مقدمة
تعد تركيا دولةً بحريةً، ليس من منظور جغرافي يتعلق بموقعها على سواحل طويلة فحسب، وإنما أيضًا من منظور تاريخي ممتد ارتبط بسياسات وممارسات بحرية، وبخاصة في القرنين السادس والسابع عشر، أدت إلى الهيمنة على البحار الواقعة عليها، مثل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وإلى وجودٍ فاعلٍ في البحر الأحمر والخليج العربي، فضلًا عن الانخراط بتأمين الطريق البحرية التجارية إلى سواحل الهند.
في عام 2019، وبعد انقطاع طويل امتد أكثر من قرنٍ على انحسارها في البر التركي، أعادت أنقرة رسميًا تنفيذ سياسة بحرية جديدة، عبر توقيع اتفاقيتين بحرية وعسكرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية. فقد حددت الاتفاقية الأولى خطًا على مسافة 18.6 ميلًا بحريًا (35 كيلومترًا) سيشكل الحدود البحرية التي تفصل بين المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين[1]، وتسعى تركيا من خلالها إلى إضفاء الشرعية على عمليات الحفر والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي التي تقوم بها سفنها مثل يافوز (Yavus) والفاتح (Fatih) وعروج رئيس (Oruc Reis)، رغم اعتراض الاتحاد الأوروبي واليونان وقبرص[2]. أما الاتفاقية الثانية فتتعلق بالتعاون العسكري والأمني بين البلدين[3]. وفي حين أتاحت لها الأولى رسم خريطة بحرية جديدة منحتها مساحات واسعة في شرق المتوسط، سيتبعها بالضرورة الدفاع عما تعتبره الآن وطنها البحري وأمنها القومي، فإن الثانية أدت إلى تدخل عسكري واسع في ليبيا، دفاعًا عن مصالحها البحرية والاقتصادية، وعن حلفائها الذين وقعوا معها الاتفاقيتين وجعلوا رسم حدودها البحرية الجديدة ممكنًا.
لم يكن الانقطاع الطويل بين السياستين البحريتين التاريخية والحالية، رغم الفوارق بينهما، إلا لغياب القدرات اللازمة لممارسة تركيا مثل هذه السياسة بمفردها طوال تاريخ الجمهورية، وكذلك غياب رؤية للسياسة البحرية ما وراء حدودها، فضلًا عن غياب الحافز الاقتصادي للسيطرة على مناطق بحرية لم تكن معروفة بغناها الهيدروكربوني الهائل مثلما أصبحت عليه اليوم.
ومع تنامي القدرات الاقتصادية والصناعية والعسكرية التركية، ومع الاكتشافات الكبيرة للنفط والغاز في شرق المتوسط التي رافقها عقد تحالفات إقليمية مثل الشراكة بين إسرائيل واليونان وقبرص ومصر التي أنشأت "منتدى غاز شرق المتوسط"، وتوقيع اتفاقية تحديد الحدود البحرية بين اليونان ومصر[4]، وفي سياق تنافس أنقرة في الشرق الأوسط مع أطراف إقليمية أخرى مثل مصر والإمارات والسعودية، ومع فرنسا وروسيا، بدأت تتبلور سياسة أنقرة البحرية الجديدة المرتبطة قانونيًا باستمرار اتفاقها مع ليبيا، كما نبين لاحقًا.
ونظرًا إلى الأهمية التي توليها أنقرة إلى تلكما الاتفاقيتين، اعتبر نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي (Fuat Aktay) أن مضمونهما يؤسس لمرحلة مختلفة عن السابق، فقد قال: "في شرق البحر الأبيض المتوسط، نحن نمزق الخرائط التي تهدف إلى حشرنا في البر الرئيس. إننا نصنع التاريخ في ليبيا"[5]. كما أشار تشاتاي إرجياس (Cagatay Erciyes)، مدير عام شؤون الحدود البحرية في وزارة الخارجية، إلى أن الاتفاق مع ليبيا: "يرقى إلى مستوى رسالة سياسية مفادها أنه لا يمكن تهميش تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن تحقيق أي شيء في المنطقة دون مشاركة تركيا"[6].
