العنوان هنا
تقييم حالة 07 أكتوبر ، 2021

القوى الشيعية والانتخابات العراقية: التيار الصدري نموذجًا

حارث حسن

باحث مشارك في المركز العربي، يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، له العديد من الدراسات المنشورة في المجلات الأكاديمية. تتركز اهتماماته البحثية على قضايا الدولة وعلاقتها بالمجتمع والهوية

مقدمة

تتناول هذه الورقة مواقف القوى الشيعية واستراتيجياتها تجاه الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 والسيناريوهات المحتملة لما بعدها، بالتركيز على التيار الصدري نموذجًا. وتجادل بأنه لا يُحتمل أن تفرز هذه الانتخابات تحوّلًا كبيرًا في ميزان القوى الحالي بين القوى الشيعية، وبأن التيار الصدري سيظل لاعبًا أساسيًا في تشكيل المشهد السياسي بعد الانتخابات، لكن من غير المحتمل أن يحصل على منصب رئيس الوزراء، وسيكون في مواجهة خيارات صعبة، تُرجّح استمرار الأزمة السياسية والصراعات التي انفجرت بعد احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

أولًا: القوى الشيعية والانتخابات: المشهد العام

بداية، ينبغي فهم وظيفة "الانتخابات" في السياق السياسي العراقي، وبوجه خاص الشيعي، في ظل وضع لا تحتكر فيه الدولة أدوات "الإرغام الشرعي"، وتتوقف سلطة تطبيق القانون عند حدود الأحزاب المهيمنة والفصائل المسلحة، حيث تُصبح قوى قادرةً على خرق القانون من دون محاسبة، لأن سلطة القانون لا تعلو عليها. وفي هذه الحالة، تُصبح الأطر الدستورية والقانونية رهينةَ توازن متجاوز للقانون Extrajudicial، وتغيب سلطة "السيد" Sovereign الذي تُمثّله الدولة باعتبارها المحتكر النهائي لـ "الإرغام الشرعي" و"المنفذ الوحيد لسلطة القانون"، وكيانًا غير مشخصن يتجسّد وجوده في المؤسسات، وتحلّ محلّها السلطة المشخصنة لقوى عدة، تتنافس في ما بينها وتمتلك قدرة الردع تجاه بعضها البعض وتجاه الدولة نفسها. وفي سياق مثل هذا، تتعدّد فيه مراكز القوى ولا تخضع لسلطة دولتية متعالية عليها، تسعى تلك المراكز لضبط مخرجات الانتخابات، بحيث لا تُهدّد أولًا قدرتها على الوصول إلى موارد السلطة في دولة ريعية تعتمد اعتمادًا شبه كلّي على تدوير عوائد النفط، وثانيًا لا تُهدّد قدرتها على ردع الأطراف الأخرى أو الدولة في حالة المواجهة المسلحة. بهذا المعنى، إذا كانت الانتخابات في بلد سلطوي/ دكتاتوري تميل إلى إعادة إنتاج سلطة الطرف المتمكن من السلطة، فإنها في بلد تتعدد فيه مراكز القوة (ومصادر الإرغام) تنطوي على هامش تنافسي أكبر، لكنها تميل إلى إعادة إنتاج التوازن القلق بين تلك المراكز، وعلى نحوٍ يُجنّبها اضطرار اللجوء إلى المواجهة المسلحة.

لقد شهد الواقع السياسي الشيعي تحوّلات أساسية منذ عام 2014، أنتجت المعادلة الراهنة من "التشظّي" وتعدّد مراكز القوى. ويمكن الإشارة إلى ثلاث ديناميات أساسية في هذا الصدد:

