباحث أنّ هذا الواقع قد فرض تحدّيًا كبيرًا أسماه "الرّخاء" النّاجم عن الاستثمارات في قطاع الصّناعات الاستخراجيّة وإهمال الاستثمار الزّراعيّ، حيث أنّ القرن الأفريقيّ يشهد مجاعات في جزء كبير من أثيوبيا وإرتيريا والصّومال. وعلى الرّغم من التوجّه العالميّ الذي برز لإنقاذ هذه البقاع من المجاعات، إلا أنّ الاقتصار على محاولات الإنقاذ يصطدم بشكل دائم بالوضع السياسيّ والنّزاعات الأهليّة هناك، ما يشكّل خطرًا حقيقيًّا على الأمن البشريّ في بعض دول القرن الأفريقيّ. وعليه، لا بدّ من التّفكير على المدى الإستراتيجيّ والانتقال من التّفكير في المساعدة إلى إنتاج آليّات ترتبط بالبعد السياسيّ والاقتصاديّ تمنع حصول مثل هذه المجاعات في المستقبل. كما يجب تسليط الضّوء على النموّ الدّيمغرافيّ المتزايد في هذه المنطقة وخاصّة في كينيا وأثيوبيا، والذي يسهم بشكل أو بآخر في تفاقم هذه المشكلة. إضافةً إلى ذلك، نجد أنّ النّشاط الرعويّ الذي يشكّل نمطًا حياتيًّا للسكّان في منطقة القرن الأفريقيّ يؤثّر بشكلٍ مباشر في الأمن الزّراعيّ، الأمر الذي يفرض إنتاج أساليب جديدة حديثة للحياة الرعويّة. كما ركّز الباحث على موضوع التغيّر المناخيّ، والذي اعتبره مسؤوليّة العالم أجمع وخاصّة الدّول المصنّعة كالولايات المتّحدة، فمشاكل الأمن الغذائيّ في هذه المنطقة لا تعود فقط إلى قلّة الأمطار وإنّما إلى اختلاف أوقات سقوط الأمطار الذي تأثّر بالتغيّر المناخيّ العالميّ. 

في القسم الثّاني من المحاضرة، أشار ودورد إلى موضوع الأمن والإستراتيجيّة الذي يشكّل المحدّد الأساس والحاكم لمستقبل دول هذه المنطقة. ويتعلّق هذا البعد بصيغة الأنظمة ذاتها وطبيعتها، التي كانت سببًا في تقسيم بعضها كما هي الحال مع جنوب السّودان، كما يطرح خيار التّقسيم نفسه الآن في الصّومال. ورأى ودورد أنّ خطر تقسيم الدّول ناتج أساسا من انقسامها إلى مجتمعات لها هويّات فرعيّة، كما هي الحال مع تقاليد القبائل الصّوماليّة التي تواجه مفهوم الدّولة هناك وتتغلّب عليه. انطلاقًا من ذلك يجب تدارك المخاطر التقسيميّة التي يمكن أن تؤدّي إلى نزاعات أهليّة خاصّة في ظلّ غياب آليّة دوليّة للتّعامل مع هذه المشاكل أو إخفاقها في حلّها، وقد يكون النّظام الفيدراليّ أو الكونفيدراليّ أحد أبرز الحلول النّاجعة في التّعامل مع التنوّع الدّاخليّ في هذه الدّول وتفادي التّقسيم. كما طالب ودورد بإنتاج آليّة للتّنسيق بين دول هذه المنطقة وأبرزها تفعيل دور منظّمة "الإيغاد" والدّفع من أجل العمل على القضايا الاقتصاديّة والتّعاون بين الدّول بشكل يسهم في إحلال السّلام ومنع الحرب. وبذلك، يجب تفعيل دور هذه المنظّمة وإخراجه من التّجاذبات السّياسيّة التي تحاول أرتيريا وإثيوبيا إنتاجها من خلال رغبتهما في أن يكون لهما الدّور الأساس منفردة في هذه المنطقة. 

