يشهد العراق، يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، انتخابات نيابية مبكرة، هي الأولى في كونها "انتخابات مبكرة" بعد الغزو الأميركي للبلاد في 2003؛ إذ تأتي بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي، أواخرَ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، إثر حركة احتجاجات واسعة، يصفها مشعلوها والمنخرطون فيها ومؤيدوها بأنها "ثورة"، وعقب تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء (في أيار/ مايو 2020)، الذي جعل من أهم أولويات حكومته "إجراء انتخابات مبكرة استجابة للمطالب الشعبية الحقة"، كما جاء في خطابه أمام البرلمان، بعد نيل حكومته الثقة[1]. وبالفعل، دعا الكاظمي رسميًّا، في أواخر تموز/ يوليو 2020، إلى إجراء انتخابات مبكرة في 2021.
عدّ الكاظمي حكومتَه "حكومة انتقالية"، مهمتُها الأساسية هي التهيئة للانتخابات المبكرة، في حين كان في إمكانه أن يقدّمها بوصفها استكمالًا لولاية حكومة عبد المهدي. وتحديدُ الكاظمي مهمةَ حكومته على هذا النحو إنما يأتي في إطار خطاب متعاطف مع الثورة، وقد كان واضحًا وصريحًا مسعى الكاظمي لتضمين خطاب ثورة تشرين ومطالبِها في خطابه.
وبغض النظر عن دوافع الكاظمي الحقيقية وراء ذلك، يدخل هذا التوظيف في سياق صراع النخبة الشيعية الحاكمة وانقساماتها، ولا سيما الشكل الأخير للانقسام، الذي تبلور خلال حقبة رئيس الوزراء حيدر العبادي (2014-2018).
في واقع الحال، لم تكن النخبُ والتنظيمات السياسية الشيعية موحّدة أبدًا، بل كانت منقسمة منذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط نظام صدّام حسين؛ بسبب خلافات المصالح والتوجهات، والصراع على تمثيل الهوية الشيعية كذلك. غير أن طبيعة الانقسام وشكله (ومن ثم أطرافه) كانا يتغيران باستمرار، من انقسام الداخل والخارج، إلى انقسام الدولة والميليشيات، إلى الانقسام على فهم طبيعة علاقة النخبة الشيعية الحاكمة بالمكونات الإثنية والدينية الأخرى في البلاد ونخبها، إلى الانقسام على فهم موقع العراق من الصراعات الإقليمية، ولا سيما طبيعة العلاقة بإيران. وقد طبع هذا الانقسامُ الأخير حقبةَ العبادي؛ إذ انقسمت النخبُ الشيعية على موقف (وموقع) العراق من المحاور الإقليمية، وطبيعة العلاقة بالدول العربية، وحدود النفوذ الإيراني، وكذلك على الكيفية التي ينبغي أن يتخذها تحديد دور الولايات المتحدة الأميركية في العراق، التي كانت قد سحبت قواتها العسكرية من البلاد، أواخر عام 2011، استنادًا إلى الاتفاقية الأمنية الموقّعة بين البلدين في عام 2008، ثم عادت، وإن بشكل محدود، إثر سقوط الموصل وجزء واسع من أراضي البلاد بيد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" (صيف 2014).