  • أولًا، الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" التي سمحت بالظهور العلني لفصائل شيعية مسلحة كانت تنشط سرًا، ومن ثم "تقنين" وجودها ومأسسته في إطار "الحشد الشعبي"، وتحوّلها إلى فواعل على الأرض، تملك سلطة الأمر الواقع وسرديتها الخاصة بشأن الشرعية (أي الشرعية التي اكتسبتها من مواجهة تنظيم "داعش")، ومن ثم مسعاها لتحويل سلطة الأمر الواقع التي اكتسبتها إلى قوة سياسية تنشط في العملية السياسية وتؤسس لنفسها وجودًا سياسيًا رسميًا يُسهّل عليها المساهمة في تأليف الحكومة واكتساب مقعد على طاولة التفاوض والوصول اليسير إلى موارد الدولة.
  • ثانيًا، تفكُّك الائتلاف "السلطوي" الذي شكّله نوري المالكي في أثناء شغله منصب رئيس الوزراء ثمانية أعوام، وكان يتبلور تدريجيًا بوصفه ائتلافَ حزب حاكم باسم "دولة القانون"، يستفيد من إمكانات السلطة لبناء شبكاته الزبائنية وتوسيعها وإضعاف مناوئيه، والتهيئة لانتخابات تُعيد إنتاج تفوّقه، وهو ما حدث في انتخابات عام 2014. وكان في إمكان هذا الائتلاف الذي انضوت فيه قوى شيعية متعددة، من بينها تلك القريبة من الفصائل المسلحة مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق، أن يستمر لولا صعود تنظيم "داعش" وموقف الولايات المتحدة ومرجعية النجف المعارضة لبقاء المالكي في منصبه. وأدّى خروج الأخير من السلطة إلى تشظّي هذا الائتلاف ونشوء تحالف "الفتح" بمعزل عنه، بوصفه تجمعًا للقوى المرتبطة بالفصائل المسلحة.
  • ثالثًا، صعود جيل جديد من قادة الفصائل الإسلامية، ومن خلفيات اجتماعية كانت "مُهمّشة" في معادلة السلطة الدينية والسياسية الشيعية، ومحاولتها أحيانًا عبر نهج أكثر راديكالية من القوى القديمة إنتاج شرعيتها الخاصة ووجودها باعتبارها قوى جديدة، كما هي الحال مع "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله".

في سياق مثل هذا، تحاول مراكز القوى المتكوّنة من فاعلين سياسيين وآخرين مسلحين وشبكات زبائنية وخطاب سياسي وأدوات تحشيد وإقناع، أن تُفرِغ الانتخابات من قدرة تهديد مواقعها. وإذا كان التنافس في ما بينها يُبقي الانتخابات خيارًا بديلًا من الحرب، فإن الصراع مع الفاعلين الجدد والقوى المجتمعية المتضررة يأخذ إما شكلًا غير انتخابي (مثل الاحتجاجات في الشارع)، أو يتحوّل إلى صراع/ تفاوض بشأن تقليل قدرة مراكز القوى على التحكم في نتائج الانتخابات، وعلى نحو يمنح القوى الاحتجاجية الجديدة هامشًا تنافسيًا أكبر. ومن هنا، نفهم الانتخابات الحالية باعتبارها نتاجَ ضغطِ فاعلٍ جديد هو "الحركة الاحتجاجية"، وبحثها عن التمثيل وإصلاح النظام جذريًا، وضغط بعض أطرافها من أجل إقرار نظام انتخابي لا يسمح للأحزاب المهيمنة بإعادة إنتاج هيمنتها بسهولة.

جاء قرار تنظيم الانتخابات المبكرة وإقرار نظام انتخابي جديد بمنزلة "تنازل" من القوى المهيمنة، وفي إطار عملية المساومة التي فرضها وجود الاحتجاجات، وبعد أن أخفقت استقالة رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، في إيقاف الزخم الاحتجاجي.

لقد ظهرت الحركة الاحتجاجية بوصفها فاعلًا سياسيًا جديدًا أسهم حينها في تغيير ميزان القوى وفرض نمط جديد من التساوم بين الطبقة السياسية المهيمنة والشارع من جهة، وأقطاب الطبقة السياسية، وبوجه خاص القوى الشيعية الرئيسة، من جهة أخرى. لكن مع تراجع الاحتجاجات لاحقًا، ونجاح القوى الشيعية في إضعاف بعض أجنحتها عبر استخدام أساليب الترهيب والترغيب، ولا سيما العنف المفرط وعمليات الاغتيال والاختطاف المُقيّدة غالبًا ضد مجهول، فإن توازن القوى عاد ليصبّ نسبيًا في مصلحة الفاعلين المهيمنين في الطبقة السياسية الشيعية. وتسبب زوال ضغط الشارع في تخفيف طابع الاضطرار وشعور الخطر لدى هؤلاء الفاعلين، وفي التراجع عن تقديم المزيد من التنازلات، بل العمل على إعادة تكييف ما تم تقديمه من تنازلات على نحو يصبّ في مصلحتهم.