وفي القسم الأخير من محاضرته، ركّز الباحث على "الإعلام العربيّ" وضرورة تناول مشاكل هذه المنطقة وتسليط الضّوء عليها، إضافةً إلى ضرورة اهتمام المراكز البحثيّة العربيّة بقضايا القرن الأفريقيّ؛ وخاصّة مسائل: الهويّة، واللاجئين، والقرصنة؛ وإنتاج نقاش جدّيّ علميّ في شأن هذه القضايا، منوّهًا ببدء المؤسّسات الأكاديميّة الغربيّة مثل معهد " تشاتم هاوس" و"أوكسالا" في إنتاج مثل هذه الدّراسة.

اليوم الثاني

ركز المتدخلون في اليوم الثاني من المؤتمر على أنّ الدول العربية والجامعة العربية لا يمكن أن تبقى على هامش التعامل مع قضايا الاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية في القرن الأفريقيّ لأنّ حلّ هذه القضايا يرتبط ارتباطًا مصيريًّا بالأمن القوميّ العربيّ بسبب تدخّلات القوى الكبرى في المنطقة والتّغلغل الإسرائيليّ فيها. وتحدّث المحاضرون أيضا عن الفرص التي تتوفّر لشراكة استثمارية وتجارية بين البلدان العربية ودول القرن الأفريقي شريطة مساهمة هذه الأخيرة في حلّ الأزمات والصّراعات الكثيرة في القرن الأفريقيّ.

شركاء في استئصال التطرّف

 تحدّث البروفيسور الطيب زين العابدين، مستشار مدير جامعة الخرطوم، خلال الجلسة الأولى من اليوم الثاني للمؤتمر  عن أثر الفكر السلفي والحركات المتشدّدة في الاستقرار والتنمية في القرن الأفريقيّ. وأوضح أنّ ظهور التّنظيمات الإسلاميّة حديث في مجتمعات القرن الأفريقيّ، وقد جاء بعد مرحلة الاستقلال عقب الحرب العالميّة الثانية، وذلك عندما بدأ أبناء هذه المجتمعات يطلبون العلم أو العمل في البلاد العربية المختلفة، خاصّة في مصر والسّعودية والسّودان وليبيا. ومن الأفكار والتّنظيمات الحديثة الهامّة التي دخلت إلى منطقة القرن الأفريقيّ أفكار جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التّحرير؛ وفي وقتٍ متأخّر، قوى التفكير الجهاديّ التي نهلت من تجربة الجهاد الأفغانيّ ضدّ الاحتلال السوفييتيّ التي شارك فيها بعض مسلمي القرن الأفريقي خاصّةً من الصّومال وأريتيريا والسّودان. وأصبح هؤلاء بعد عودتهم إلى أوطانهم نواة لتنظيمات جهاديّة تعمل لتحقيق أهداف سياسية، ومنهم من ارتبط بتنظيم "القاعدة". 

ويرى البروفيسور الطيب أنّ على الدول العربية المساهمة في محاربة الفكر المتطرّف في القرن الأفريقي، من خلال العمل على تعزيز السّلام والاستقرار ووضع أساس التنمية المستدامة في دول القرن، وكذا العمل على حلّ معضلة قيام الدولة الصوماليّة وتسوية خلافات الحدود بين دول القرن الأفريقيّ خاصّة بين أثيوبيا وإرتيريا، وجيبوتي وإرتيريا، وأثيوبيا والصّومال، والسودان وجنوب السودان.

