العنوان هنا
دراسات 28 نوفمبر ، 2018

المصالحة الوطنية في الجزائر: التجربة والمكاسب

الطاهر سعود

أستاذ في قسم علم الاجتماع، باحث في مخبر المجتمع الجزائري المعاصر، جامعة محمد لمين دباغين - سطيف 2، الجزائر.

تتناول هذه الدراسة مشروع المصالحة الوطنية في الجزائر، بالتركيز على حيثيات التجربة ومكاسبها، ولا سيَّما بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على صدوره، وذلك من خلال رصد مفهوم المصالحة الوطنية، وأهدافها، والإطار التاريخي للأزمة الجزائرية. وتحاول الدراسة نقد المشروع من أجل تأسيس أفق جديد للتصالح، وتبحث في السياق المعرفي والتاريخي للمصالحة الوطنية الجزائرية، ومن ثم تناقش، كرونولوجيًّا، الطريق الطويلة إلى المصالحة الوطنية وتحقيق الوئام المدني. وتنتقل الدراسة إلى رحلة المصالحة الجزائرية، بالتركيز على تقديم قراءة وافية لمشروع الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية، وتُختَم بجملة من الانتقادات، بهدف إيجاد أفق جديد للتصالح، والوقوف على بعض ثغرات هذه التجربة العربية في المصالحة، وعلى ما يمكن أن تنفتح عليه من مكاسب لو أريد لها التطوير.

مقدمة

أخلى الحديث عن موضوعات الحوار والتعارف بين الحضارات - والحوار بين الأديان والمذاهب الدينية، والتسامح الديني، وهو الحديث الذي ميَّز نهاية العقد الأخير من القرن الماضي - مكانه لحديث آخر حول موضوع جديد اكتسح الساحة الفكرية والأكاديمية والإعلامية. إنه موضوع التطرف والإرهاب الذي قفز من حيّز ضيِّق كان يشمل بعض جبهات العنف في مناطق مخصوصة من العالم، ليحتل المشهد الدولي، ويشكِّل محور النقاش السياسي والفكري والأكاديمي العالمي برمّته، خصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وما توالى بعدها.

خلال تلك الفترة، أي منذ بداية التسعينيات، كانت الجزائر، دولة ومجتمعًا، تُصارع وحدها التطرف الإرهابي من دون أي سند دولي أو إقليمي، ومن دون تضامن عربي و/ أو إسلامي. ولم تفلح دعوات النظام السياسي الجزائري إلى التعاون الدولي لدرء خطر الإرهاب وتجفيف منابعه وتدمير قواعده الخلفية واللوجستية، ولم تلق أي صدى في تلك الفترة، اعتقادًا من المجتمع الدولي وفواعله الإستراتيجيين أن الحالة الإرهابية الناشئة في الجزائر هي حالة مخصوصة مرتبطة بشروطها المباشرة (الانقلاب العسكري وإلغاء المسار الانتخابي). بيد أن هذا الموقف الدولي قُدِّر له أن يعيش "لحظة حقيقة" وانعطافة كلّية، حينما أصبح المتروبول الغربي نفسه هدفًا مباشرًا للظاهرة الإرهابية؛ إذ تعرَّض مبنى مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاغون الأميركيان لعمليات إرهابية مبرمجة وغير مسبوقة، جعلت أقوياء العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، يغيِّرون موقفهم، ويعلنون "حربهم العالمية على الإرهاب" تحت اسم "التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب".

منذ تلك اللحظة دخلت الإنسانية مرحلة تاريخية جديدة وحاسمة، مرحلة تعكس المدى الخطر الذي وصلت إليه الظاهرة الإرهابية، من قدرتها على اختراق الحدود والأقاليم، إلى توسّلها بالمنتجات التكنولوجية للحداثة الغربية، وتوظيفها وسائطها وأدواتها المتعددة، العسكرية و"الميديائية" الجديدة.

في هذا الوقت، كانت الجزائر، بعد مضي أكثر من عقد على دخولها أتون المنازلة ضد الإرهاب والعنف المتطرف، قد طوَّرت تجربتها الخاصة في مكافحة الإرهاب والتطرف، وتَشكَّل لديها مخزون إستراتيجي من الخبرة في مجال التعامل معه، سواء على الصعيد الأمني والعسكري، عبر ما خبرته قوات الدفاع الذاتي والجيش والأسلاك الأمنية المختلفة الأخرى، أم على الصعيد الاجتماعي والثقافي، عبر ما طوَّرته من ميكانيزم الوئام المدني والمصالحة الوطنية.

لما بدأت الجزائر تبرأ من مرض الإرهاب والتطرف، كانت وتائر العنف والإرهاب قد بدأت تتصاعد، "كمًّا ونوعًا، وتكاد تمتد على رقعة جغرافية واسعة، من المغرب حتى إندونيسيا، لتصل إلى مناطق ودول وحضارات؛ بحيث تتحول إلى مصدر خطر كبير على حياة الناس واستقرارهم، وعلى العالم، وعلى السلام فيه". خطر ما عاد أحد بمنأى عنه، أو بمنجى من آثاره، خصوصًا أن الظاهرة ما عادت أفعالًا فردية معزولة، لكنها اكتست طابع التنظيمات العابرة الحدود والقوميات، ووصلت في طبعتها الداعشية إلى قضم الوحدة الترابية لبعض الدول، لتؤسس على أنقاضها كيانها، وتفرض فيه رؤيتها للعالم.

ما عادت هذه الجماعات والتنظيمات أصوليات هاربة من العالم، بل تحوّلت إلى أصوليات راغبة في العالم، يصدر المنضوون تحتها عن اقتناعات تؤسس على ضرورة مناجزة النُّظُم "الجاهلية" القائمة، والعمل على تغييرها بأساليب العمل العنفية والراديكالية.

أمام امتداد الظاهرة الإرهابية على طول العالم العربي والإسلامي - حيث أصبحت لا تُعرَّف إلا بوصفها ممارسة لصيقة بالفضاء الثقافي الإسلامي - وأمام وضع يتهدد المجتمعات العربية وأنظمتها السياسية، ويقضي على استقرارها نتيجة ما خبرته بعد موجة ثورات الربيع العربي التي أدخلت بلدانًا بأكملها في فوضى أمنية واقتتال داخلي وتحطيم لمكتسبات الدولة الوطنية؛ يبرز تساؤلان: ما الذي يمكن أن تقدمه التجربة الجزائرية في مجال منازلة التطرف والإرهاب، وتجاوزه عبر تدبير المصالحة الوطنية، على صعيد الحالات المشابهة في العالم العربي والإسلامي؟ وما الذي يمكن أن تستفيده القوى الدولية من الخبرة الجزائرية على صعيد التعامل مع الظاهرة الإرهابية في أبعادها الأمنية والعسكرية والإستراتيجية؟

ليس من شأن هذه الدراسة التركيز على التساؤل الثاني، فهذا موضوع دراسة أخرى مستقلة، لكنها تتخذ من التدبير القانوني والاجتماعي - الثقافي الذي باشرته الجزائر تحت اسم "المصالحة الوطنية" مجالًا للبحث والدرس والتقويم، للوقوف على جوانب القوة في التجربة التي تحتاج اليوم إلى التعميم أو الاستلهام على الصعيد العربي، من دون أن يمنعنا ذلك من رؤيتها بعين النقد؛ أي بالوقوف على بعض جوانب القصور في التجربة التي تحتاج إلى التطوير.


* هذه الدراسة منشورة في العدد 34 (أيلول/ سبتمبر 2018) من دورية "سياسات عربية" (الصفحات 40-54)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.

** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.