وحينما جرى اختيار مصطفى الكاظمي رئيسَ وزراء لا ينتمي إلّا بشكل محدود إلى الطبقة السياسية الإسلامية التقليدية والجيل الذي تولّى هذا المنصب من قبل، في وقت كانت الاحتجاجات لا تزال فاعلة ومؤثرة في توجيه مدركات الفاعلين الشيعة، نُظر إلى ذلك بوصفه "تنازلًا" آخر، خصوصًا أنه جاء بعد إسقاط مرشّحين آخرين قدّمهم تحالف "الفتح" و"دولة القانون"، بوصفهم مرشّحي "اليمين الشيعي". لكن، انتقل الاختلاف لاحقًا من تسمية شخصية رئيس الوزراء إلى تحديد طبيعة تفويض الحكومة الجديدة "المؤقتة"، ففي حين افترضت بعض قطاعات المحتجين والقوى المجتمعية والسياسية القريبة منها أن للحكومة الجديدة تفويضًا واسعًا للمضي في إصلاح سياسي هيكلي لضمان شروط تنافس أفضل وأكثر عدالة في الانتخابات، بما في ذلك الحدّ من نفوذ الفصائل المسلحة وتكريس سلطة الدولة المحايدة بوصفها محتكرةً لسلطة الإرغام الشرعي وإنفاذ القانون، فإن فريقًا آخر تمثّل على نحو أساسي في أقطاب الطبقة السياسية، اعتبرها حكومة تصريف أعمال بتفويض محدود ومن دون مشروع للإصلاح السياسي العميق.

وفي حين بدأت حكومة الكاظمي عهدها بما بدا أنه سقف عالٍ، فإنها سرعان ما تكيّفت مع توازن القوى التقليدي بعد تلاشي ضغط الشارع، وقبلت بتفويض محدود، مع محاولات منعزلة لمسك زمام المبادرة، من دون أن تكون مؤطرة بمشروع منهجي للإصلاح السياسي. وهنا، أصبح وعد تنظيم الانتخابات المُبكرة بمنزلة مهرب أيضًا من التعامل مع الاستعصاء السياسي القائم نتيجة تعدد الفاعلين ومقاومتهم التغيير، أو لمزيد من التنازلات.

إذًا، لا بد من النظر إلى الانتخابات في هذا السياق باعتبارها انعكاسًا لعملية إصلاح متعثرة، وتسويةً تُعبّر عن التوازنات الحالية، لا توازنات مرحلة الاحتجاجات، ومن ثم، فهي مثّلت تنازلًا محدودًا عكسه التخلّي عن النظام الانتخابي القديم القائم على الصوت المتحوّل Transferable Vote والدائرة الانتخابية الكبرى، لمصلحة نظام الصوت غير المتحوّل Non-transferable Vote والدائرة الانتخابية الأصغر. ويُفترض في هذا النظام الجديد أنه يُعطي الفرصة لإضعاف نفوذ الأحزاب التقليدية وزيادة تأثير الصوت المحلي وإمكان صعود المستقلين. لكن تغيير النظام الانتخابي ليس ضمانًا لمنافسة عادلة، من دون وجود قانون للأحزاب السياسية قابل للتنفيذ ويَحرِم القوى النافذة من امتلاكها الأذرع المسلّحة والحصانة السياسية والقانونية وقدرة استخدام سيطرتها على بعض المفاصل الحكومية والأمنية لتوجيه العملية الانتخابية لمصلحتها.