وخصّص الدكتور محمد أحمد الشيخ، الأستاذ في كلّية ثيكا للشّريعة والدّراسات الإسلاميّة في كينيا، محاضرته لتحليل الحالة الصوماليّة، مسلّطا الضّوء على تاريخ الصراع وأبعاده. وأوضح أنّ انهيار الحكومة المركزيّة في الصومال وتفكّك البلاد إلى ثلاثة أقاليم، في ظلّ غياب عربيّ فاعل أدّى إلى أن تصبح الصومال منطقة نفوذ دوليّ وأثيوبي وكيني بالوكالة. ولفت الانتباه إلى وجود مكتب ممثّل للجامعة العربيّة في الصّومال، إلا أنّ الجامعة لا تقوم بدورٍ يُذكر في إيجاد حلٍّ للصّراع القائم، وربّما يرجع ذلك إلى غياب رؤية موحّدة تتعامل الجامعة من خلالها مع الأزمة الصومالية؛ غير أنّه نظرًا لانهيار الدولة الصومالية في ظلّ تفاقم الخلافات العربيّة بسبب الغزو العراقيّ للكويت، والتحوّلات الجذريّة التي شهدها العالم إثر تفكّك الاتحاد السوفييتيّ، وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على المشهد العالمي، والاستقطاب الذي حدث داخل المنظومة العربية، وبروز ظاهرة الإرهاب التي جعلت الصومال - وفقا للتصريحات الغربية - مكانا محتملا لاحتضان الجماعات الإرهابية، وغياب قيادات صومالية تستطيع التعاطي مع التطورات المحلية بصورة عقلانية، وتهدئة مخاوف القوى الإقليمية والدوليّة، والاستفادة من انتماءاتها العربيّة والأفريقية بصورة متوازنة؛ جعلت القوى الإقليميّة والدولية المتفاعلة في الشأن الصومالي تبعد الجامعة ودورها من الملف الصومالي، وخير دليل على ذلك ما يقال من أن إثيوبيا رفضت عقد الفعاليات الختامية للمؤتمر الذي بحث الشأن الصوماليّ عام 2009 في المملكة العربية السعودية، وتأييد الغرب لهذا الرّفض. 

وقال الدكتور محمد أحمد الشيخ إنّه إذا كانت هناك موانع سياسية لتفاعل الجامعة العربية مع القضية الصومالية، فإنّ فشلها في دعم المؤسسات الثقافية والأكاديمية غير مبرّر، وهو أمر إن لم تتداركه سيؤثّر سلبا في الجهود الشعبيّة التي بُذلت خلال العقدين الماضيين لتعزيز الثقافة العربيّة وتنميتها في الصّومال. 

فرص استثماريّة واعدة أمام العرب في القرن الأفريقيّ

قدّم الدكتور عبد الله حمدوك، المحلل السياسي والاقتصادي الخبير في معالجة تحدّيات التنمية في أفريقيا، محاضرة بعنوان: "الاستثمار العربيّ في القرن الأفريقيّ: التحدّيات والفرص والآفاق". وأكّد أنه على عكس الصورة النمطيّة السّائدة، بأنّ أفريقيا عموما والقرن الأفريقي على وجه الخصوص منطقة أزمات وتحدّيات، فإنها أيضا منطقة الفرص الاقتصادية والاستثمارات وبالذات للدول العربية بحكم الجوار الجغرافي والتّقارب الثقافي، وتنافسها في ذلك القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصّين والهند وتركيا والبرازيل التي ترى في أفريقيا المكان الأمثل للاستثمار. 

وأوضح الدكتور حمدوك أنّ القارّة الأفريقية من المناطق القليلة في العالم التي نجت من الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية بشكل جيّد نسبيًّا مقارنة مع مناطقَ أخرى من العالم، حيث حافظت دول القارّة على معدّل متوسّط لنموّ الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة قريبة من 5% خلال العقد الأوّل من القرن الحالي. وأشار إلى أنّ منطقة القرن الأفريقي لا بدّ وأن تمثّل للدول العربية وجهة تجاريّة ومقصدًا للاستثمار نظرا لما توفّره من فرص استثماريّة كبيرة، ولكن دون إغفال أنه لا يزال هنالك كثير من التحدّيات التي تعيق عملية زيادة معدّلات الشراكة بين العرب ومنطقة القرن الأفريقي لأسباب مشتركة من الطّرفين والتي تبقي القرن الأفريقي بعيدًا - لحدّ الآن - عن مجال الاستثمار العربيّ.

