العنوان هنا
مقالات 01 نوفمبر ، 2011

قراءة جديدة لتقرير بيكر-هاملتون

عماد علو

باحث وكاتب عراقي، ومدير المركز الجمهوريّ للدّراسات الأمنيّة والإستراتيجيّة

تحاول هذه الورقة مقاربة توصيات لجنة بيكر- هاملتون، انطلاقًا من المسار الذي طوتْه هذه التّوصيات باعتبارها خارطة طريق أميركيّة للخروج من المستنقع العراقيّ، مع مسارات الواقع العراقيّ منذ صدور هذه التّوصيات في  العام 2006، والاتّجاهات المحتملة للحالة العراقيّة عشيّة الانسحاب الأميركيّ المزعوم نهاية العام 2011، مبرزةً مبرّرات صدور هذه التّوصيات ودوافعها وعلاقتها بإعداد البيئة الدّاخليّة العراقيّة والإقليميّة لخروج القوّات الأميركيّة من العراق،  وذلك بعد الخسائر الفادحة التي مُنيت بها القوّات الأميركيّة المحتلّة للعراق منذ العام 2003.


مدخل

نتيجة للخسائر التي أصابت القوّات الأميركيّة المحتلّة للعراق منذ العام 2003، وفشل الإدارة الأميركيّة في السّيطرة على الوضع المتفاقم هناك، تصاعدت الدّعوات الرّسميّة والشّعبيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة لتقييم الوضع في العراق وتلمّس أفضل السّبل وأنجعها للخلاص ممّا سُمّي بـ"المستنقع العراقيّ". وقد سعى عددٌ من النّوّاب والسّاسة الأميركان لتشكيل لجنة مستقلّة لتقييم الوضع في العراق، وتقديم المقترحات بشأن مستقبل الوجود الأميركيّ فيه. وقد توّجت هذه المساعي في صيف العام 2005 بالدّعوة إلى تشكيل لجنة تمثّل الحزبين الجمهوريّ والدّيمقراطيّ، وقد حظي هذا المقترح بتأييدٍ واسع النّطاق من أعضاء الكونغرس بمجلسيه-النّوّاب والشّيوخ- المنتمين إلى الحزبين. وفي 15 آذار/مارس 2006 أُعلن عن تشكيل هذه اللّجنة التي أُطلق عليها اسم مجموعة دراسة العراق، في اجتماع عُقد في مبنى الكونغرس. وقد تشكّلت بتوجيهٍ من مجموعةٍ مكوّنة من أعضاء الكونغرس المنتمين إلى الحزبيْن الرّئيسين، الجمهوريّ والدّيمقراطيّ.

وقد حظيت مجموعة دراسة العراق بترحيبٍ ودعمٍ من إدارة بوش التي كانت تتشكّل في أغلبها من المحافظين الجدد الدّاعمين لمشروع الهيمنة الأميركيّة على العالم، ومشروع الشّرق الأوسط الكبير، والمشروع الصّهيونيّ في المنطقة العربيّة؛ وتجلّى هذا الدّعم والتّرحيب  في اجتماع الرّئيس بوش بأعضاء مجموعة دراسة العراق بتاريخ 14 حزيران/يونيو 2006، ومرّة أخرى يوم 13 تشرين الثّاني/نوفمبر 2006. علاوةً على إتاحة الفرص لها للالتقاء بأشخاص، والاطّلاع على مستندات سرّية خاصّة باحتلال العراق وإدارته، وتسهيل السّفر إلى العراق وتأمينه لعددٍ غير قليل من أعضاء اللّجنة.

وممّا لاشكّ فيه أنّ أهمّية هذه الورقة تنطلق من الأهمّية الاعتباريّة والمعنويّة للدّور الذي اضطلعت به مجموعة دراسة العراق، والمتأتّي من طبيعة مستوى تأليف اللّجنة والشّخصيّات والعناوين التي استشارتْها لإنجاز عملها، والمساحة الجيوبوليتيكيّة التي شملتها مهمّة ودراسة المجموعة، وما ترتّب على ذلك من نتائجَ تمخّضت عنها أعمال اللّجنة وأنشطتها، والتي أُعلن منها فقط التّوصيات الـ(79) التي صدرت عن المجموعة والتي سُمّيت بتوصيات لجنة بيكر- هاملتون، والتي لم تقتصر على الوضع العراقيّ، بل اهتمّت بكلّ ما له علاقة وتأثير متبادل من الأوضاع والقضايا الإقليميّة والدّوليّة بالوضع العراقيّ النّاجم عن الاحتلال الأميركيّ للعراق في العام 2003، والمسارات التي ترتّبت على هذا الاحتلال على الواقعين العراقيّ والإقليميّ واتّجاهاتها المستقبليّة المحتملة.


