العنوان هنا
تقييم حالة 27 يناير ، 2011

الثورة الشعبية في تونس: مدى قابلية النموذج للتعميم

الكلمات المفتاحية

عبد العلي حامي الدين

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، "جامعة عبد المالك السعدي - كلية الحقوق – طنجة". أصدر العديد من الكتب، منها: "الدستور المغربي ورهان موازين القوى- الملكية. الأحزاب. الإسلاميون" من إصدارات "دفاتر وجهة نظر-مطبعة دار النجاح الجديدة". وله تحت الطبع "الإسلام والدولة في تاريخ المغرب" و"إرهاصات الدولة الدستورية الحديثة". حائز على جائزة "علال الفاسي الفكرية"، حول بحث تحت عنوان "إرهاصات بناء الدولة الدستورية الحديثة". قدم بعض الدراسات عن "الطبقة الوسطى في المغرب"، و"الخطاب السياسي عند الحركات الإسلامية في المغرب: قضية الشورى والديمقراطية نموذجا"، و الإسلام والديموقراطية: قراءة في أطروحات إسلامية معاصرة"، و"الأصل الدستوري وإشكالية الانتقال الديمقراطي". عضو المكتب التنفيذي "للجمعية المغربية للعلوم السياسية".

تحاول هذه الورقة أن تجيب عن سؤال يطرحه العديد من المتابعين، وهو كيف حصلت الثورة التونسية، وما هي الأسباب التي عجلت برحيل رمز النظام إلى الخارج، وهل هناك قابلية لتعميم النموذج التونسي، في دول المنطقة التي استعصت على الإصلاح الديمقراطي السلمي (إسقاط على الحالة المغربية)؟

هذه الورقة ترى أن الأسباب العميقة تكمن في خنق المجال السياسي من خلال ضرب الحق في التنظيم السياسي وكبت الحريات، الأمر الذي أدى إلى تحطيم البنى الوسيطة بين الدولة والمجتمع. كما كان للتراجعات في المجال الاجتماعي والاقتصادي وللفساد المالي والاقتصادي بعد تداعيات الأزمة المالية العالمية أثر في ذلك أيضاً.

وهناك عوامل عدة مساعدة منها مستوى التعليم المتوافر داخل المجتمع، وكذلك وجود طبقة وسطى ودور الجيش الذي التزم الحياد ولم يتدخل لقمع الاحتجاجات، من دون إغفال الدور الحاسم الذي ساهمت فيه تكنولوجيا الاتصال بواسطة الأنترنيت عبر مواقع النقاش الاجتماعي،و تقنيات نقل الصورة عبر الفضائيات العربية التي كان لبعضها دور مهم في ترشيد الاحتجاجات الشعبية وتسييسها.

من الآن فصاعدا سيصبح لكلمة الإرادة الشعبية مدلولٌ خاص في المعجم السياسي المتداول، وسيصبح لكلمة الشعب مفعولٌ قويٌ مشحونٌ بالدلالات العميقة التي ترمز إلى القدرة على صناعة التغيير وتجاوز جميع الأطروحات الانهزامية التي تلبس لبوس الواقعية في مواجهة أنظمة استبدادية جاثمة على صدور الشعوب العربية التواقة إلى الحرية والكرامة والديمقراطية.

أربعة أسابيع من الاحتجاجات المتواصلة كانت كافية لإسقاط نظام سياسي فاسد بأيدي حركة احتجاجية اجتماعية أطلق شرارتها الشاب محمد البوعزيزي الذي أقدم على إحراق نفسه احتجاجا على القهر والظلم.

لقد رفعت حركة الاحتجاج الشعبيٌأقأ شعارا واحدا هو: "التغيير"، وأصرت عليه، وتقدمت بسرعة كبيرة فاجأت الطبقة السياسية وفاجأت الرأي العام العربي والعالمي، كما فاجأت الأنظمة الغربية الموالية لنظام زين العابدين بن علي في قرطاج، فضلا عن الأنظمة العربية التي لم يستوعب بعضها، حتى الآن، ما حصل، ولم تنطلق عقدة لسانه بعد للاعتراف بما حصل، والتعبير عن احترام إرادة الشعب كما هي حال الدول المغاربية وبالتحديد دولة المغرب، بل إن الرئيس الليبي معمر القذافي عبر عن أسفه لرحيل بن علي متسائلا: ماذا كان سيحصل لو انتظر الشعب التونسي ثلاث سنوات أخرى!!.