شقَّ هذا الانقسامُ التنظيمات الشيعية، أو أعاد توزيعَها وتركيبها في فئتين كبريين: الأولى هي التنظيمات القريبة من إيران والمدعومة منها، أو التي ترى أن علاقة العراق بإيران علاقة مصيرية في ظل الصراعات الإقليمية القائمة، كما ترى أن الهوية الشيعية يجب أن تكون أساسَ الاصطفاف الذي تنخرط فيه، داخليًّا وخارجيًا. ويتمثّل عمادُ هذه الفئة في الفصائل المسلحة التي خرجت، بالتدريج وعبر عقد من الزمان، من عباءة جيش المهدي (التجربة الأهم في الشيعية المسلحة)، بسبب الصراعات والتناقضات داخل هذا التنظيم، أو بتشجيع ودفع إيرانيين، لتشكلَ (مع الفصائل الشيعية المسلحة ما قبل جيش المهدي، ولا سيما فيلق بدر)، كيانًا مسلحًا كبيرًا، تحكمه عقيدة الدفاع عن تجربة الحكم الشيعي في العراق من جهة، وينخرط أداةً في الصراع الإقليمي الواسع، الذي باتت تديره إيران ما بعد الثورات العربية 2011 من جهة أخرى. وفي 2014، وبسبب تهديد داعش، تأطرت هذه الفصائل بالإطار الذي يحمل اسم "الحشد الشعبي". وحتى بعد انتهاء الحرب على داعش (خريف 2017)، لم تتوقف هذه التنظيمات، بل بدأت (أو استأنفت، بالأحرى) ديناميكيتها الطويلة لتتصيّر تنظيماتٍ سياسية، لها مواقفُها السياسية الخاصة فيما يخص تجربة الحكم الشيعي في العراق، ولكنها تدور في النهاية في الفلك السياسي الإيراني. والفئة الثانية هي الفئة التي تعارض هذا التوجه. وعلى الرغم من أنها تعرّف نفسها من خلال الهوية الشيعية، فإنها لا تتوافق مع السياسة الإيرانية، سواء في توجهاتها الإقليمية، أو عدائها للغرب، أو استتباعها العراق، من خلال نفوذها الكبير فيه. ولذلك، هي تعمل على أن تحدّ من النفوذ الإيراني في البلاد ونفوذ وكلائه المحليين، وتتخذ من العلاقة بالولايات المتحدة والدول العربية أداة في توجهها هذا.
كان الكاظمي جزءًا من منظومة العبادي؛ إذ شغل منصب رئيس جهاز المخابرات في حقبته (2016-2020). وعدا توجهاته السابقة، القريبة من الخط الأميركي، عمّقت تجربةُ الحرب على داعش صلتَه بالأميركيين، من حيث وظيفته على رأس جهاز المخابرات.
وهكذا، لم يكن الكاظمي بعيدًا عن الانقسام الشيعي الموصوف آنفًا، وقد يكون قرأ احتجاجات 2019 بأنها ثورة على تركة العقدين من تجربة الحكم الشيعي، والتي يتحمل التيار القريب من إيران مسؤوليةَ رسم ملامحها الأساسية، وهي قراءة واسعة ومنتشرة، تفهم الاحتجاجات بأنها احتجاج الشباب الشيعة تحديدًا، الذين نشؤوا في ظل الحكم الشيعي. وبغض النظر عن تقييمي لهذا النمط من التفسير لاحتجاجات 2019، الذي أرى أنه اختزالي (وسريع)، كان لا بد لتفسيرٍ على هذه الشاكلة أن يُوظَّف ويدخل في سياق الانقسامات الشيعية.
وفي سياق الصراع بين الفاعلين في منظومة الحكم، يجب أن نفهم تضمينَ الكاظمي خطابَ تشرين واستعارتَه، وصولًا إلى إقرار الانتخابات المبكرة في 2021، التي ستبدو (بحسب ما يريد الكاظمي في كل هذا السياق الموصوف أعلاه) مخرجًا من مخرجات ثورة تشرين 2019 وثمرة من ثمراتها.
وفي الحقيقة، لا يمكن الادعاء بأن الانتخابات المبكرة هي من بنات أفكار الكاظمي، بل هي بالفعل شعار رفعته أطراف أساسية في الثورة.
كنتُ قد بيّنتُ، في إسهام سابق[2]، أن التيار العام بين قوى الثورة لم يكن مع خيار الإسقاط الكامل للنظام وبناء نظام سياسي جديد وعملية سياسية جديدة، من الحجر الأول. ومع أنه كانت ثمة رؤية بين بعض المحتجين بضرورة إسقاط النظام القائم، وبناء نظام جديد من الصفر، ثمة في المقابل خشية غالبة مما يمكن أن يؤدي إليه التصفيرُ من عودة التجمع في إطار الهويات الإثنية والطائفية، وما يمكن أن يفضي إليه هذا من عنف؛ إذ تفتقد البلاد إلى ناظم متفق عليه يوجّه عمليةَ الانتقال نحو النظام الجديد وبنائه. ولا تزال ذاكرةُ تجربة ما بعد 2003 شاخصة؛ إذ انتهى سقوطُ الاستبداد إلى حرب أهلية (2008-2006). هذا إلى جانب أن لا أحد يملك ضمانة بأن العودة إلى النقطة صفر ستقود إلى نتائج أحسن مما آلت إليه الأمور، منذ 2003 وإلى هذه اللحظة.