لماذا شكّلت مجموعة دراسة العراق؟

كانت الغاية من تشكيل مجموعة دراسة العراق القيام بما يلي:

أوّلا: إعادة تقييم الموقف الرّاهن والمحتمل أن تؤول إليه الأوضاع في العراق.

ثانيا: تقديم النّصح والمشورة للحكومة الأميركيّة بشأن السّياسة المتّبعة في العراق.


تشكيل مجموعة دراسة العراق

تشكّلت مجموعة دراسة العراق من عدد من كبار السّياسيّين الأميركان المنتمين إلى الحزبين الجمهوريّ والدّيمقراطيّ، ممّن كان لهم باعٌ طويل وخبرةٌ واسعة بشؤون منطقة الشّرق الأوسط، وقد أُسندت رئاسة المجموعة بالموافقة التّامّة لمنظّمي المجموعة بالكونغرس، ومعهد السّلام بالولايات المتّحدة والمنظّمات الأخرى الدّاعمة لها، إلى شخصيّتين كبيرتين لهما خبرةٌ ودراية واسعة بشؤون منطقة الشّرق الأوسط والعراق بالذّات، وهاتان الشّخصيّتان هما وزير الخارجيّة الأميركيّة الأسبق جيمس بيكر(جمهوري)، والرّئيس السّابق للجنة العلاقات الدّوليّة التّابعة لمجلس النّوّاب لي هاملتون(ديمقراطي). وبعد تعيينهما رئيسيْن مشاركين لمجموعة دراسة العراق، اختار بيكر وهاملتون بقيّة أعضاء المجموعة بالتّشاور مع معهد السّلام والمنظّمات الدّاعمة الأخرى وكان من أبرزهم:

  • لورنس إيغلبرغر، وزير الخارجيّة الأميركيّة الأسبق.
  • فيرنون جوردان جونيور، كبير مديري شركة لازارد وفريرز .
  • إدوين ميس، وزير العدل الأميركيّ الأسبق.
  • ساندرا داي أوكونور، القاضية السّابقة في المحكمة العليا.
  • ليون بانيتا، الرّئيس السّابق لهيئة موظّفي البيت الأبيض(وزير الدّفاع الأميركيّ الحاليّ).
  • وليام بيري، وزير الدّفاع الأميركيّ الأسبق.
  • تشارلز روب، العضو السّابق في مجلس الشّيوخ الأميركيّ.
  • آلان سيمسون، العضو السّابق في مجلس الشّيوخ الأميركيّ.


أسلوب عمل مجموعة دراسة العراق

 ساعدت لجنة الاعتمادات التّابعة لمجلس النّوّاب الأميركيّ مجموعة دراسة العراق على إنجاز أعمالها، بتمويل نشاطاتها ومتطلّباتها اللّوجستيّة، من خلال معهد السّلام الأميركيّ، الذي كان بمنزلة الوكالة أو الهيئة المسؤولة عن تسهيل عمل مجموعة دراسة العراق بدعمٍ من مركز دراسات الرّئاسة، ومركز الدّراسات الإستراتيجيّة والدّوليّة، ومعهد جيمس بيكر للسّياسة العامّة بجامعة رايس.

 وقد دعم عمل اللّجنة وقدّم لها المشورة في إنجاز أعمالها، مجموعة كبيرة من اللّجان ومجموعات العمل  المتخصّصة في شؤون العراق والمنطقة العربيّة،  ضمّت العديد من الخبراء  في مجالات الاقتصاد وإعادة الإعمار والجيش والأمن والتّطوّرات السّياسيّة والمجال الإستراتيجيّ. وضمّت هذه اللّجان خبراء أكاديميّين من الجامعات ومن الحكومة والقطاع الخاصّ. وقدّمت هذه اللّجان ومجموعات العمل31 تقريرًا ودراسة سياسيّة وتحليليّة مختلفة، لكي تطّلع عليها مجموعة دراسة العراق. وفي كلّ تلك الدّراسات والتّقارير، شارك 44 خبيرًا لتقديم مشورتهم الطّوعيّة والمجّانيّة لمجموعة دراسة العراق.