المصالح وراء حروب المنطقة لا التّنوّع العرقيّ

يرى الدكتور كيداني مينجستياب، أستاذ الدراسات الأفريقيّة في جامعة ولاية ينسلفانيا، أنّ القرن الأفريقيّ يشكّل فسيفساء من الثقافات مع التنوّع العرقيّ الكبير على المستويين الإقليميّ وداخل البلدان نفسها، وأنّ المنطقة تعدّ موطنا لنحو 340 لهجة ولغة. وشدّد في هذا السّياق على أنّ تنوّع الهويّات، في حدّ ذاته، ليس مصدرا للصراع؛ وضرب مثلا بالصومال الذي يتميّز بانسجام عرقيّ إلا أنه يغرق في حرب أهلية منذ عقدين. 

واعتبر الدكتور مينجستياب أنّ منطقة القرن الأفريقي لا تعاني من أزمة هويّة الجماعات، بل من التّنافس بين الجهات السياسية الفاعلة على السّلطة والموارد، ما خلق تحدّيًا على إدارة الدّولة واستقرارها، وخصوصًا تلك التي تكون في طور بناء الأمّة - الدولة. وشدّد على ضرورة إحلال الاستقرار في منطقة القرن الأفريقيّ وأنّ هذه المهمة لن يكتب لها النجاح دون شراكة إقليميّة فاعلة مع القوى الدولية لتثبيت الاستقرار في منطقة القرن الأفريقيّ. 

وفي محاضرته التي تناولت تأثير قيام دولة جنوب السودان في التّوازن الإستراتيجيّ في القرن الأفريقيّ، قال الدكتور عدلان الحردلو، الأستاذ في جامعة الخرطوم، إنّه على الرغم من الجوار العربيّ الأفريقيّ بين دول المنطقة وتداخل شعوبها والتفاعل التاريخيّ الحضاريّ بينها، إلا أنّ جميعها تعاني من توتّرات سياسية وأمنية وأثنيّة وقبلية غالبًا ما تكون سببًا في حدوث نزاعات بين دولها. فهناك نزاعات أثيوبية- صومالية، وصومالية- كينية، وأثيوبية- أريتيرية، وسودانية -أثيوبية، وجيبوتية -صومالية، وأريتيرية- جيبوتية، وجيبوتية- أثيوبية، وسودانية - سودانية. 

وأوضح أنّ هذه الأوضاع تجعل منطقة القرن الأفريقيّ كلّا مركّبا ومعقّدا من الأمن الإقليميّ الذي تنعكس التداعيات في أيّ دولة فيه على المنطقة بأكملها، لأنّ النزاعات المختلفة تتشابك وتغذّي بعضها ببعض وتنتج عن مواقف معيّنة للسياسات الخارجية التي تؤدّي إلى تفاقم النزاعات بينها. ولفت إلى أنّ علاقات العرب بمنطقة القرن الأفريقيّ تتمّ داخل شبكة من العلاقات الدولية في المنطقة والشرق الأوسط، وهي تعبّر عن مصالحَ متناقضة مع المصالح الغربية. حيث تعتبر المنطقة محطّ تنافس الدول الكبرى لأهميتها الإستراتيجية ولاعتباراتٍ سياسيّة واقتصادية وأمنيّة وعسكريّة، 