تعتمد الدراسة في مقاربتها لهذا الموضوع على النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، إذ تحولت السياسة التركية في السنوات القليلة الماضية نحو استخدام سياسة القوة، بدلًا من الاقتصار فقط على الدبلوماسية والقوة الناعمة التي سادت في العقد الأول من القرن الحالي. في الواقع، تسعى الدول في سياستها الخارجية إمّا إلى الأمن (security seeking) بالحفاظ على الوضع الراهن، وإمّا إلى السلوك الاستباقي والتدخل (pro-action seeking) بتغيير هذا الوضع اعتمادًا على قوتها. في هذا السياق، يذهب كليفتون مورغان وغلين بالمر إلى أنّ ثمة دولًا، خاصة الضعيفة، تعمل على منع التغيير طالما أن الوضع القائم ينطوي على استمرار تأمين الاستقرار لها، بينما تعمَد دولٌ أخرى، خاصة القوية، إلى تغيير الواقع ليتسق مع مصالحها المتزايدة. ومن العوامل المؤثرة في اختيار السلوك الثاني: قوة الدولة وقدراتها مقارنة بقدرات الدول الأخرى، وطبيعة البيئة الخارجية، والسياسات التي تتبناها الدول الأخرى[7]. وتشدّد المدرسة الواقعية إجمالًا على النزعة الدائمة للصراع بين الدول[8]، وتعتقد بأن سياسة القوة، وتعزيز القدرات، وعقد التحالفات؛ لزيادة قوة الدولة ومكانتها، هي ما يحقق أهدافها ويضمن أمنها ومصالحها القومية؛ لأن الفوضى تدفع الدول إلى القلق بشأن توازن القوى، بينما يجبر هيكل النظام الدولي، والإقليمي، الدول على إيلاء اهتمام دقيق لهذا التوازن[9]. بناءً على ذلك، تُظهر هذه الدراسة التغيرات التي دفعت أنقرة باتجاه تبني مقاربة واقعية في سياستها البحرية الجديدة وفي تدخلها في ليبيا.
وإزاء تطور خطاب السياسة الخارجية التركية وسلوكها الحازم لتحقيق أهدافها، تناقش الدراسة أولًا، السياسة البحرية التركية الجديدة في شرق المتوسط؛ من حيث جذور الرؤية التاريخية والحالية، وابتداع مفهوم الوطن الأزرق، وتوسيع سياستها إلى أعالي البحار وارتكازها على الأمن القومي والطاقة، وأسباب سعيها لعقد اتفاقات بحرية مع مصر وليبيا، والعوامل الاقتصادية والقانونية والجيوسياسية المؤثرة في السياسة البحرية الجديدة، مثل اكتشافات الغاز الكبيرة، وطبيعة الخلافات القانونية، والمشاريع المتنافسة لنقل الغاز إلى أوروبا. ثانيًا، التدخل العسكري في ليبيا، من حيثالأهمية التي يمثلها بالنسبة إلى تركيا، والسياق الليبي والإقليمي الذي دفع أنقرة إلى هذا التدخل، ومواقف القوى الدولية والإقليمية الأساسية المتضررة من هذا التدخل وتداعياته المحتملة عليها، والسياسة التركية إزاءها. ونختم بأهم استنتاجات الدراسة.
[1] Selcan Hacaoglu & Firat Kozok, “Turkish Offshore Gas Deal with Libya Upsets Mediterranean Boundaries,”
World Oil, June 12, 2019, accessed 5/4/2020, at: https://bit.ly/31P67ir
[2] “Turkey’s Ship Yavuz Set to Begin Drilling in Med Sea,” Hurriyet Daily News, 5/10/2019, accessed 5/4/2020, at: https://bit.ly/31COkuH; “Turkey’s Fatih drill ship starts operations off NE Cyprus,” Reuters,15/11/2019, accessed 5/4/2020, at: https://reut.rs/3gj1p05
[3] Tuvan Gumrukcu, “Turkey signs maritime boundaries deal with Libya amid exploration row,” Reuters, 28/11/2019, accessed 10/8/2020, at: https://reut.rs/3fIlwnK; Republic of Turkey, Ministry of Foreign Affairs of the, Official twitter page, accessed on 11/8/2020, at: https://bit.ly/3kBweQy
[4] Hellenic Republic, Ministry of Foreign Affairs, “Statement of the Minister of Foreign Affairs, Nikos Dendias, following the signing of the agreement on the delimitation of EEZ between Greece and Egypt,” 6/8/2020, accessed 10/8/2020, at: https://bit.ly/33Sxbyg
[5] “US coordinating with Turkey in Libya,” Daily Sabah, 24/6/2020, accessed 30/6/2020, at: https://bit.ly/2CXewWl
[6] Hacaoglu & Kozok.
[7] Clifton Morgan & Glenn Palmer, “A two‐good theory of foreign policy: An application to dispute initiation and reciprocation,” International Interactions, vol. 22, no. 3 (1997), pp. 227-228.
[8] Stephen M. Walt, “International Relations: One World, Many Theories,” Foreign Policy, no. 110 (Spring 1998), p. 30.
[9] John J. Mearsheimer, The Tragedy of Great Power Politics (New York: W.W. Norton & Company, 2001), pp. 19-21; John J. Mearsheimer, ‘Back to the Future: Instability in Europe after the Cold War’, International Security, vol. 15, no. 1 (Summer1990), pp. 12-13.