التقى أعضاء لجنة دراسة العراق مع 171شخصًا خلال تسعة أشهر. علاوةً على ذلك التقت المجموعة مئات من الخبراء الآخرين أو استشارتْهم. كما التقت الشّخصيّات الرّئيسة في مجموعة دراسة العراق مع العديد من كبار الشّخصيّات والمسؤولين في الحكومتين العراقيّة والأميركيّة في واشنطن والعراق ومناطقَ أخرى، كان من بينهم الرّئيس بوش ورئيس الوزراء العراقيّ نوري المالكي، فضلاً عن ضبّاط جيش ومسؤولين في الحكومتين العراقيّة والأميركيّة و من دول أخرى، كما أجرت لجانُ مجموعة دراسة العراق، مقابلاتٍ واستشاراتٍ مع عدد كبير من المسؤولين الأميركيّين السّابقين والحاليّين، وبعض الوزراء والسّفراء العرب والأجانب فضلًا عن عددٍ كبير من الخبراء والصّحافيّين والباحثين؛ وكان مِن أبرز مَن استشارتهم مجموعة دراسة العراق رئيس الوزراء الإيطاليّ السّابق رومانو برودي، ووزير الخارجيّة السّوريّ وليد المعلّم، ونائب وزير الدّفاع الإسرائيليّ افرايم سنيه، والمندوب الإيرانيّ لدى الأمم المتّحدة جواد ظريفي، والرّئيس الأميركيّ السّابق بيل كلينتون، والنّائب السّابق للرّئيس الأميركيّ والتر مونديل، ووزيرة الخارجيّة الأميركيّة السّابقة مادلين أولبرايت، ووزير الخارجيّة الأميركيّة السّابق هنري كيسنجر، ومستشار الأمن القوميّ السّابق زبيغنيو برجنسكي، وصحفيّون وباحثون أمثال توماس فريدمان ومارتن انديك وغيرهما من الشّخصيات.

وقد تركّزت لقاءات لجان مجموعة دراسة العراق واستشاراتها ودراساتها وتحليلاتها على أربعة محاور أساسيّة من وجهة نظر المجموعة ولجانها، وهذه المحاور هي:

1. الأحوال الإستراتيجيّة في العراق والمنطقة.

2. الأمن في العراق والتّحدّيات الأساسيّة لتعزيزه.

3. التّطوّرات السّياسيّة في العراق في أعقاب انتخابات 2005، وتشكيل الحكومة العراقيّة الجديدة.

4. الاقتصاد وإعادة الإعمار.


مراجعة موجزة لتوصيات لجنة بيكر- هاملتون

إنّ التّوصيات المعلنة الـ(79) للجنة بيكر- هاملتون، والتي مثّلت مجموعة دراسة العراق، لم تعكس في مجملها المحاور الأربعة أعلاه،  التي كان من المفترض أن تتناولها بحسب الدّراسات والتّقارير والتّحليلات التي أجرتها مجموعة دراسة العراق.

حيث اهتمّت معظم توصيات بيكر- هاملتون الـ(79 ) بالأنشطة الدّيبلوماسيّة للإدارة الأميركيّة المتعلّقة بالعراق على الصّعيدين الدّوليّ والإقليميّ، مركّزةً على العلاقات مع كلٍّ من سوريا وإيران، وأساليب التّعاطي والتّعامل مع قضايا المنطقة، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة اللّبنانيّة المتمثّلة في حزب الله. حيث حدّدت لجنة بيكر- هاملتون أهداف هذا التّحرّك الدّيبلوماسيّ الأميركيّ المطلوب بما يلي:

  • دعم وحدة العراق وسلامة أراضيه، ووقْف تدخّلات جيران العراق وأعمال زعزعة استقراره، وتأمين الحدود، بما في ذلك تسيير دوريّات مشتركة مع دول الجوار، ومنْع امتداد النّزاعات، وتعزيز المساعدات الاقتصاديّة والتّجاريّة والدّعم السّياسيّ والمساعدات العسكريّة. وهذا لم يحدث إلى حدّ الآن، بل إنّ الذي حدث هو العكس تمامًا؛ فقد زادت عمليّات التّدخّل من جانب جيران العراق، بالقصف المدفعيّ والصّاروخيّ والجوّيّ في شمال العراق، والتّجاوز على المياه الإقليميّة وعمليّات إغلاق المقتربات المائيّة(الممرّات الملاحيّة إلى الموانئ) في شطّ العرب وخور عبدالله، بالإضافة إلى تهريب الأسلحة والمتفجّرات والمخدّرات والانتحاريّين إلى العراق بغية زعزعة استقراره.
  • تحفيز الدّول على دعم المصالحة الوطنيّة في العراق، وتفعيل الشّرعيّة العراقيّة عبر استئناف العلاقات الدّيبلوماسيّة، متى كان ذلك مناسبا، وإعادة فتح السّفارات في بغداد، ومساعدة العراق في تأسيس سفارات نشطة في العواصم الرّئيسة في المنطقة. وقد شهد هذا المحور نوعًا من التّقدّم الملحوظ، وأُعيد فتح عدد من سفارات الدّول الأجنبيّة والعربيّة في بغداد، إلّا أنّ التّوتّر ظلّ السّمة السّائدة في علاقة النّظام العراقيّ الحاليّ مع معظم الدّول العربيّة.
  • لم تنجح الحملة الدّيبلوماسيّة الأميركيّة، في دعم مساعي الحكومة العراقيّة لعقد مؤتمر أو اجتماع في بغداد لمنظّمة المؤتمر الإسلاميّ أو الجامعة العربيّة، لاستعادة حضورها الدّيبلوماسيّ في العراق. حيث فشل النّظام العراقيّ في تنظيم عقْد مؤتمر القمّة العربيّة، الذي كان من المزمع عقدُه في بغداد مطلع عام 2011.
  • لم تأخذ الولايات المتّحدة على محمل الجدّ توصيات لجنة بيكر- هاملتون لجهة إنشاء «المجموعة الدّوليّة لدعم العراق»، التي يجب أن تشمل العراق وكلّ دول جواره، بما فيها إيران وسوريا، إضافة إلى الدّول الرّئيسة في المنطقة، ومنها مصر ودول الخليج، والأعضاء الخمسة الدّائمون في مجلس الأمن والاتّحاد الأوروبيّ. ويمكن أن تنضمّ دول أخرى مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبيّة، التي كان من المؤمّل أن تطوّر المجموعة نهجا محدّدًا للتّعاطي مع دول الجوار، يأخذ بعين الاعتبار مصالح هذه الدّول واتّجاهاتها ومساهماتها المحتملة.
  • وبحسب توصيات اللّجنة فقد شرعت الولايات المتّحدة في إجراء مباحثات مباشرة مع إيران وسوريا في محاولة للحصول على التزام منهما بسياسات بنّاءة تجاه العراق والقضايا الإقليميّة الأخرى. من أجل البحث في إمكان تكرار التّعاون الإيرانيّ- الأميركيّ في أفغانستان، لتطبيقه على الحالة العراقيّة، الأمر الذي أتاح لإيران فرصةً تاريخيّة في تعزيز نفوذها في العراق والمنطقة بالإضافة إلى تصعيد مستويات تدخّلها في الشّأن الدّاخليّ العراقيّ لدرجة التّأثير المباشر في اتّجاهات سير ما يسمّى العمليّة السّياسيّة في العراق. على الرّغم من أنّ تقرير بيكر- هاملتون يقرّ بأنّ إيران كانت ولاتزال ترى أنّ من مصلحتها أن تغوص الولايات المتّحدة في مستنقع العراق.

 
كما تناولت توصيات لجنة  بيكر- هاملتون الأوضاع الدّاخليّة العراقيّة، ودور الحكومة العراقيّة المأمول في تحديد اتّجاهات تطوّر المشهد السّياسيّ الدّاخليّ في العراق ومساراته. ومساعدته على التّوصّل إلى اتّفاق مقبول في شأن مدينة كركوك، ومساعدة الحكومة العراقيّة على وضع بنية صلبة في الجوانب الأمنيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، بما في ذلك تحسين أدائها في قضايا، مثل المصالحة الوطنيّة والتّوزيع العادل لعائدات النّفط وتفكيك الميليشيّات.

كما أوصت لجنة بيكر- هاملتون بخفض الدّعم السّياسيّ أو العسكريّ أو الاقتصاديّ  للعراق، في حال لم تحقّق الحكومة العراقيّة تقدّمًا ملموسًا على طريق المصالحة الوطنيّة، والأمن، وتحسين الخدمات التي تمسّ حياة العراقيّين اليوميّة. وينبغي أن توضع جداول زمنيّة لتنفيذ هذه الأهداف. إلّا أنّ اللّجنة لم توضّح ماهيّة المعايير التي على الحكومة الأميركيّة اعتمادها، لقياس التزام الحكومة العراقيّة في أدائها باتّجاه المصالحة الوطنيّة، والأمن، وتحسين الخدمات.