بلا شك سيكون أهم حدث شهدته المنطقة العربية في الخمسين سنة الماضية هو سقوط النظام الدكتاتوري الذي جثم على رأس الشعب التونسي 23 سنة. لكن هناك إجماعاً من المراقبين والفاعلين معاً على أن الشعب التونسي هو صاحب المبادرة في ما حصل، وهو صاحب القول الفصل في اللحظات الحرجة التي دامت شهرا كاملا من الاحتجاج، وهو الذي دفع بن علي إلى الفرار من البلاد، ولم تدخل الطبقة السياسية على الخط إلا في نهاية المشهد استعدادا لترتيب المرحلة المقبلة التي يظللها الخوف من سرقة إنجاز الشعب. لكن كيف انهار النظام السياسي في تونس بهذه السرعة؟ وما هي الأسباب العميقة التي أدت إلى هذا الانهيار السريع؟ وهل يمكن أن تنتقل شرارة الاحتجاج إلى دول عربية أخرى؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن تعميم النموذج التونسي؟

لقد تبنى نظام بن علي أسلوبا في الحكم قائما على قتل السياسة لقاء التبشير بالتنمية الاقتصادية ورفع المستوى المعيشي للمواطن، أي تبني معادلة التنمية من دون ديمقراطية. وبالفعل "نجحت" تونس في تحقيق معدلات من التنمية تفوق النسب الموجودة في الدول المماثلة، بفضل تدفق الاستثمارات الأجنبية والسياحة الخارجية المندرجة في إطار تصور غربي قائم على دعم النموذج التونسي الذي عمل على تسويق صورة النظام الذي تمكن من مواجهة مطالب الحركة الأصولية بالنجاح الاقتصادي.

إن نقطة ضعف هذا النموذج هو غياب مؤسسات تحوز الشرعية المطلوبة لمراقبة مسالك المال العام الذي يصرف في برامج التنمية، وهو ما مثل أهم مدخل للفساد المالي، ولاستخدام أسلوب المافيات المنظمة لتجميع الثروة من طريق "الجاه المفيد للمال" ـ إذا استعرنا العبارة الخلدونية ـ في غياب آليات المراقبة والمحاسبة المؤسساتية. كما كشف هذا الغياب عن ضعف فظيع في امتلاك الآليات الاقتصادية القادرة على امتصاص تداعيات الأزمة المالية العالمية.

لقد كشفت الصحافية "كاترين كراسييه"، و الكاتب "نيكولا بييو" في كتابهما "حاكمة قرطاج" الذي صدر في فرنسا في سنة 2010 مقدار الفساد الذي ترتكبه حاشية الرئيس، وخاصة عائلة الماطري، والطرابلسي،(عائلة الزوجة الثانية للرئيس). فقد أطلق الرئيس بن علي لزوجته العنان لاغتصاب شركات من أصحابها، والاستحواذ على مشاريع استثمارية ناجحة، وتنصيب شخصيات من العائلة في مناصب حساسة وتوظيفها في استغلال النفوذ، وخاصة في السنوات الأخيرة، مع تسجيل تراجع حضور شخصية الرئيس بن علي بسبب مرضه وكبر سنه، وهو ما سبق أن كشف عنه موقع ويكيليكس حين أورد برقيات من السفير الأميركي تشير إلى تراجع حضور الرئيس بن علي في متابعة شؤون الدولة لمصلحة زوجته وأفراد عائلتها الذين استغلوا مواقعهم لنهب ثروات البلاد وخيراتها. كما أفادت الوثائق بأن إصلاح الأوضاع في تونس رهين برحيل بن علي، لكن المشكلة تكمن في غياب بديل جاهز.

وهكذا فإن من أبرز الأسباب البنيوية التي ساهمت في تأجيج روح الثورة لدى الشعب التونسي، تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتمثلة في ارتفاع مستويات البطالة، وخاصة في أوساط حاملي الشهادات التي بلغت أكثر من 22 %، وتزايد التفاوت الاجتماعي بين المناطق والجهات، وتركيز الثروة في أيدي فئة محظوظة من الموالين لعائلة الرئيس.