على الرغم من أن القوى المهيمنة قبلت بتشكيل مجلس جديد للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات يُفترض أنه مكوّن من قُضاة مستقلين، فإنها أحالت عملية ضبط سلوك هؤلاء القضاة إلى مجلس القضاء الأعلى المرهون وجوده أيضًا برضا تلك القوى عليه، وعلى نحو يضع سقفًا واضحًا لقدرته وقدرة مجلس المفوضية على إصلاح قواعد اللعبة الانتخابية خارج الحيّز التقني/ الإجرائي، في حين بقي البرلمان الذي تُهيمن عليه تلك القوى الفضاءَ الوحيد للتعامل مع ما هو سياسي، بما يعني الحيلولة دون المُضيّ في أي تشريع آخر من شأنه إضعاف مراكز الأحزاب المهيمنة فيه. وفي النتيجة، فإن انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر ربما تحصل بشروط إجرائية وتقنية أفضل، ووفق نظام انتخابي أكثر انفتاحًا لإمكان صعود فاعلين جدد، لكنها تجري وفق شروط سياسية وأمنية تصبّ في مصلحة القوى المهيمنة ذات الأذرع المسلحة والإمكانات المالية الضخمة. بمعنى أنها تعكس فهم تلك الأحزاب لماهية التغيير باعتباره "تقنيًا، وإجرائيًا، وسطحيًا"، لا يشمل مصادر قوة تلك الأحزاب، ويقوم جزء كبير من تلك المصادر على قوة الأمر الواقع، ولا يخضع للمعايير القانونية والدستورية، بل يُكرّس وضع تلك الأحزاب وقادتها باعتبارها قوى فوق القانون والدستور.

ثانيًا: التيار الصدري وتوازن القوى في الساحة الشيعية

أفرزت انتخابات عام 2018 مزيدًا من التشرذم في المشهد السياسي الشيعي، مع وجود قوى عدة، جميعها بوزن متوسط أو صغير، ما يُعقّد عملية المساومة Bargaining في ما بينها لإنتاج حكومة جديدة، وأدّى في النهاية إلى صيغة توافقية مخالفة للدستور من أجل توزيع الأرباح بين الفرقاء. وأفرزت هذه الصيغة حكومة هشّة، من دون قاعدة برلمانية راسخة، ووفق تراضي القوتين الرئيستين المزوّدتين بأذرع مسلحة: التيار الصدري، وتحالف "الفتح". لكن، أصبحت حكومة عادل عبد المهدي أكثر قربًا إلى تحالف "الفتح" والفصائل المسلحة المتحالفة معه أو المتمثلة فيه، ما دفع التيار الصدري إلى التخلّي عنها مُبكرًا بعد اندلاع الاحتجاجات. وخلافًا لذلك، كانت حكومة مصطفى الكاظمي أقرب إلى التيار الصدري والقوى الشيعية المحسوبة على الاتجاه السياسي المعتدل، مثل تيار "الحكمة"، بزعامة عمار الحكيم، و"النصر"، بزعامة حيدر العبادي؛ أي إن الانتقال بين الحكومتين، وإن كان قد استند إلى صيغة توافقية غير قانونية (من حيث تجاهلها تحديد الكتلة الأكبر)، فإنه عدّل نسبيًا من التوازن لمصلحة الصدريين، من دون أن يمثل تغييرًا جوهريًا. ولذلك، نلمس شراسة بعض قوى "الفتح" والفصائل المسلحة في معاداة الكاظمي، قياسًا على ما أبدته من قبول، أو على الأقل ما أظهرته من صمت تجاه عبد المهدي، مع أهمية الفارق المتعلق بوجود أبو مهدي المهندس، رئيس أركان "الحشد الشعبي" حينذاك، وعلاقته الخاصة بعبد المهدي.