الوجود العسكريّ الأميركيّ في العراق

لم تحدّد لجنة بيكر- هاملتون مسارًا واضحا للانسحاب العسكريّ الأميركيّ من العراق، بل جعلت هذه المسألة أكثر ضبابيّة، والدّليل على ذلك أنّها أوصت بـ:

  • زيادة عدد العسكريّين الأميركيّين المنضوين في الوحدات العسكريّة العراقيّة من ثلاثة أو أربعة آلاف إلى ما بين عشرة آلاف وعشرين ألفا.
  • للقوّات الأميركيّة الباقية في العراق مهمّة مساعدة الفرق العسكريّة العراقيّة، بالاستخبارات والمواصلات والدّعمين الجوّيّ واللّوجستيّ وتوفير بعض المعدّات.
  • سيكون على الجيش الأميركيّ الحفاظ على فرق تدخّل سريع وأخرى خاصّة لتنفيذ عمليّات عسكريّة ضدّ تنظيم «القاعدة» في العراق عندما تسنح الفرصة.
  • وحتّى بعد أن تسحب الولايات المتّحدة كلّ فرقها القتاليّة خارج العراق، سنبقي على وجود عسكريّ مهمّ في المنطقة، مع قوّتنا المهمّة في العراق، وانتشارنا الجوّيّ والبرّيّ والبحريّ في الكويت والبحرين وقطر، ووجودٍ أكبر في أفغانستان.
  • على الولايات المتّحدة أن توضّح للحكومة العراقيّة أنّه بإمكانها تنفيذ خططها، ومن بينها عمليّات إعادة انتشارٍ مخطّط لها، حتّى لو لم ينفّذ العراق تغييراته المخطّط لها أيضًا.
  • لا يمكن أن تبقى الحاجات الأمنيّة الأخرى للولايات المتّحدة ومستقبل جيشها رهينة أفعال الحكومة العراقيّة أو عجزها.


تأهيل الجيش العراقيّ

أوصت لجنة بيكر- هاملتون الإدارة الأميركيّة  بالسّعي إلى استكمال عمليّة تدريب الجيش العراقيّ وتسليحه بحلول الرّبع الأوّل من عام 2008، كما أفاد الجنرال جورج كايسي في 24 تشرين الأوّل/أكتوبر عام 2006. إلّا أنّ الإدارة الأميركيّة لم تأخذ توصيات اللّجنة على محمل الجدّ بشأن تسليح الجيش العراقيّ وقوّات الأمن العراقيّة وتجهيزهما وإعدادهما وتدريبهما، على الرّغم من ربط اللّجنة لقدرة العراق على ممارسة مهمّات الدّفاع والحكم، مع تصاعد إمكانيّة خفض الوجود العسكريّ والمدنيّ الأميركيّ في العراق.

كما أنّ الإدارة الأميركيّة لم تلتزم بتوصيات اللّجنة، بشأن الإعلان عن عدم السّعي لإقامة قواعد عسكريّة أميركيّة في العراق، بل على العكس، حيث ضغطت إدارة أوباما من أجل الإبقاء على وجودٍ عسكريّ أميركيّ، وربط وفد أرسله الكونغرس الأميركيّ إلى بغداد بين استمرار بقاء القوّات الأميركيّة في العراق بعد العام 2011، وطلب تعويضات ماليّة عن جهود القوّات الأميركيّة في "تحرير العراق". خلال زيارة إلى العاصمة العراقيّة، بغداد، حيث طالب رئيس الوفد النّائب الجمهوريّ عن ولاية كاليفورنيا وعضو الكونغرس الأميركيّ دانا روهراباكر مضيفيه العراقيّين، بدفع التّكاليف التي تكبّدتها بلاده، الولايات المتّحدة، خلال غزوها للعراق في 2003 والسّنوات الثّماني التي تلتها. قبل أن يؤكّد أنّ عامل التّكلفة سيكون مؤثّرا جدّا في تحديد إبقاء بعض القوّات الأميركيّة في العراق من عدمه، بعد الموعد النّهائيّ لسحب القوّات من هناك، في 31 كانون الأوّل/ديسمبر من العام 2011.


تأهيل قوّات الأمن العراقيّة

أوصت لجنة بيكر- هاملتون بإخضاع وزارة الدّاخليّة العراقيّة إلى عمليّة تحويل تنظيميّة، تتضمّن جهودا لتوسيع قدرات الوحدة الرّئيسة لمكافحة الجريمة، وفرض مزيد من السّيطرة على قوّات الشّرطة المحلّية، ومنح جهاز الشّرطة العراقيّة مسؤوليّات أكبر لإجراء تحقيقات جنائيّة، فيما عليها تعزيز تعاونها مع عناصرَ أخرى في الجهاز القضائيّ العراقيّ، لتحسين السّيطرة على الجريمة، وحماية المدنيّين العراقيّين .