أثرت هذه الفوارق بقوة في المواطن التونسي الذي يحظى بمستوى من التعليم يمكنه من امتلاك أدوات التحليل الكافية لإدراك الأسباب الكامنة وراء تراجع وضعيته الاجتماعية والاقتصادية، خصوصا مع وجود طبقة وسطى من المثقفين والمحامين ورجال التعليم والعمال المنظمين في منظمات نقابية وحقوقية، وفي مجتمع لا يتجاوز عدد سكانه 11 مليون مواطن. وقد أدى تجميع السلطة والثروة في يد واحدة وإغلاق جميع منافذ التعبير وأطر التنظيم السياسي إلى ارتكاب النظام الحاكم انتهاكات جسيمة في حق الشعب التونسي، وخاصة في صفوف المعارضين السياسيين ومنهم مناضلو حزب النهضة الإسلامي.

وعلى الرغم من حجم التنديد الذي سجلته منظمات حقوق الإنسان في العالم، فإن نظام بن علي ظل يحظى بدعم الأنظمة الغربية المسكونة بهاجس "الإسلاموفوبيا". وقد أسهم تراكم مسلسل الانتهاكات وكبت الحريات ومنع الشعب من حقه في التنظيم السياسي في إضعاف جميع المؤسسات الوسيطة التي يمكن أن تنقل مطالب المجتمع إلى مؤسسات الدولة، فكان من الضروري أن يولِّد الضغط نوعا من الانفجار الذي لم يكن أحد يتوقع توقيته وطريقته، ولا سيما في ظل نظام بوليسي يحصي على المواطنين أنفاسهم. إنه "الظلم المؤذن بخراب العمران" بالتعبير الخلدوني مرة أخرى.

إن هذه الأسباب البنيوية رافقتها عوامل مساعدة كان لها شأن في تنمية الوعي بضرورة التغيير، أبرزها تكنولوجيا الاتصالات والأنترنيت وشبكات النقاش الاجتماعي التي ساهمت في تغذية الضمير الجمعي بمشاهد مؤثرة وصور وخطابات، وفرت فضاء للتنسيق وتبادل المعلومات، وساهمت بعض القنوات الفضائية في تعريف العالم بما يقع في تونس من تطورات سريعة، بل أسهمت في تعريف المواطن التونسي بما يقع في المدن والقرى التونسية الأخرى من احتجاجات، ووفرت، بطريقة تلقائية، فضاء للتعرف إلى مواقف القوى السياسية والفاعلين في الخارج والداخل، وأسهمت بعد رحيل الرئيس في ترشيد حركة الشارع عبر النداءات الداعية إلى تنظيم لجان شعبية لحماية المدن من المجموعات المسلحة التي يشتبه في انتمائها إلى الحزب الحاكم السابق وأجهزته الأمنية.

وكان للجيش شأن مؤكد أيضاً في مجريات الأمور من خلال التزام موقف الحياد من الاحتجاجات، وربما يكون وراء التعجيل في مغادرة الرئيس البلاد. لكن هناك صعوبة في فهم الموقف الذي التزمه الجيش التونسي من الثورة الشعبية، ويحتاج الأمر إلى بعض الوقت لاختبار فرضيتين أساسيتين في سبيل فهم الأبعاد والخلفيات بشكل دقيق: هل يتعلق الأمر بموقف وطني وشعبي لجيش يمثل امتدادا لمرحلة التحرر الوطني، وملتزم الوظائف المحددة له دستوريا والمتمثلة في حماية الحدود والسهر على أمن المواطن التونسي؟ أم يتعلق الأمر بموقف مرحلي يروم استجلاب موقف شعبي متعاطف، قبل أن ينقض على السلطة بحجة الانفلات الأمني وإخفاق الطبقة السياسية في الوصول إلى توافقات سياسية لملء الفراغ السياسي الحاصل؟

من جهة أخرى يحتاج الموقف الغربي إلى وقفة سريعة وخاصة الموقف الفرنسي والموقف الأميركي. ففرنسا التي وفرت الغطاء "الشرعي" لانتهاكات النظام السابق، وأغدقت عليه الدعم في لحظات اشتداد ضغط المنظمات الدولية غير الحكومية، تأخرت كثيرا في التعبير عن موقف واضح ضد استخدام الأجهزة الأمنية القوة المفرطة ضد المواطنين المتحجين، ولم تعبر عن موقف واضح إلا بعد سقوط الجنرال ورحيله نحو المجهول في البداية، بعدما عبرت باريس عن رفضها استقبال الرئيس المخلوع أو أفراد عائلته فوق أراضيها.

