العنوان هنا
مراجعات 10 مارس ، 2019

مفهوم الطائفية في الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة لعزمي بشارة

من إعادة التعريف إلى الابتكار: قراءة في الحقل الدلالي وتحولاته

مهدي مبروك

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، وباحث مختصّ في الشّباب والهجرة. مقيم حاليا في تونس. أستاذ في قسم علم الاجتماع في تونس. مناضل حقوقيّ وعضو المكتب السياسيّ للحزب الديمقراطيّ التقدّميّ. أستاذ زائر في جامعات أجنبيّة، منها: كامبريدج وجامعة العلوم الإنسانيّة في باري (Bari)، وعضو مراصد أورو-متوسطيّة لضحايا الهجرة. نشر باللغة العربيّة والفرنسيّة عدّة مقالات وكتب عن النّخبة، الهجرة، الشّباب والمواطنة.

المؤلف: عزمي بشارة.

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

مكان النشر: بيروت/ الدوحة.

سنة النشر: 2018.

عدد الصفحات: 927 صفحة.

هل يمكن أن نفكر خارج المفاهيم إذا ما تعلق الأمر بالمعرفة العلمية؟ عن هذا السؤال المربك تعددت الإجابات؛ إذ تذهب أطروحات إلى تأكيد أن التفكير العلمي لا يمكن أن يصاغ إلا توسلًا بالمفاهيم، وأن خطى العلم لا تتقدم لتثبت وترسخ إلا استنادًا إليها؛ فهي التي تمنح الفكر علميته وتميزه من أنماط التفكير الأخرى، حتى لا يرتد إلى فكر عادي Pensée ordinaire، بينما تبدي أطروحات أخرى تحفظًا تجاه ما تنعته بـ "استبداد المفاهيم"؛ إذ تتحول المفاهيم أحيانًا إلى ما يشبه قوالب الفولاذ، فتحرم الفكر من حيويته وتدفقه، وقد عبر الفيلسوف فيتجنشتاين Wettgenstein مثلًا عن تبرمه حين اعتبر أن فرط الاعتقاد في اللغة، ومنها المفاهيم، يسجن الفكر ويعزله، حين يحرمه من منابع أخرى، أهمها منبعَا الصورة والتخيل اللذان يضمنان تجدده وتدفقه وحيوته.

ومع أهمية هذا الجدل الذي يتواصل محتدمًا، فإن هناك شبه إجماع عبَّر عنه عالم الاجتماع الفرنسي باسرون حين أقر بهشاشة العلوم التاريخية، الناجمة عن معضلة هشاشة الحقول الدلالية للمفاهيم. يجوز لنا استعادة استعارة قيرتز التي بها يشبِّه اللغة بشبكة العنكبوت، وسحْبُها على المفاهيم أيضًا؛ فكما تنسج العنكبوت من لعابها سجنها، أي بيتها الحيوي، لتتنقل وتتغذى، فإن الفكر ينسج من تخيله المفاهيم التي بها يتجدد داخل تلك الأطر ذاتها.

ضِمن هذا النموذج من التفكير، يندرج عمل عزمي بشارة الوارد في كتابه: الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، الصادر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد بنى عزمي بشارة هذا الكتاب على عماد منهجي مركزي، أساسه أن الكتابة العلمية تقتضي التزام صرامة المفاهيم، ولكن من دون أن يكف المؤلف عن إثراء التفكير في مفهوم الطائفية بمصادر تُجدِّد النظر فيه، من خلال المنافذ التي فتحها المؤلف على اللغة والتاريخ والأدب وغيرها. لذلك، آثرنا أن نتناول منزلة المفاهيم في هذا العمل، مختارين لأسباب علمية وأخرى بيداغوجية التركيز على مفهوم الطائفية الذي منحه المؤلف شرف العنوان تقريبًا.

يعي المؤلف جيدًا أن التفكير في الطائفية لا يتم إلا عبر المفاهيم الدقيقة والصارمة، ولكنه يدرك أيضًا أنها مفاهيم منفتحة على حيوية منابع التفكر فيها: تاريخ الطائفية، وخطابها، وممارساتها، وجملة تطوراتها المثيرة عبر مقارنات عديدة لسياقات الطائفية وتجاربها المختلفة داخل العالم العربي وخارجه.

يحرص بشارة في مسعاه هذا على تحقيق هدفين أساسيين: أولهما تجاوز ندرة الكتابات العربية حول موضوع الطائفية، وهي ندرة تقابلها في مفارقة غريبة وفرة خطاب طائفي يحضر مكثفًا فيما تجري به اللغة المتداولة سياسيًّا وإعلاميًّا؛ فالعالم العربي يُعَدّ من بين الفضاءات الأكثر إنتاجًا للثقافة الطائفية؛ وذلك بقطع النظر عن كيفيات إنتاجها والمحافظة على استثمارها وإحيائها، أو حتى التلاعب بها وتوظيفها. أما الهدف الثاني فهو المساهمة في التنظير للطائفة والطائفية، وقد بدا بشارة منذ الصفحة الأولى معلنًا بالكثير من الثقة والجرأة عن عزمه الشديد على المساهمة الفكرية المتقدمة في صياغة نظرية ما حول الطائفية.

يقرّ بشارة في هذا الصدد بأن كتابه هذا هو من بين الكتب القليلة التي حاولت التنظير للطائفية، "ربما كان أكثر المحاولات قربًا من التنظير في الموضوع كتابَي برهان غليون المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ونظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة. غير أن اهتمام بشارة بالمفاهيم لم يكن أمرًا طارئًا تجلى في هذا الكتاب، ولكنه كان سمة لازمت جل أعماله مبكرًا. ولعلنا نذكر من بين المؤلّفات التي حضر فيها الاشتغال بالمفاهيم غرضًا أساسيًّا في الكتابة عنده: طروحات عن النهضة العربية المعاقة، والمجتمع المدني: دراسة نقدية، والدين والعلمانية في سياق تاريخي.


* هذه المراجعة منشورة في العدد 27 (شتاء 2019) من مجلة "عمران" (الصفحات 205-224)وهي مجلة فصلية محكمة متخصّصة في العلوم الاجتماعيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "عمران"  جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.