 وقد أوصت لجنة بيكر- هاملتون بأن تتمّ عمليّة التّحويل والتّطوير المشار إليها في وزارة الدّاخليّة  العراقيّة  بقيادةٍ وإشرافٍ مباشرين من وزارة العدل الأميركيّة، إلّا أنّ اللّجنة لم توضّح الكيفيّة أو الأسلوب الذي ستتمّ به عمليّة التّحويل والتّطوير التّنظيميّة المشار إليها في التّوصيات. أمّا على الصّعيد الاستخباريّ فقد أوصت لجنة بيكر- هاملتون بتخصيص موارد تحليليّة أكبر لمهمّة فهم التّهديدات ومصادر العنف في العراق. وأوصت كذلك بضرورة إجراء تغييرات عاجلة على عمليّة جمع المعطيات عن العنف ومصادره في العراق، لتوفير صورة أكثر دقّة عن الأحداث على الأرض. وطالبت اللّجنة وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي آي آي) بتوفير جنود أكثر في العراق، لتطوير وكالة استخبارات فاعلة وتدريبها، وبناء مركز لمكافحة الإرهاب، يمكنه تسهيل جهود مكافحة الإرهاب.

إلّا أنّ الإدارة الأميركيّة وقيادة قوّات الاحتلال الأميركيّة في العراق، لم تأخذ كلّ تلك التّوصيات على محمل الجدّ، وبقي القادة العراقيّون يشْكون من ضعف منظومات الاستخبارات ووكالات جمع المعلومات عن مصادر التّهديد والعنف في العراق، وقد تسبّب هذا القصور في خسائرَ لا مبرّرَ لها بين المدنيّين وقوّات الأمن العراقيّة، طيلة الفترة المنصرمة، التي تلت صدور توصيات لجنة بيكر- هاملتون.


الاقتصاد وإعادة الإعمار

على الرّغم من الدّمار الهائل الذي ألحقه الغزو والاحتلال الأميركيّ بالبنية التّحتيّة العراقيّة، بالإضافة إلى أعمال السّلب والنّهب والتّدمير التي لحقت بالمؤسّسات الثّقافيّة والتّعليميّة والمتاحف والمواقع الأثريّة العراقيّة، بتواطؤٍ واضح من قبل قوّات الاحتلال الأميركيّ، إلّا أنّ محور الاقتصاد وإعادة الإعمار لم يأخذ حيّزًا جدّيا في التّوصيات الـ(79)، التي تمخّضت عنها لجنة بيكر- هاملتون،  حيث اقتصرت على توصيةٍ خجولة بتشجيع الاستثمار في القطاع النّفطيّ العراقيّ عبر المجتمع الدّوليّ وشركات الطّاقة الدّوليّة، في إشارة إلى الاتّجاه لإلغاء قرارات تأميم القطاع النّفطيّ، التي صدرت في مطلع السّبعينيّات.  ولم توضّح لجنة بيكر- هاملتون أساليب واتّجاهات صرف المساعدات الأميركيّة التي أوصت بها، والبالغة خمسة ملايير دولار سنويّا. إذ لم تتطرّق فيما إذا كانت هذه المساعدات اقتصاديّة، أم ستذهب لأغراض أمنيّة وعسكريّة. وقد أكّدت التّوصيات على تجديد سلطة المفتّش العامّ لإعادة إعمار العراق خلال فترة برامج المساعدة في العراق، كجهة رقابيّة يمكن من خلالها تحديد الهدر في التّصرّف في هذه المساعدات، نتيجة الفساد الإداريّ والماليّ الذي انتشر واستشرى في إدارة الاحتلال الأميركيّ في العراق،  ومفاصل عديدة من الأجهزة الحكوميّة العراقيّة بعد العام 2003 وإلى حدّ الآن.

لقد اقتصر الجانب الاقتصاديّ في توصيات لجنة بيكر- هاملتون على ثلاث توصيات فقط من مجموع (79 ) توصية. ويبدو أنّ السّيّد جيمس بيكر لم ينس وعده للعراقيّين بإعادتهم إلى عصر ما قبل الثّورة الصّناعيّة، الذي أطلقه في العام 1990 في محادثاته مع نظيره وزير الخارجيّة العراقيّ آنذاك، طارق عزيز، في محادثات اللّحظة الأخيرة إبّان الاجتياح العراقيّ للكويت في العام 1990. وعلى أيّ حال، فإنّ الاقتصاد العراقيّ لم يشهد أيّ دعم أميركيّ أو دوليّ جادّ منذ صدور توصيات بيكر- هاملتون وإلى حّد الآن، حيث تحوّل العراق إلى سوقٍ استهلاكيّة لمنتجات دول الجوار والمنتجات ذات الجودة المنخفضة لدول أخرى والتي حقّقت أرباحًا طائلة على حساب المواطن العراقيّ.