 ثم بعد ذلك دعت إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في أقرب وقت. هذه المواقف جاءت بعد الإحراج الذي مثله استمرار الشعب التونسي في الاحتجاج، ومن خلال التوظيف الذي أطلقته المعارضة المتمثلة في الحزب الاشتراكي الفرنسي. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد عبرت بلسان الرئيس باراك أوباما عن احترامها إرادة الشعب التونسي وإعجابها بشجاعة التونسيين وكرامتهم، ودعت إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة.

لكن هل يمكن أن نتوقع إمكانات معينة لتعميم النموذج التونسي في التغيير؟ في الواقع هناك كثير من التشابه بين النظام التونسي والعديد من الأنظمة العربية، أكان ذلك في طرائق انتهاك الحقوق السياسية للمواطنين، وقمع الحريات، وخنق المجال السياسي، أو الاستيلاء على الثروة بطرق غير مشروعة مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع.

إذا تأملنا الحالة المغربية مثلا فإن حجم الاختلالات التي عرفتها البلاد تشير إلى سعي البعض لإعادة إنتاج النموذج التونسي في المغرب. فالمتابع للمواقع العليا في الدولة يلاحظ أن أصدقاء الملك احتلوا مواقع مؤثرة منذ بداية العهد الجديد، و قام الملك بتقريب أصدقائه ووضعهم في المراكز الحساسة للدولة (الأمن، الاقتصاد، الإعلام). والتفسير الذي كان يبرر هذا التوجه في البداية هو أن مركز الحكم حديث العهد بالسلطة وأنه يحتاج إلى من يثق فيهم لمساعدته على تدبير شؤون الدولة.

والسلطة لها منطقها الخاص، فحينما تسند إلى جهة ما سلطات واسعة تشعر هذه الجهة أن السلطة العليا في البلاد تدعمها من دون أن تكون خاضعة للمحاسبة والمراقبة. وهذا الأمر يساهم في توليد أوضاع جديدة تجعل الطموح يتجاوز الأهداف. وبالتدريج يجد الشعب نفسه أمام طبقة سياسية جديدة تحتل مواقع عليا في هرم السلطة، وتملك ثروات كبيرة. و منطق السلطة يفرض عليها البحث عن جميع السبل للحفاظ على الوضع القائم وتحصينه في مواجهة التهديدات التي يمكن أن تذهب بمصالحها وامتيازاتها المادية والمعنوية.

ولذلك فإن الدور المتنامي الذي بات يلعبه بعض أصدقاء الملك يمثل، من هذه الناحية، تهديدا حقيقيا للمجال السياسي وللمجال الاقتصادي. وقد تحدثت بعض وثائق ويكيليكس عن الدور الحاسم الذي تقوم به شخصيتان مقربتان من الملك في قبول المشاريع الاستثمارية الناجحة، علاوة على الدور الذي بات يلعبه صديق الملك السيد فؤاد عالي الهمة الذي أسس حزبا سياسيا تدعمه الدولة، وقد استطاع عالي الهمة خلال ستة أشهر أن يتصدر المشهد السياسي في البرلمان وفي البلديات المحلية.

إن النظام الملكي في المغرب يتمتع بمشروعية كبيرة لدى المواطنين، كما أن للبلاد حكومة وبرلماناً (مع محدودية أدوارهما)، وأحزاباً سياسية (على الرغم من انحسار تأثيرها)، وصحافة حرة (مع محاولات إسكات صوتها)، ولديها انتخابات دورية (مع ما يشوبها من نزوع نحو الضبط والتحكم). ولكن يمكن القول اننا نعيش في ظل نظام سلطوي يحرص على استمرار المؤسسات من الناحية الشكلية، وإجراء الانتخابات وضمان التعددية، لكنه حريص أكثر على تقييد دورها بالشكل الذي يجعلها مؤسسات فارغة من محتواها الديمقراطي، ولا تملك صلاحيات حقيقية.