استغل التيار الصدري الاحتجاجات التي شارك أنصاره فيها قبل أن يقع الصدام بين الصدر وبعض التيارات "المدنية" في الحركة الاحتجاجية، للدفع في اتجاه تمرير القانون الانتخابي الجديد الذي اعتقد الصدريون أنه سيصبّ في مصلحتهم في النهاية، من ناحية إضعاف تأثير رئيس الكتلة الانتخابية الهرمية، مثل "دولة القانون"، بزعامة نوري المالكي، لمصلحة الكتل التي تُجيد توزيع أصوات ناخبيها أفقيًا، مثل التيار الصدري. لكن مع توقف عملية "الترميم الاضطراري" الذي فرضته الاحتجاجات، أخذت معظم تلك القوى تتعامل مع القانون الجديد وتتكيّف معه، واكتشفت فيه ممكنات لإعادة إنتاج نفوذها، ما دامت المعادلة العامة التي تحكم العملية الانتخابية تصبّ في مصلحتها. لكن، انطوت هذه التكيفات أيضًا على صراع محتدم على النفوذ في الدولة، وفي أجهزة القمع، وفي الشارع، تحديدًا بين التيار الصدري و"الفتح"، إضافة إلى الفصائل القريبة من التيار. ويبدو أن التصعيد عبر الاغتيالات وزعزعة الاستقرار الأمني، وربما حتى حوادث احتراق المستشفيات، كان ذلك جزءًا من هذا الصراع، ويساعد في تفسير قرار مقتدى الصدر التكتيكي بالانسحاب الوقتي من الانتخابات لتخفيف الضغط على تياره الذي تحمّل اللوم الأكبر نتيجة الإخفاقات الخدمية في الوزارات التي يُهيمن عليها، مثل وزارتي الصحة والكهرباء، كما عكس شعورًا بتراجع الثقة بأن يفرز النظام الانتخابي فوزًا كاسحًا للتيار.

هنالك شقان في الاستراتيجية السياسية - الانتخابية للتيار الصدري: الأول متعلق بطبيعة الرسالة السياسية؛ والثاني بالتكتيك الانتخابي. ففي ما يخص الشق الأول، لوحظ أن التيار الصدري يشارك في الانتخابات لأول مرة تحت تسمية "الكتلة الصدرية"، بعد أن اعتمد تسميات أخرى، مثل "كتلة الأحرار" و"حزب الاستقامة" و"تيار سائرون"، في الانتخابات السابقة، وترافق ذلك مع خطاب مباشر أكثر من المعهود من الصدر، يتعلق باتجاهات الكتلة واستراتيجياتها، بل الدخول بنفسه في حملاتها الانتخابية لتزكية مرشّحيها. ويعكس هذا اللجوء إلى التسمية المباشرة والوضوح في دعم مقتدى الصدر للكتلة محاولةَ التيار الصدري تأكيد هويته المتمايزة وتوظيف الحمولة الرمزية لاسم "الصدر" لدى جمهوره، كما يعكس صراعًا أساسيًا حول الإرث "الصدري" مع الفصائل التي انشقت عن الصدر نفسه، مثل "عصائب أهل الحق" و"حركة حزب الله النجباء"، فضلًا عن العديد من العناصر في "كتائب حزب الله". ويرتبط هذا الصراع بتحوّل هذه الجماعات المنشقة إلى قوى منافسة للتيار الصدري وموازنة لقوته العسكرية، وأيضًا بالتأويلات المتصارعة للإرث الصدري، ففي حين يمركز مقتدى الصدر اليوم في خطابه أفكار "الإصلاح" و"العدالة" باعتبارها التمثلات الرئيسة لإرث أبيه، فإن تلك التيارات تمركز فكرة "المقاومة" وموقف العداء للولايات المتحدة والغرب في الإرث الصدري. ولذلك، عمدت "عصائب أهل الحق" في بيانها الصادر بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لتأسيسها على التذكير بأنها تشكلت على يد ثُلّة من "الشبان الذي تربوا على يد محمد الصدر [...] ليواجهوا أعتى قوة عسكرية عرفتها البشرية".