ويشدّد الدكتور الحردلو في ورقته على أنّ انقسام السودان أصبح هاجسا لمصر التي بنت علاقاتها وترتيب مصالحها الإستراتيجيّة المائيّة على أساس وحدة السودان، فهي تخاف من تنامي النّفوذ الإسرائيلي في المنطقة وخطورة السياسات المائيّة لدول حوض النّيل بدخول إسرائيل والولايات المتّحدة في توجيه تلك السّياسات، بهدف الضّغط على السودان ومصر والعرب عموما في إطار التنافس بين العرب وإسرائيل في منطقه القرن الأفريقيّ والبحر الأحمر على المستوى الإقليميّ. ورأى أنّ دول الخليج العربية يمكن أن تساهم في توثيق الترابط مع دولة الجنوب السودانيّ عن طريق الاستثمار في المجالات المختلفة في جنوب السودان، ليس لمصلحة الجنوب وحده، وإنّما أيضًا لمصلحة المستثمرين العرب ومصلحة السودان. 

وتناول الدكتور ميهاري مارو، رئيس برنامج الوقاية من النزاعات في أفريقيا، حالة إثيوبيا وعلاقاتها بجوارها، باعتبارها إحدى دول القرن الأفريقيّ الأكثر تدخّلا في الصّراعات الإقليميّة في المنطقة، وأكثرها دخولا في صدامات مسلّحة مع دول الجوار. واعتبر مار أنّ إثيوبيا بإمكانياتها وتكوينها الثقافي واللغوي والديني المتنوّع يمكن لها أن تساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي والأمن في منطقة القرن الأفريقي، مشيرا إلى أنّ إثيوبيا هي نقطة الارتكاز والاستقرار في منطقة القرن الأفريقيّ، وشريك في التنمية والسّلام والأمن على المدى الطويل في أفريقيا والعالم العربيّ.

هيمنة أميركيّة على أفريقيا

قدّم الدكتور مضوي الترابي، المتخصّص في أبحاث الدّفاع، ورقة عن "أفريكوم والقرن الأفريقيّ والقوميّ العربيّ. وأكّد في محاضرته أنّ السّياسة الأميركيّة في أفريقيا ترتبط بعدّة مصالح، فمن الناحية الاقتصاديّة تهدف الولايات المتحدة إلى فتح أسواق جديدة في مناطقَ مختلفة من العالم، خاصّة التي تتّسم بوجود فرص هائلة للاستثمار وأسواق مفتوحة للمنتجات الأميركيّة، والأهمية القصوى بالطبع لنفط القارّة الذي يتركّز حاليًّا في غربها. ومن الناحية السياسيّة ترفع الولايات المتحدة مبدأَي: الديمقراطية، وحقوق الإنسان؛ كركيزتين أساسيتين للسياسة الخارجية الأفريقية، إلا أنّ هذه المبادئ أداة تستغلّها السياسة الأميركيّة لتحقيق مصالحها وليست هدفًا تسعى إلى تحقيقه. 

وعند تطرّقه للأهداف الأمنيّة والعسكريّة للولايات المتحدة في سياستها الأفريقيّة، أوضح الدكتور الترابي أنها تسعى إلى تحسين قدرة القارّة على التّعامل مع المشكلات الأمنيّة المؤثّرة في الأمن العالميّ بصفة عامّة وفي الأمن الأميركيّ بصفة خاصّة وأهمّها الإرهاب ( بالتعريف الأميركيّ). وفي هذا الإطار بادرت الولايات المتحدة بتشكيل قوّة تدخّل أفريقيّة و قيادة خاصة "أفريكوم" لمواجهة الأزمات استنادًا إلى المبادرة الخاصّة بمواجهة الأزمات الأفريقية. بالإضافة إلى ذلك تركّز الولايات المتحدة على قضايا الإسلام السياسيّ في القارة، وخاصّة بعد تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا. 

