ملخص
ترمي هذه الورقة إلى اقتراح نموذج تحليلي يطلق عليه اسم "الكتلة المسيطرة" لفهم النظام السياسي الإسرائيلي الحالي. وتعتبر هذه الورقة استمرارًا للورقة التي نشرها الباحث حول انتخابات الكنيست في دورتها العشرين، والذي ابتغى تحليل السلوك السياسي في الانتخابات وما تمخض عنها من نتائج من خلال منظومة "النظام الحزبي المسيطر". تنطلق هذه الورقة من مقولة إن نتائج الانتخابات أظهرت كتلة مسيطرة (الكتلة اليمينية) في النظام الحزبي الإسرائيلي. وهو مرحلة تطور كتلة مسيطرة في "نظام الحزب المسيطر". ويبغي نموذج "الكتلة المسيطرة" تفسير بنية النظام السياسي الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، والتي لم تصل بعد إلى مرحلة الحزب المسيطر Dominant Party، وإنما تتشكل حالة بينية تسمى كتلة مسيطرة Dominant Block لها مجموعة من المميزات، سيسعى المقال لنقاشها في مباحثه المختلفة. حيث تتميز الكتلة المسيطرة بعدة مميزات، منها: وجود قاعدة اجتماعية مشتركة سياسيًا وأيديولوجيًا بين مركباتها بدرجة لافتة جدًا، وثبات التصويت لمركبات الكتلة المسيطرة في دورات انتخابية متتالية، وتوافقها السياسي قبل الانتخابات على تشكل الحكومة القادمة، وتقارب سياسي وأيديولوجي بين مركباتها.
مقدمة
شرّع الكنيست قانون انتهاء دورة الكنيست السابقة في كانون الأول/ ديسمبر 2018، حيث قدمت الحكومة القانون وأعلنت عن موعد مبكر للانتخابات في نيسان/ أبريل 2019، وذلك قبل انتهاء المدة القانونية لدورة الكنيست السابقة. وبذلك تندرج دورة الكنيست السابقة في دورات الكنيست التسع المتتالية التي لم تكمل ولايتها القانونية، حيث تجري الانتخابات بمعدل مرة كل 3.4 سنوات؛ الأمر الذي يؤكد إشكاليات النظام السياسي البرلماني الإسرائيلي الذي يتميز بكثرة القوائم المُمثلة في الكنيست، والمُشكّلة للائتلاف الحكومي، مما يعرقل الآمال في أن تكمل حكومةٌ مدتَها القانونية، بسبب صراعات قد تنشأ بين مركبات الحكومة في قضايا معينة.
ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة الأخيرة أن تحكم مدة طويلة نسبيًا مقارنة بحكومات سابقة (2015-2018)، من دون أن يطرأ عليها تغيرات عميقة، ما عدا انضمام حزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان للحكومة بعد عامين من تشكيلها، وتقلّده منصب وزير الدفاع، وخروجه فيما بعد من الحكومة في أعقاب خلافه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول التعامل مع قطاع غزة. وما عدا هذا التغيير فقد حافظت الحكومة على استقرار سياسي لافت، وذلك نابع من اعتمادها على "الحلفاء الطبيعيين لليكود"، كما سماهم نتنياهو عشية تشكيل حكومته الرابعة عام 201. وتجدر الإشارة إلى أن نتنياهو في حكومتيه السابقتين كان هو المبادر إلى تقديم الانتخابات، لمصالحه هو كما رآها.
كان العامل المعلن والمباشر لتقديم الانتخابات يعود إلى الخلاف حول قانون تجنيد المتدينين المتزمتين (الحريديم)، حيث تأكد عدم وجود أغلبية لهذا القانون في الكنيست، وبالذات على خلفية ترك حزب إسرائيل بيتنا برئاسة ليبرمان الحكومة احتجاجًا على سياسة الحكومة في التعامل مع غزة، والذي أبقى الحكومة، كما كانت قبل انضمامه، حكومة تعتمد على 61 عضوًا في الكنيست. إلا أن السبب الرئيس في تقديم الانتخابات هو تقديم المستشار القضائي للحكومة لوائح اتهام ضد نتنياهو، ومحاولة نتنياهو الحصول على شرعة جديدة ترمي إلى إنقاذه من تثبيت لوائح الاتهام ضده، حيث إن رهان نتنياهو كان الفوز بالانتخابات وتعزيز قوة الليكود، واشتراط الائتلاف الحكومي المقبل عدم الانسحاب من الحكومة حتى بعد تثبيت لوائح الاتهام.