تحليل نهائيّ

من المهمّ التّذكير بأنّ مجموعة دراسة العراق انطلقت في مهمّتها في ظروف غاية في الصّعوبة والحساسيّة، شهدت احتقانا طائفيًّا واسع النّطاق، رافقته أعمال عنف ومذابح واغتيالات وتفجيرات عمّت مدن العراق كافّةً، وتسبّبت في خسائرَ فادحة في الأشخاص والمنشآت والمباني الحكوميّة، تسبّبت في تمزيق النّسيج الاجتماعيّ العراقيّ. وفي ذات الوقت، شكّلت الأوضاع التي شهدها العراق بعد الاحتلال الأميركيّ في 2003 حافزا لإثارة موجةٍ من الكره للولايات المتّحدة الأميركيّة على الصّعيدين الإقليميّ والدّوليّ. وقد انعكس هذا في معظم توصيات لجنة بيكر- هاملتون الـ(79)، التي ركّزت على ما أسمته بـ"الهجمة الدّبلوماسيّة" للإدارة الأميركيّة المتعلّقة بالعراق على الصّعيدين الدّوليّ والإقليميّ، مركّزة على العلاقات مع كلٍّ من سوريا وإيران وأساليب التّعاطي والتّعامل مع بقيّة قضايا المنطقة، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة اللّبنانيّة المتمثّلة في حزب الله.

لقد سوغّت توصيات بيكر- هاملتون التّدخّل الإيرانيّ في العراق، وأضفت عليه نوعًا من الشّرعيّة، بدعوتها لإجراء مباحثاتٍ أميركيّة إيرانيّة بشأن العراق، الأمر الذي أتاح لإيران فرصة تاريخيّة في تعزيز نفوذها في العراق والمنطقة، بالإضافة إلى تصعيد مستويات تدخّلها في الشّأن الدّاخليّ العراقيّ لدرجة التّأثير المباشر في اتّجاهات سيْر ما يسمّى العمليّة السّياسيّة في العراق. على الرّغم من أنّ تقرير بيكر- هاملتون يقرّ بأنّ إيران كانت ولاتزال ترى أنّ من مصلحتها أن تغوص الولايات المتّحدة في مستنقع العراق. وهذا التّناقض في الموقف إزاء إيران بيْن ما هو معلَن وبين خارطة الطّريق، التي أوصت بها لجنة بيكر-  هاملتون في التّعاطي مع النّفوذ والدّور الإيرانيّ في العراق، برّر للإدارة الأميركيّة عدم الالتزام  بتوصيات مجموعة دراسة العراق بشأن الحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه، ووقف تدخّلات جيران العراق وأعمال زعزعة استقراره، وتأمين الحدود؛ بل إنّ الذي حدث هو العكس تماما، فقد زادت عمليّات تدخّل جيران العراق بالقصف المدفعيّ والصّاروخيّ والجوّيّ في شمال العراق، والتّجاوز على المياه الإقليميّة،  وعمليّات إغلاق المقتربات المائيّة في شطّ العرب وخور عبدالله، والتّجاوز على الحقول النّفطيّة العراقيّة في الشّرق والجنوب، بالإضافة إلى تهريب الأسلحة والمتفجّرات والمخدّرات والانتحاريّين إلى العراق بغية زعزعة الأمن والاستقرار فيه. 

وعلى الرّغم من إدراك مجموعة دراسة العراق للعزلة الدّيبلوماسيّة التي تعانيها الحكومة العراقيّة، التي تمخّضت عنها العمليّة السّياسيّة الجارية في العراق بإشرافٍ أميركيّ، إلّا أنّها لم تحثّ الإدارة الأميركيّة بما يكفي لإخراج العراق من عزلته الدّيبلوماسيّة، التي لايزال يعاني منها، والدّليل على ذلك  فشل مساعي النّظام العراقيّ الحاليّ في تنظيم عقد مؤتمر القمّة العربيّة الذي كان من المزمع عقده في بغداد مطلع عام 2011.

أمّا على صعيد الوضع الدّاخليّ، فإنّ الإدارة الأميركيّة لا تبدو جادّة في تحسين الأوضاع الدّاخليّة بحسب ما أوصت به لجنة بيكر هاملتون، خصوصًا على  طريق المصالحة الوطنيّة، والأمن، وتحسين الخدمات التي تمسّ حياة العراقيّين اليوميّة، حيث لم توضع أيّ جداول زمنيّة لتنفيذ هذه الأهداف. ولم تحدّد المعايير التي على الحكومة الأميركيّة اعتمادها لقياس التزام الحكومة العراقيّة في أدائها باتّجاه المصالحة الوطنيّة، والأمن، وتحسين الخدمات. وعلى الرّغم من النّجاح الظّاهريّ في إجراء الانتخابات التّشريعيّة في العام 2010، إلّا أنّ الشّكوك في نتائجها لم تختلف عن تلك الشّكوك التي رافقت انتخابات 2005، وبقيت مشاكل المصالحة الوطنيّة، والأمن، وتحسين الخدمات على حالها.