ويلفت الدكتور الترابي إلى أنّ الحديث عن "أفريكوم" قلّ في الفترة الأخيرة، نظرًا للأزمة الماليّة والاقتصاديّة الحاليّة، التي فرضت إعادة ترتيب الأولويّات، لكن تركيز أدواتها متواصل، فبعد تنصيب الجنرال وليام وارد رسميًّا كأوّل قائد لـ "أفريكوم" يوم 1 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2008، تتواصل المناورات العسكرية والتمارين المشتركة، وإعادة توزيع وانتشار القوّات بين القواعد العسكريّة في أوروبا ونقاط الارتكاز في أفريقيا، وكذلك زيارات الوفود العسكرية والمدنيّة لأفريقيا، مع تغيير طفيف في البرنامج، تمثّل في تكثيف "العمل الإنسانيّ" للجيش الأميركيّ في أكثر البلدان الأفريقية فقرًا. ويوضح أنّ الدول الأفريقية التي رفضت القواعد العسكريّة (لأنّ ضررها أكثر من نفعها) لم ترفض توثيق التعاون الاقتصاديّ والعسكريّ مع أميركا، فالجزائر تستقبل جنودًا وبوارجَ أميركية للقيام بمناورات وتمارين مشتركة بصفة مستمرّة، وتقيم علاقات عسكرية وأمنية واقتصادية وثيقة مع الولايات المتحدة. أمّا ليبيا فقد "قامت بكلّ ما يجب" لتطبيع علاقاتها مع أميركا وأوروبا. وتستمرّ كذلك المناورات العسكرية في حوض البحر الأبيض المتوسط بإشراف الحلف الأطلسي ومشاركة الكيان الصهيوني إلى جانب كلّ الدول العربية المطلّة على المتوسط (وحتّى غير المطلّة كالأردن)، لأنّ الكيان الصهيونيّ يبقى في كلّ الحالات الحليف الإستراتيجيّ الثابت لأميركا والحلف الأطلسيّ، ويجب فرض حضوره ومشاركته على الجميع.

طمس التنوّع في الثّقافة والهويّة يفجّر أوضاع القرن الأفريقيّ

تناولت الجلستان الثالثة والرابعة من اليوم الثاني المحور الفكريّ الثقافيّ والاجتماعيّ في العلاقة بين العرب والقرن الأفريقيّ. وجّه الدكتور الباقر العفيف، مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية في الخرطوم، نقدًا للهويّة السودانيّة في تعريف المشترك والفارق بين ما هو عربيّ وأفريقيّ في الذّات السودانية، وهو الالتباس الذي أدّى في الأخير إلى فرض تقسيم السودان، مطالبا السودانيّين في الشطر الشمالي باستعادة اعتزازهم بهويّتهم الأفريقية لأنّ ذلك سيكون جسرا بين العرب والقارّة الأفريقية وليس منطقة القرن الأفريقيّ فحسب. 

ورأى أنّ الحالة السودانية الشمالية تماثل الحالة العربية في فشل ثقافيّ يبلغ حدّ الإفلاس. ولقد أثبتت الأيام أنّ الطبقة الحاكمة الشمالية في السودان لن تتوقّف عن ممارسة النفي والإقصاء لكلّ ما يمثّل "الآخر"، وأنّها لا تتعلّم دروس التاريخ. إذ ما إن انفصل جنوب السودان، وأعلن دولته المستقلّة حتّى ظهر جنوب جديد، هو ما تبقّى من المكوّن الأفريقي في البلاد.

ومن جانبه، وفي محاضرته عن العالم العربيّ وشعوب القرن الأفريقيّ في عيون الآخرين، حمل الدكتور ستيف هاورد، مدير برنامج الدراسات الأفريقية في جامعة أوهايو، على الثقافة العربية ونظرتها إلى الأفارقة عموما وحتى إلى أبناء السودان الذين يتشاركون مع العرب في كثير من الخصائص الثقافية واللغوية. واستنكر ما أسماه العنصرية العربية في السودان. وقال إنّ منطقة القرن الأفريقي طوّرت بشكل منفرد أو جماعيّ علاقات متعددة مع الوطن العربي، والسودان وجيبوتي والصومال أعضاء في جامعة الدول العربية، إلا أنّ المنطقة العربية لا تولي اهتماما كبيرا لهذه المنطقة إلا فيما يتصل بمصالحها وأمنها المباشرين. 