بدأت حكومة نتنياهو من خلال نجاحه في تشكيل ائتلاف حكومي مع "حلفائه الطبيعيين"، أي المتدينين وأحزاب اليمين واليمين الديني. انضمت جميع الأحزاب اليمينية والدينية إلى حكومة نتنياهو منذ البداية ما عدا حزب إسرائيل بيتنا. ورغم اعتماد الحكومة التي تكونت من 61 عضوًا، على أغلبية عادية والتي شكلت بالنسبة إليها تحديًا كبيرًا، فقد استطاعت أن تصمد لمدة عامين، وأن تستمر في الحكم وتسنّ تشريعات قانونية تنسجم مع مشروع اليمين الإسرائيلي في طريقه إلى الهيمنة. وبعد انضمام ليبرمان إلى الحكومة بعد عامين من تشكلها، عيّنه نتنياهو وزيرًا للدفاع؛ الأمر الذي أدى إلى استقالة وزير دفاعه من حزب الليكود موشيه يعالون. وهكذا ارتفع عدد مقاعد الائتلاف إلى 66 مقعدًا. ورغم انضمام ليبرمان إلى الحكومة، فإن خلافات بقيت داخل الائتلاف الحكومي حول مسألتين ساهمتا، في النهاية، في خروج ليبرمان من الحكومة وتقديم الانتخابات؛ وهما: 1) السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، حيث طالب ليبرمان بوصفه وزيرًا للدفاع بسياسة أشدّ عدوانية وشمولًا تجاه القطاع وحركة حماس، في حين استمر نتنياهو في سياسته في الرد العيني على هجمات تقوم بها المقاومة الفلسطينية. و2) النقاش حول قانون تجنيد المتدينين (الحريديم) في الجيش، حيث جاء ليبرمان باقتراح لتجنيد الشباب المتدين بالتنسيق مع الجيش، بينما طالبت الأحزاب الدينية بإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، وصياغة قانون ينسجم مع مطالبهم بإعفاء الشباب المتدينين الذين يدرسون في المدارس الدينية من التجنيد، وتحديد عدد المتجندين وأعمارهم إلى الحد الذي يتوافق مع تصوراتهم، وهو الأمر الذي رفضه ليبرمان؛ ما أدى إلى انسحابه مرة أخرى من الحكومة.
تؤكد تجربة الحكومة السابقة أن إسقاط حكومة يمين من طرف أحد مركباتها اليمينية صار صعبًا جدًا، وهذا يعود إلى عوامل عديدة ترتبط بذاكرة اليمين التاريخية في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تتعلق بتجارب سابقة، قامت فيها كتل يمينية بإسقاط حكومة يمين صعدت على إثرها حكومة غير يمينية، تبنّت مشاريع في الأراضي الفلسطينية المحتلة تتناقض مع فكرة اليمين الاستيطاني والديني والقومي. وترتبط ثانيًا بتقارب بين قواعد اليمين الاجتماعية التي ترى في إسقاط حكومة يمين من طرف كتلة يمينية خيانة للمعسكر اليميني، وتمهيدًا لإقامة حكومة غير يمينية، وترتبط ثالثًا، بأن السياق التاريخي الإقليمي والدولي يسمح لليمين بتنفيذ مشاريعه السياسية والأيديولوجية. وإسقاط حكومة يمين من طرف كتلة يمينية يُشكل خيانة لهذه اللحظة التاريخية. لذلك تمتنع الأحزاب اليمينية من إسقاط حكومة يمين. يدرك نتنياهو هذه الحقيقة وينعكس هذا الفهم في خطابه في السنوات الأخيرة بزعمه المتكرر أن التحقيقات ضده، ما هي إلا مؤامرة من النخب القديمة ووسائل الإعلام وأجهزة الدولة لإسقاط حكم اليمين بطريقة غير ديمقراطية، عبر إطاحته من خلال لوائح اتهام مفبركة، وليس عبر صناديق الاقتراع.
تنطلق هذه الورقة من مقولة إن هذه العوامل وعوامل أخرى، ساهمت في تشكيل كتلة مسيطرة من اليمين الإسرائيلي، تتميز بتشابه قواعدها الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية، بما في ذلك القواعد الاجتماعية للأحزاب الدينية المتزمتة التي تتبنى توجهات سياسية يمينية، ليس فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين فحسب، وإنما فيما يتعلق بالقضايا الداخلية مثل معاداة الجهاز القضائي، والنخب الإشكنازية العلمانية، وقدرة الكتلة المسيطرة على تشكيل حكومة من دون الحاجة إلى ضم أحزاب من خارج اليمين، وهو ما لا يتوافر لكتل المعارضة جميعًا، والتحفظ لديها من إسقاط حكومة يمينية، وإجماعها على نتنياهو بوصفه رئيس حكومة من معسكر اليمين والمتدينين.
تتكون الورقة من أربعة أجزاء؛ يناقش الجزء الأول الإطار النظري لمفهوم الكتلة المسيطرة من خلال مقاربتها عبر مفاهيم سياسية مثل الحزب المُسيطر والنظام الحزبي المُسيطر، ويتعرض الجزء الثاني للمشهد الانتخابي، ويهدف إلى النظر في تبلور مفهوم الكتلة المسيطرة في النظام السياسي الإسرائيلي، ثم يقوم الجزء الثالث بتحليل نتائج الانتخابات، وكيف ساهمت في تأكيد التوجه نحو بلورة الكتلة المسيطرة، ويتطرق الجزء الرابع إلى أهم الاستنتاجات.