صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد الثالث والسبعون من الدورية العلمية المحكّمة "سياسات عربية"، التي تُعنى بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتصدر كل شهرين. ضمّ العدد ملفًّا خاصًّا بعنوان: "أربعون عامًا من البنائية في حقل العلاقات الدولية"، تضمّن أربع دراسات، إضافةً إلى تقديم لمحرر العدد محمد حمشي واستهلالٍ لنيكولاس أونوف. كما اشتمل على ترجمةٍ، وتوثيق لأهم محطات الصراع العربي – الإسرائيلي، وأبرز مراحل التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي ووثائقه، إلى جانب مراجعة كتاب.
يتناول محمد حمشي في دراسته بعنوان "البنائية في حقل العلاقات الدولية: المدارك والمسالك" تطوّر المقاربة البنائية في العلاقات الدولية منذ نشأتها في النظرية النقدية؛ ويبحث في العوامل التي ساهمت في استمرار البنائية الجديدة في النمو والازدهار، على الرغم من انسحاب ألكسندر ونت من برنامج البحث البنائي الذي كان من أبرز مؤسسيه. ويجادل بأنّ ثلاث تحولات رئيسة عرفها حقل العلاقات الدولية خلال العقود الثلاثة الأخيرة كانت وراء استمرار ازدهار المقاربة البنائية، تمثّلت في: انحسار حدة الاستقطاب الإبستيمولوجي بين نظريات الحقل، وصعود الواقعية النقدية كفلسفةِ علمٍ للعلاقات الدولية، وتطور النزعة الانتقائية التحليلية التي وسّعت من نطاق حضور البنائية في الأبحاث الإمبريقية. ويخلص إلى أنّ البنائية تحوّلت من تيار تأملي ناشئ إلى نظرية راسخة أعادت تشكيل حقل العلاقات الدولية ووسّعت حدوده المعرفية والمنهجية.
ويجادل عبد النور بن عنتر في دراسته بعنوان "الأمن من منظور بنائي: الأمن هو ما تصنعه الدول منه" بأنّ البنائية، بشقَّيها التقليدي والنقدي، مثّلت نقلة فكرية في حقل الدراسات الأمنية؛ حيث أسهمت في إعادة تعريف الأمن بوصفه بناءً اجتماعيًا، وفي مراجعة العديد من المفاهيم العقلانية المركزية، مثل الفوضى والمعضلة الأمنية، وإدخال مفاهيم الهوية والمصالح والمعايير إلى قلب حقل الدراسات الأمنية. ويخلص بن عنتر إلى أنّ البنائية لم تُنتج نظرية مستقلة في الأمن، غير أنّ إسهاماتها التجديدية وما أتاحته من مرجعية فكرية لمقاربات الأمن الجديدة تؤكد حضور منظور بنائي مميز للأمن داخل نظريات العلاقات الدولية، فهذه المقاربات، النقدية منها وغير النقدية، أسهمت في بلورة نظرية أمنية ذات مرجعية بنائية، وهو ما يُعدّ الإنجاز الأبرز للبنائية في حقل الدراسات الأمنية.
وتتناول مروة فكري في دراستها "تحوّلات النظام الإقليمي العربي: مقاربة بنائية" أثر الهوية والأفكار والمعايير والمصالح في تشكيل النظام الإقليمي العربي، من خلال تحليل تحولات مفصلية مرّ بها هذا النظام في أربع مراحل تاريخية بارزة: حلف بغداد (1955)، وهزيمة حزيران/ يونيو 1967، وحرب الخليج الأولى (1990)، وغزو العراق (2003)، وصولًا إلى الربيع العربي (2011). وتبين فكري أنّ هذه المحطات أسهمت في إعادة تشكيل الهويات الإقليمية، حيث أصبحت شرعية الفاعلين الإقليميين رهينة بقدرتهم على فرض تصوّراتهم وإعادة تعريف القضايا الجوهرية في الإقليم. وتخلص إلى أنّ الهوية والمعايير شكّلتا محورًا أساسيًا في رسم السياسة الإقليمية، إذ تجاوزت الصراعات بُعدَ القوة المادية إلى التنافس على التصوّرات والأدوار، غير أنّ التفسير البنائي يظل محدودًا مثل غيره من تفسيرات نظريات العلاقات الدولية.
أما مي درويش، في دراستها بعنوان "ألكسندر ونت في الشرق الأوسط: كيف يبنى الاختلاف في قلب الهويات الجماعية؟"، فتحاجّ بأنّ تطبيق النظرية البنائية على واقع الشرق الأوسط يكشف عن إمكانيات تحليلية وتفسيرية واعدة، إذ تُظهر حالة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وحركة حماس كيفية تحوّل العلاقات التعاونية، على الرغم من الاشتراك في هوية جماعية إسلامية، إلى علاقات صراع، بفعل ديناميات التفاعل وسياقات القوة والسياسة الإقليمية. وترى درويش أنّ افتراض بنائية ألكسندر ونت لمسارٍ تتجه فيه الهويات نحو التعاون لا ينسجم مع واقع الشرق الأوسط، حيث أصبحت الهويات الجماعية مصدرًا للتوتر والعداء بدلًا من أن تكون أساسًا للتعاون؛ فعلى الرغم من أنها تضمّنت التزامات مشتركة ورؤى وحدوية، فإن سيرورات تشكّل الدولة في المنطقة أفرزت أنماطًا من التفاعل المغاير، ما يعكس منطقًا مغايرًا لما تفترضه البنائية الكلاسيكية في تفسيراتها.
وفي باب "دراسة مترجمة"، نُشرت ترجمة سارة إسماعيل لمقال ألكسندر ونت المرجعي، "الفوضى هي ما تصنعه الدول منها: سياسة القوة بوصفها بناءً اجتماعيًا". أما باب "التوثيق" فتضمّن أهم "محطات التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي" ووثائقه، و"الوقائع الفلسطينية" في المدة 1 كانون الثاني/ يناير - 28 شباط/ فبراير 2025. وفي باب "مراجعات الكتب"، قدّمت سارة ناصر مراجعة لكتابَي ونت المرجعيَّين "نظرية اجتماعية للسياسة الدولية" و"العقل الكوانتي والعلوم الاجتماعية: نحو توحيد الأنطولوجيا الفيزيائية والاجتماعية".
** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.