ومن ثمّ، تشكّل الأفقُ السياسي لثورة تشرين على أنها "ثورة إصلاحية": أن يسهم الضغط الاحتجاجي، الطويل والمتواصل، في بناء مسار سياسي، يفضي إلى تعديلات جذرية في النظام، بما يجعل منه شيئًا (نوعًا) آخر. وتتضمن "إعادة البَنْيَنَة" هذه أمرين: الاستمرارية مع النظام القائم، بغض النظر عن شكل هذه الاستمرارية وقَدْرها، والانطلاق منه لصناعة بنية جديدة.
وفي الخلاصة، ثمة ثلاثة مكوّنات أو مفاهيم شكّلت الأفقَ السياسي للثورة ومسار الانتقال إلى نظام جديد: الاحتجاجات الطويلة والمتواصلة، والمسار السياسي الذي يكون هدفه، الأول والأخير، إصلاح النظام السياسي، والطابع الجذري لهذه الإصلاحات.
لذلك، كانت ثمة رؤية دائمة بأن الحل يمكن أن يأتي من المسار السياسي القائم، وبإطار الشرعية الراهن، أو لنقل: القدر الأدنى من إطار الشرعية القائم. وهذا يعني قبول التيار الأوسع بين قوى الثورة ببقاء النظام إطارًا، وإنما الأملُ الأكبر في إصلاحه إصلاحًا جذريًا. وما أفكار "الانتخابات المبكرة"، و"إصلاح القانون الانتخابي"، و"إصلاح مفوضية الانتخابات"، التي تبناها طيف واسع من المحتجين، إلا أفكار للعمل من داخل النظام القائم، لا بنقضه وإنكاره ونسفه.
هذا الأفق العام للثورة هو استنتاج لاحق للفعل الاحتجاجي على الأرض، وهو صياغة وتدوين للديناميكيات العميقة للثورة، في محاولة تريد أن تعطي الثورةَ لغتَها السياسية والفكرية، لتكون هذه اللغةُ، من ثمّ، جزءًا من الثورة.
غير أن هذا الإطار المجرد، حتى وإن كان في الإمكان أن يتحوّل تدريجيًّا إلى برنامج عمل طويل الأمد لقوى الثورة، فإنه لم يبدُ للعديد منها كافيًا أو عمليًا، من دون مطالب محددة وبرنامج ملموس. من هنا، وفي هذا الإطار، قدّم العديد من أطراف الثورة دعوةً لإجراء انتخابات مبكرة؛ وهي دعوة تبطن أمرين: الأول هو أن الانتخابات السالفة (منذ 2005) لم تعكس توجهات الرأي العام العراقي نحو السلطة، ومن ثم، تكمن المشكلة، بحسب هذا التصور، في العملية الانتخابية نفسها التي لو جرى ضبطها لقدّمت مخرجات أخرى؛ والأمر الآخر، والأكثر أهمية، هو أن الانتخابات المبكرة ستتحول هنا إلى "استراتيجية انتقالية" وأداةَ التغيير نحو النظام البديل.
كان الأفق العام السالف للثورة، بطابعه التركيبي (ضغط احتجاجي مستمر، يفضي إلى إصلاحات جذرية داخل النظام) يتمفصل، شيئًا فشيئًا، إلى طريقين أو خيارين يعكسان التوجهات المختلفة لقوى الثورة. الطريق أو الخيار الأول هو أن تحافظ الثورةُ على زخمها الاحتجاجي، بمعنى أن تبقى حركةَ احتجاج، من جهة أن الاحتجاجات، التي تتراكم منذ 2010، هي الأداة الوحيدة التي قادت إلى إحداث تغيير ملموس في النظام ومساره؛ والخيار الآخر تبنته أطراف داخل الثورة، كانت تخشى من أن تتحول الاحتجاجاتُ، من كونها أداةَ انتقال، لتكون غاية بذاتها، لتدخل الحركة الاحتجاجية من ثمّ في نفق عدمي. هذا فضلًا عن الخشية من أن الظروف الملائمة لنجاح الحركة الاحتجاجية قد لا تكون متوافرة دائمًا، في حين أن التغيير عبر الأطر المؤسسية القائمة هدف ملموس وعيني، وليس مبدأ عامًّا أو فكرة مجردة.
وفي كل الأحوال، لا نستطيع أن نقول إن قوى الثورة اختارت، وعلى نحوٍ حاسم ونهائي، أحدَ الخيارين على حساب الآخر؛ فالخيار الأول لا يزال يُناقَش في أوساط الحركة الاحتجاجية، غير أن الخيار الثاني تحول إلى واقع حال وإجراءات ملموسة.