وينتقد الدكتور هارود النظرة الغربية القاصرة أيضا بشأن هذه المنطقة والتي لا ينظر لها إلا على أساس أنها منطقة فقر وجفاف ومجاعات من دون النظر إلى ثرائها اللغوي والثقافيّ والتراثيّ. 

وتحدّث الأستاذ عبد الله البشير، محلّل المعلومات بوزارة الخارجيّة القطرية، عن صورة شعوب القرن الأفريقيّ في كتابات الجغرافيين، مشيرا إلى أنّ الرحّالة الجغرافيّين العرب والمسلمين رفدوا مجلد الحضارة الإنسانية، بمساهمات معرفية أصيلة وعظيمة عن منطقة القرن الأفريقي، ولا تزال مصدرا علميّا مهمّا. ولكنه نبّه إلى أنّ بعض هؤلاء الجغرافيّين استندوا إلى الوصف والتسجيل للمشاهدات الدّقيق والواقعيّ، في حين جنح البعض الآخر نحو الخيال والخرافة. وقال إن ملامح صورة شعوب القرن الأفريقي في كتابات الرحّالة والجغرافيّين تأثّرت بالموروث من الأمم الأخرى كاليونانيين وغيرهم، كما تأثّرت، خاصة عند الرحّالة، بنزعة الإخبار والإبهار، وحبّ إمتاع السامعين وإدهاشهم بالغريب من المشاهد، فامتزج الواقع والحقيقيّ بالخيال والخرافة. 

قدّم الدكتور عبد السّلام البغداديّ قراءة لمجمل أسباب الفشل بناءً على تقرير علميّ يرى أنّ الصّومال والسودان من أكثر الدول فشلا على مستوى العالم، والصّومال بحكم الميّتة لتمزّقها إلى عدّة أقاليم ولا تزال تسود فيها الحرب الأهليّة ولديها صراعات مع دول الجوار، كما أنّ السودان مرشّح ليكون دولة ممزّقة حتى بعد انفصال الجنوب، ولا توجد مؤشّرات حقيقيّة تفيد بأنّ الشطر الشمالي من السودان سيحظى بالاستقلال. ويقول الدكتور البغدادي إنه يوجد في منطقة القرن الأفريقيّ نحو 200 جماعة ثقافية أثنيّة، وتعيش في مناخ سياسيّ تغيب عنه إدارة التنوّع، فهل اللا تجانس طريق إلى اللااستقرار؟ تجربة الولايات المتحدة الأميركية وكذلك الهند وتنزانيا، نماذج على أنّ التعدّدية الأثنيّة لا تعني الصّراع، فهذه البلدان الثلاث فيها المئات من الجماعات الأثنيّة لكنها تتعايش في ظلّ نظام سياسيّ مستقرّ. 

ويلفت الدكتور البغدادي إلى أنّ انتماء النّخب السياسية إلى جماعة عرقيّة أو أثنية معيّنة يؤدّي في تلك البلدان إلى قصْر المنافع السياسيّة والاقتصاديّة على أبناء هذه الجماعة الأثنيّة المسيطرة وتهميش الجماعات الأخرى، وهذا ما يؤشّر على سوء إدارة التعدّدية وفساد الحكم في تلك البلدان والذي هو يسبّب أزمة عدم استقرار متواصلة في منطقة القرن الأفريقيّ، وبالتالي فالمنطقة في حاجةٍ أيضًا إلى ثورة ديمقراطيّة حقيقيّة للاعتراف بالآخر وتحقيق قيم المساواة والمواطنة. 