بالنسبة إلى مقتدى الصدر، فإن الانتماء الصدري يختزل هويات متعددة، تعكس إلى حدٍ ما التركيبة الفكرية - الاجتماعية للحركة الصدرية، فهي تيار إسلامي محافظ، لكنه يقوم على مقولات راديكالية ونزعات طقوسية عبّأت قطاعات من الشيعة العرب ذوي الأصول الجنوبية والمنحدرين من بيئات فقيرة، وفي الوقت نفسه يمثل طبقة صاعدة من السياسيين ورجال الدين وأصحاب المصالح والمحاربين الذين تمازج صعودهم مع تقولب المنظومة السياسية - الاجتماعية الراهنة، وعلى نحو خفّف من نزوعهم الراديكالي. وأمام هذا الخليط الهويّاتي - الأيديولوجي، يُعيد الصدر موضعة تياره بحسب السياق التصارعي - التفاوضي الذي تفرضه مرحلة معيّنة، فيتنقّل من الصدر المقاوم إلى الصدر الإصلاحي، ومن الزعيم الشعبوي إلى السياسي التكتيكي، بخفة لا يمكن تبريرها إلّا عبر تأكيد هوية وانتماء أعلى من تلك الانتماءات كلها، هو الانتماء الصدري. ومن هنا يأتي استدعاؤه المتكرر لمفهوم "آل الصدر"، واعتباره الحفاظ على سمعة العائلة أحد أسمى الاعتبارات.

وينبغي أيضًا ربط ما تقدّم بقيام التيار الصدري بعملية إعادة هيكلة، هي ليست الأولى بالطبع، هدفها تحقيق المزيد من المركزية والتماسك في الكتلة الصدرية. ومن هنا أطلق الصدر حملة "البنيان المرصوص" لتسجيل أسماء منتسبي التيار، في خطوة يمكن فهمها أيضًا باعتبارها انتقالًا من نموذج الحركة الشعبوية الفضفاضة المستندة إلى أطر شخصانية للتضامن، إلى شكل من أشكال التنظيم السياسي العقلاني "الحديث" الهادف إلى وضع استراتيجيات انتخابية وفق معطيات حسابية مدروسة. وتهدف أيضًا إلى إقامة نظام ممأسس للضبط والمكافأة وتقليل الانشقاقات، خصوصًا أن التيار الصدري يتعرّض لتحديَّين يقذفان بعض أنصاره خارج صفوفه، واحد من اليمين، تُمثّله الفصائل المسلحة المقربة من طهران التي تمتلك آلية تأثير عبر فرص التوظيف والترقي في "الحشد الشعبي"، ممزوجة بأيديولوجية تناغم النزعات "الطائفية" والدينية لبعض هؤلاء الأنصار، وآخر من اليسار تُمثله الحركة الاحتجاجية التي استفزت النزعة الاحتجاجية للتيار واستقطبت بعض مريديه الذين فقدوا ثقتهم بالصدر، أو وجدوا فضاءً احتجاجيًا بديلًا بعد أن توقف احتكار التيار لسياسات التجمهر والتحشيد.

إضافة إلى ذلك، تحضر ثيمة "الإصلاح" مجددًا في خطاب الصدر خلال الحملة الانتخابية، وكما كانت الحال منذ عام 2016 على الأقل. فمثلًا تكررت كثيرًا كلمة الإصلاح ومشتقاتها في خطب الصدر وبياناته خلال الحملة الانتخابية، من دون أن تكون مشفوعة بأي خطة محددة أو تفصيلات توضح معنى "الإصلاح"، وكيف يُترجَم تشريعيًا وتنفيذيًا، وعلى نحو يعكس الطابع الشعبوي للخطاب الصدري. كما تراجعت صدقية التيار الصدري في تحقيق هذا الإصلاح، بسبب الصدام الذي حصل بينه وبين بعض قطاعات المحتجين خلال حراك "تشرين 2019"، فضلًا عن وجوده ونفوذه في العديد من الوزارات والمؤسسات الحكومية (الصحة والكهرباء والأمانة العامة لمجلس الوزراء). لقد ربط الصدر فكرة الإصلاح في احتجاجات عام 2016 بإنهاء محاصصة المناصب الوزارية وتأليف حكومة "تكنوقراط"، وكان من أهدافه تفكيك واستبدال الشبكات التي بناها خصمه نوري المالكي في المؤسسات الحكومية خلال تولّيه منصب رئيس الوزراء. لكن ذلك لم يمنع الصدريين أنفسهم من تعزيز نفوذهم على المناصب الأدنى من منصب وزير، مثل وكلاء الوزراء والمديرين العامين ورؤساء الأقسام، وعلى نحو سمح لهم بالتأثير في سياسات وقرارات الوزارة.