أما من الناحية الاقتصادية، فالمغرب لم يصل بعد إلى النظام الديمقراطي الذي تكون فيه المسافة واضحة بين السلطة والثروة. وقديما أفتى بعض الفقهاء بعدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة. طبعا إن من شأن هذه الوضعية، على المدى البعيد، أن تتحول إلى عبء على مركز النظام السياسي، وتضعه أمام تحديات خطيرة مثل تعريضه للمحاسبة في الوقت الذي يشعر فيه جميع المواطنين بأن باقي المؤسسات لا تتمتع بصلاحيات حقيقية. ولذلك فإن استمرار النظام السياسي في المغرب بشكل مريح يفرض عليه أن يتحرر من أعباء السلطة لمصلحة مؤسسات خاضعة للمحاسبة والمساءلة وللعقاب أيضاً.

إن المؤسسة الملكية تعرِّض نفسها للمساءلة لأنها اختارت أن تكون ذات طبيعة رئاسية، وهذا ما لا ينسجم مع النموذج الديمقراطي الذي يطمح إليه المغاربة. ذلك أن عزوف الأغلبية الساحقة عن المشاركة السياسية لا يمكن تفسيره بالسلبية السياسية وحدها، بل باعتبار هذا العزوف شكلاً من أشكال المساءلة والعقاب.

في غياب مستوى من النضج الديمقراطي، وفي ظل أرقام عالية من الأمية (نحو 40 في المئة)، لا أحد يمكن أن يتكهن بصورة هذه المساءلة. يمكن أن تكون في صورة عزوف انتخابي، أو في صورة توترات اجتماعية أو في تبلور مجموعات تؤمن بالعنف. وفي ظل النظام الدستوري الحالي لا يمكن أن ننتظر أدوارا متقدمة للبرلمان المغربي أو للحكومة وحتى للأحزاب السياسية.

وإذا أضفنا إلى ذلك النزعة السلطوية فإن من الطبيعي أن تبدو المؤسسات التمثيلية فارغة من محتواها الحقيقي، خصوصا مع إصرار الدولة على الاستمرار في صناعة بعض التجمعات السياسية الموالية لها، ومدها بأسباب الحياة وطرق الدعم المختلفة، وهي ظواهر سياسية هجينة تمثل إفرازا لطبيعة النظام السلطوي في المغرب، الذي يحتاج في كل مرحلة سياسية جديدة إلى تكتلات من هذا النوع للقيام بأدوار تستجيب لاحتياجات الموجودين في أعلى قمة هرم الدولة، وتتيح للنظام الاحتكاك المباشر بالملفات حفاظا على هيبة المؤسسة الملكية. ويبدو هذا واضحاً في خطابات البعض ممن يؤكد دوماً أن هدفه هو خدمة مشروع الملك. لكن طبيعة الإخراج المعتمد في صيغة الحزب الجديد يحمل أضرارا بالغة الخطر على مستقبل التنمية والديمقراطية في المغرب.

إن كسب رهان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن تحقيقه من دون طرح القضايا الكبرى للإصلاح السياسي للنقاش العام، في سياق تحقيق توافق بين جميع الفاعلين السياسيين، وعلى أساس إصلاح سياسي ودستوري يضمن التحول التدريجي إلى نظام الملكية الدستورية البرلمانية، والذي تحتل فيه الحكومة ورئيس الوزراء موقع السلطة التنفيذية الفعلية، بينما يحتفظ الملك بموقعه كرمز لوحدة البلاد وكضامن للحريات و كمرجع للحكم، فضلاً عن تمتعه بالصلاحيات الضرورية في بعض الملفات ذات الطبيعة الحساسة كالجيش والأمن والإشراف على الشأن الديني والروحي، بما يضمن التوازن السياسي ويحقق التعايش المطلوب بين المؤسسات.

في الأنظمة الملكية الديمقراطية، من المفروض أن الملك ليس له برنامج، وإنما يسهر على ضمان استمرار عمل المؤسسات التي بدورها تسهر على تطبيق البرنامج الذي حظي برضا الناخبين في انتخابات تنافسية غير مطعون في نزاهتها. وإلا فإن الملك يعرض نفسه للمراقبة والمحاسبة. وفي المغرب لا يتصور أحد إمكان مراقبة الأداء الملكي.

إن الدولة في صيغتها الحالية تقترب أكثر فأكثر من معادلة التنمية من دون ديمقراطية. وهي معادلة خطرة لا تنسجم إلا مع الأنظمة الشمولية التي، على الرغم من النتائج السريعة التي حققتها في المجال الاقتصادي،فشلت في نهاية المطاف في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.