اليوم الثالث

اختتم برنامج المؤتمر الثريّ بمائدة مستديرة حواريّة حاول المشاركون في المؤتمر الإجابة خلالها عن أسئلة الرّاهن والمستقبل في علاقة العرب بالقرن الأفريقيّ. وقدّم الدكتور سيار الجميل رئيس وحدة الأبحاث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات للجلسة الحواريّة بطرح تساؤلات عن سرّ الأزمات وحالة التفتّت التي يعيشها القرن الأفريقيّ وغياب الدور العربيّ في إيجاد حلول لها على الرّغم من التأثيرات الكبيرة للأوضاع في القرن الأفريقيّ في الأمن الإستراتيجيّ للدول العربيّة المجاورة، خصوصًا في ظلّ التدخّل الأجنبيّ في المنطقة والتّغلغل الإسرائيليّ فيها. 

وركّزت تدخّلات المشاركين في النّقاش على بناء رؤية إستراتيجيّة للدول العربيّة في التّعامل مع قضايا القرن الأفريقيّ ومساهمتها في حلّ الأزمات السياسيّة والصّراعات القائمة في منطقة القرن الأفريقيّ من أجل خلق الانسجام الكفيل بأن يجعل من القرن عمقًا إستراتيجيًّا للسّياسة العربيّة وموطئ قدم ثابتًا للاستثمارات العربية في ظلّ الفرص الكبيرة المتوفّرة هناك. 

وقد سبقت المائدة الحوارية الختاميّة للمؤتمر جلسة أخيرة خُصّصت لتناول طبيعة تعاطي الإعلام العربيّ مع قضايا القرن الأفريقيّ، حيث تحدّث الدكتور طارق الشيخ، الباحث والإعلامي السودانيّ المقيم في قطر، عن تناول الإعلام العربيّ لشؤون الصومال، معتبرا أنّ وسائل الإعلام العربيّة كانت مسؤولة إلى حدٍّ كبير عن تشويه صورة الصّومال وحصره في صورة العنف والمجاعة. أمّا الأستاذ فيصل محمد صالح، مدير البرامج في مؤسّسة "طيبة برس"، فيرى أنّ الصورة النمطيّة عن أفريقيا في الذّهن العربيّ مستمدّة من الإعلام الغربيّ وبالتالي من الذهنيّة الغربيّة، ولا يعمل الإعلام العربيّ على تغيير هذه الصورة النمطيّة بل يكرّسها. وذهبت الأستاذة أفراح ثابت، في ورقتها، إلى أنّ الإعلام العربيّ مقصر في التّعامل مع قضايا القرن الأفريقيّ، الأمر الذي أثّر في التّفاعل الإيجابيّ بين العالم العربيّ والقرن الأفريقيّ. وأشارت إلى أن منطقة القرن الأفريقيّ ظلّت مدّة طويلة بعيدة عن دائرة الاهتمام الإعلاميّ العربيّ على الرّغم من الرّوابط التاريخيّة والقرب الجغرافيّ والتأثير الإستراتيجيّ للقرن الأفريقيّ، وانحصر حضور القرن الأفريقيّ في الإعلام العربيّ من خلال الحروب الداخليّة في دوله أو فيما بينها أو من خلال الكوارث الطبيعيّة التي تضرب المنطقة كالجفاف والمجاعات، وظلّت الصّورة الذهنيّة العربيّة المرتبطة بالمنطقة في ذلك الإطار. من جانبه، اعتبر الأستاذ محمد طه توكل، مراسل وكالة الأنباء القطريّة في القرن الأفريقي، أنّ هناك تغييبا متعمّدا لقضايا القرن الأفريقيّ في وسائل الإعلام العربية، وهو التفسير الوحيد المقبول في نظره، فلا تكاد منطقة القرن الأفريقيّ تشخص في فضاء الصّحافة العربية وأثيرها وأجهزتها الإعلامية، إلا من خلال المتابعة الغربية والدوليّة لشؤونها.