لذلك، تبدو قدرة الصدريين على كسب الأصوات هذه المرة أقل ارتباطًا بالرسالة وصدقيتها من ارتباطها بدقة التنظيم وكفاءته والقدرة على التكيّف مع النظام الانتخابي والاستفادة منه لتعظيم مكاسبهم، وهنا تأتي أهمية الشق الثاني المتعلق بالتكتيك الانتخابي. والانطباع السائد هنا هو أن لدى الصدريين ماكينةً انتخابيةً فعّالة وكفؤة، تعتمد على خليط من التوجيه المركزي والقواعد المحلية والانضباط. وقد ركّز الصدر في خطابه الانتخابي على أهمية التنظيم والالتزام بتوجيهات اللجنة الانتخابية المركزية. وبدأت هذه العملية في اختيار المرشحين مركزيًا، ما أدى إلى اعتراضات أو محاولات انشقاق من بعض أعضاء التيار الذين لم يجرِ ترشيحهم، وعلى نحو دعا الصدر إلى إصدار بيانات علنية ضد من يشقون "عصا الطاعة". وبحسب بعض المعلومات، جرى استخدام الجناح العسكري للتيار (سرايا السلام) لتهديد من لا يلتزم بالتعليمات المركزية. وبعد توزيع المرشحين على المناطق الانتخابية، وإلزام كل مرشح توقيع وثيقة سلوك تتطلب منه عدم مخالفة التوجيهات المركزية للتيار، بدأ العمل على توزيع أصوات جمهور التيار بين هؤلاء المرشحين، بحيث يتم ضمان صعود أكبر عدد منهم. ومن هنا تأتي أهمية حملة "البنيان المرصوص" لتسجيل أعضاء التيار وناخبيه، ومن ثم توزيع أصواتهم جغرافيًا، ولأجل ذلك استحدث التيار أيضًا تطبيقًا على أجهزة الموبايل الذكية يسمح لأتباعه بمعرفة مناطقهم الانتخابية ومرشّحي كل منطقة.

يُعوّل التيار على الفرص التي يوفرها النظام الانتخابي الجديد الذي يحتمل أن يشهد تشتيتًا كبيرًا للأصوات بين المرشحين الأفراد، مع قاعدة الصوت الأعلى التي ستسمح بصعود عدد من المرشحين من دون الحاجة إلى عبور حد أدنى معيّن من الأصوات، وبناء عليه تصبح لهندسة التصويت قيمة كبرى، ما تعطي ميزة للتيار نظرًا إلى كونه يجمع بين القدرة التنظيمية والقاعدة الجماهيرية المتماسكة. لكن ذلك لا يعني أن التيار الصدري قادرٌ على تحقيق فوز كاسح، أو حتى الوصول إلى عدد المقاعد التي تحصّلها في انتخابات عام 2018، الذي بلغ 57 مقعدًا. ومن المحتمل أن تؤدي أي زيادة في نسبة المشاركة إلى تقليل حظوظ التيار، كما أن قدرته على الربح خارج المناطق ذات الأغلبية الشيعية تكاد تكون معدومة، وحتى في تلك المناطق فإن نفوذه متمركز في أحياء أو محلات بعينها. على أي حال، يبقى التيار يحتفظ بفرصة جيدة للفوز بالمركز الأول من حيث عدد المقاعد، لكنه كما في انتخابات عام 2018 سيكون عليه الدخول في تسويات وصفقات مع القوى الأخرى، إن كان يريد تأليف الحكومة أو المشاركة فيها.

ثالثًا: سيناريوهات المشهد السياسي

يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للمشهد السياسي وتوازن القوى الشيعية وموقع التيار الصدري فيها بعد الانتخابات:

  • الأول: سيناريو إخفاق الانتخابات؛ وقد يأتي هذا السيناريو مباشرة بعد الانتخابات، أو بعد بدء المفاوضات لتأليف حكومة جديدة. في الحالة الأولى، تواجه العملية الانتخابية طعنًا كبيرًا في شرعيتها، قد يأخذ شكل الاشتباه بتزوير واسع، أو طعون كبرى بالعملية الانتخابية من جماعات نافذة، أو أحداث عنف خلال الانتخابات أو بعدها، تؤثر في سلامة عملية حساب الأصوات وإقرار النتائج النهائية، كما يظل محتملًا أن يلجأ أحد الأطراف المسلحة إلى التهديد بالعنف أو استخدامه في حالة قناعته بأن نتائج الانتخابات ستضرّ به. وفي الحالة الثانية، تُفضي الانتخابات إلى برلمانٍ متشظٍّ جدًا، وصعود عدد كبير من المستقلين أو القوى الصغيرة، بحيث تصبح عملية المساومة لتأليف حكومة جديدة معقدةً جدًا، ويستعصي عليها إنتاج اتفاق جديد، وفي هذه الحالة ستكون هنالك أزمة دستورية، خصوصًا مع عدم وجود برلمان منعقد. قد يكون هذا السيناريو أضعف احتمالًا من السيناريوين الآخرين، لكنه إن حصل، فسيُعمّق أزمة الشرعية التي يواجهها النظام الحالي، ويُعزّز عجز الآليات السياسية السلمية عن الحفاظ على الاستقرار الهش والتوازن القائم، وقد يفتح الباب، من ثم، أمام استخدام آليات بديلة، من بينها العنف الذي قد يؤدي إلى اقتتال واسع أو محدود، وفي هذه الحالة، فإن موقف التيار الصدري سيكون حاسمًا بوصفه إما قوة ردع للأطراف الأخرى، وإما قوة منخرطة في العنف ولديها ميليشيات كبيرة.
  • الثاني: سيناريو حكومة الأغلبية؛ في مثل هذه الحالة - التي لم تحدث من قبل - قد يجد التيار الصدري نفسه إما مضطرًا إلى تشكيل تحالف أغلبية وإقصاء بعض الأطراف، وإما الذهاب إلى المعارضة. وستعتمد نتائج هذا السيناريو على شكل الأغلبية، فإن ذهب الصدر فعليًا – كما تذهب بعض التوقعات - إلى التحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، ومع تحالف "تقدم" بقيادة محمد الحلبوسي، إضافة إلى قوة أو اثنتين شيعيتين أصغر، سيكون الطرف المُقصى حينها الأحزاب والفصائل المقرّبة من إيران، ما يُرجّح محاولة تلك الفصائل مواجهة الإقصاء، عبر استخدام العنف أو التهديد به أو حتى محاولة الانقلاب، وقد يسرّع ذلك المواجهة المباشرة بينها وبين أي حكومة تتمخض عن مثل هذا التحالف، وستُحدّد نتائج تلك المواجهة توازنات القوى القائمة حينها. أما إذا جرى إقصاء التيار الصدري من تحالف تُشكّله تلك الأحزاب والفصائل مع قوى سُنّية وكردية، فيحتمل أن يلجأ الصدريون إلى التحشيد في الشارع وتبنّي شعارات "التغيير" والإصلاح، والدفع إلى تسريع موجة احتجاجية جديدة.
  • الثالث: سيناريو حكومة التوافق/ المحاصصة؛ في مثل هذا السيناريو تذهب القوى الشيعية الرئيسة إلى إحياء "التحالف الشيعي" تجنّبًا للصدام، واللجوء مجددًا إلى حكومة توافقية تفرز رئيسَ وزراء "محايدًا"، للمحافظة على التوازن السياسي - العسكري القائم، على الرغم من هشاشته، ومن ثم تأجيل احتمالات المواجهة المسلحة. وسيعتمد مثل هذا السيناريو على عوامل مثل شخصية رئيس الوزراء ووزن كل طرف في المعادلة، لكنه سينتج في النهاية حكومة مكبّلة بمصالح مراكز القوى المتعددة، من دون مشروع إصلاحي متماسك وفي مواجهة خطوط حمراء يضعها كل مركز من تلك المراكز، ما يعني على الأرجح استمرار الوضع القلق والعجز عن المُضيّ في إصلاحات هيكلية فعالة، وربما اندلاع موجة احتجاج جديدة مستقبلًا. وبالنسبة إلى التيار الصدري، يحتمل أن يكون مثل هذا السيناريو خطوة أخرى في مسار تراجعه واستنفاد رأسماله الاجتماعي.