وهكذا، أصبحت الانتخابات المبكرة أداةً للتغيير.
بالنسبة إليّ، كنت أدعو منذ وقت مبكّر إلى عدم اختزال أهداف الثورة في الانتخابات المبكرة، فعدا ما تراكم خلال العقدين الأخيرين في أدبيات العلوم السياسية التي درست التجارب الانتخابية، من أن الانتخابات قد تؤدّي دورًا سلبيًا، وقد تزيد من الاستقطاب المجتمعي، إذا تحولت إلى فضاء للتنافس بين مجموعات إثنية ودينية، لا تتفق على تصوّر واحد لنظام الحكم (وقد استُعمل العراق ما بعد 2003 بوصفه مثالًا بارزًا في هذا المجال)، لا يبدو لي من السليم التعامل مع الانتخابات والنظر إليها بوصفها مرآة تعكس على نحوٍ شفّاف وأمين رأيًا عامًّا قارًّا وثابتًا. الانتخابات، بالأحرى، صناعة، والكيفيةُ التي تنعكس بها صورةُ الرأي العام تؤثر فيها عواملُ كثيرة. ولا أقصد، هنا، عمليات التزوير وشراء الأصوات، بل أقصد الإجراءات التي لا قادح قانونيًّا فيها، من قبيل الدعاية وسبلها، والأموال التي تُبذَل في سبيل ذلك وحسن توزيعها، وكيفية إدارة السلوك التصويتي للناخبين، وكيفية توزيع مرشحي كل قائمة على المناطق والدوائر الانتخابية، وما إلى ذلك من إجراءات.
وبالتأكيد، لا تتساوى التنظيمات السياسية المتنافسة في قدراتها على هذه الصناعة، بل ليس ثمة تكافؤ بين التنظيمات التي وُلدت للتو من رحم الحركة الاحتجاجية، والتنظيمات التي راكمت خبرات طويلة في مجال الصناعة الانتخابية.
والأهم من ذلك، ربما، ونحن نتحدث عن حالة الانتخابات الراهنة في العراق، أن الانتخابات المبكرة لم تكن وسيلةً، أو أداة، أو جزءًا، من انتقال ثوري، أو انتقال إصلاحي شامل، كما هو أمل ثورة تشرين 2019 في العراق، التي صُنّفت ووُضعت في مصاف ثورات وحركات احتجاجية ذات طابع مفصلي جذري، في إطار ما عُرف بـ "الموجة الثانية من الثورات العربية".
إن الأمل الذي وُضع على الانتخابات المبكرة، بوصفها أداة تغيير وانتقال، وهي لم تكن كذلك في خبرات الانتقال السياسي عبر العالم، نقلها من كونها مطلبًا رفعته الثورة (أو بعض أطرافها)، لإجراء تغيير جذري في النظام، إلى متبنى للنظام نفسه؛ فهذه الانتخابات ما كان لها أن تُجرى لولا قبول أطراف النظام الأساسية بها، بل إنها ما كان لها أن تجرى لو أن أحد الأطراف الأساسية في النظام انسحب منها.
وبلا شك، كانت أكثر لحظة كان يمكن فيها لهذه الانتخابات أن تؤجّل أو تُلغى هي اللحظة التي أعلن فيها زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، عدم مشاركة تياره في الانتخابات، في أواسط تموز/ يوليو 2021، ولم يكن لأي موقف للقوى المنبثقة عن ثورة تشرين أي تأثير في مسألة انعقاد الانتخابات من عدمه، وفي أي وقت.
وهذا يلخّص، على نحوٍ مكثّف جدًا، كيف أن الانتخابات، التي قُدِّمت بأنها مخرج من مخرجات ثورة تشرين، انتهت لأن تكون أداة بيد النظام وقواه الأساسية.
[1] وقد ضمّن الكاظمي هذا في المنهاج الوزاري لحكومته، بل جعله الفقرة الأولى فيه، ينظر: جمهورية العراق، رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، "المنهــاج الــوزاري"، 6/5/2020، شوهد في 10/10/2021، في:
https://bit.ly/3j75loP
[2] حيدر سعيد، "ثورة تشرين.. رهانها وأفقها السياسي"،
الثقافة الجديدة (بغداد)، العدد 413-414 (تموز/ يوليو 2020).