ويجدر أنْ نذكر أنّ مجموعة دراسة العراق في قراءتها للوضع العراقيّ وعلاقته بالأوضاع الإقليميّة والدّوليّة قد مهّدت البيئة الإقليميّة والدّوليّة لخروجٍ عسكريّ أميركيّ من العراق، والذي حُدّد موعده في الرّبع الأوّل من العام 2008، إلّا أنّه قد أُجّل إلى نهاية العام 2011، بدعوى استمرار تدهور الأوضاع الأمنيّة في العراق، وعدم جاهزيّة وتأهيل الجيش العراقيّ وقوّات الأمن العراقيّة لملء الفراغ الأمنيّ، الذي قد ينجم في أعقاب انسحابٍ عسكريّ أميركيّ. ثمّ عادت إدارة أوباما للضّغط على الحكومة العراقيّة، من أجل الإبقاء على وجود عسكريّ أميركيّ، وربط موافقة بغداد على القبول باستمرار بقاء القوّات الأميركيّة في العراق بعد العام 2011، وطلب تعويضاتٍ ماليّة عن التّكاليف التي تكبّدتها الولايات المتّحدة خلال غزوها للعراق في 2003 والسّنوات الثّماني التي تلتها. الأمر الذي يشير إلى أنّ هناك حاجة أميركيّة إلى دراسةٍ جديدة أو تقدير موقف جديد للواقع العراقيّ والإقليميّ، خصوصًا بعد العام 2011 ومستجدّات ربيع الثّورات العربيّة الذي اجتاح المنطقة.

وممّا يجدر ذكره، أنّ الإدارة الأميركيّة لم تأخذ على محمل الجدّ توصيات مجموعة دراسة العراق، بشأن إخضاع وزارة الدّاخليّة العراقيّة لعمليّة تحويل تنظيميّة تتضمّن منح جهاز الشّرطة العراقيّة مسؤوليّات أكبر لإجراء تحقيقات جنائيّة، وتعزيز الجهاز القضائيّ العراقيّ وتطويره، لتحسين السّيطرة على الجريمة، وحماية المدنيّين العراقيّين. وقد استمرّ القادة العراقيّون يشْكون من ضعف منظومات الاستخبارات ووكالات جمع المعلومات عن مصادر التّهديد والعنف في العراق، على الرّغم من  توصيات لجنة بيكر- هاملتون بتطويرها وتعزيزها بمختلف الوسائل والتّجهيزات.

ومن الملاحظ أنّ محور الاقتصاد وإعادة الإعمار لم يأخذ حيّزا جديّا في التّوصيات الـ(79)، التي تمخّضت عنها لجنة بيكر- هاملتون،  حيث اقتصرت على توصيةٍ خجولة بتشجيع الاستثمار في القطاع النّفطيّ العراقيّ عبر المجتمع الدّوليّ وشركات الطّاقة الدّوليّة، في إشارة إلى رغبةٍ أميركيّة وغربيّة في الهيمنة والسّيطرة على  القطاع النّفطيّ العراقيّ، والذي شكّل واحدا من أهمّ الأهداف الإستراتيجيّة للغزو الأميركيّ للعراق في العام 2003. 

خلاصة القول إنّ توصيات لجنة بيكر- هاملتون تُعدّ وثيقة تاريخيّة مهمّة ومفصليّة في تاريخ الاحتلال الأميركيّ للعراق، من حيث كونها محاولة أميركيّة جادّة لتلافي الأخطاء والإخفاقات والخسائر الفادحة، التي استدعت تشكيل مجموعة دراسة العراق وتكليفها برسم خارطة طريق للتّعاطي مع مسارات الواقع العراقيّ والإقليميّ، وصولا لتلمّس الاتّجاهات المستقبليّة المحتملة في التّعاطي مع تطوّرات هذا الواقع ومستجدّاته من وجهة نظر أميركيّة شملت الحزبين الدّيمقراطيّ والجمهوريّ، وطيفا واسعًا من السّياسيّين والأكاديميّين والباحثين والصّحفيّين والخبراء والعسكريّين والدّيبلوماسيّين والاقتصاديّين الأميركان، وغيرهم من المعنيّين بالشّأن العراقيّ ومنطقة الشّرق الأوسط.