العنوان هنا
مقالات 09 سبتمبر ، 2013

استطلاعات الرأي بين النقاش الرصين والادعاءات المتهافتة

محمد المصري

يعمل الدكتور محمد المصري  مديراً تنفيذياً للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
وهو باحث مشارك والمنسق لمشروع مؤشر الرأي العام العربي في المركز. 


 

تعد استطلاعات الرأي والمسوحات الاجتماعية إحدى الأدوات البحثية الجديدة في المنطقة العربية. ومما لاشك فيه أنّ غياب الديمقراطية في العالم العربي هو أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى عدم تطور هذه الأداة البحثية المهمة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. لقد أدى التأخر في استخدام الاستطلاعات والمسوح في بلادنا إلى غياب تقاليد علمية راسخة تجري من خلالها مناقشة الاستطلاعات ونتائجها. وبناء عليه، فإنه عند نشر نتائج استطلاعات نُفِّذت على الصعيدين الوطني والإقليمي، يكون النقاش والحوار حول هذه الاستطلاعات مهمًا وثريًا. ويتوزع هذا النقاش على صنفين: الأول هو النقاش العلمي الرصين الذي يقوده الباحثون الأكاديميون والمتخصصون والمهتمون، أما الثاني فهو الذي يتصدى له من ليس له دراية أو معرفة بهذه الأداة البحثية، وعادة ما تكون مساهمته في النقاش مساهمة هامشية تعكس الجهل بهذه الأداة وتقنياتها العلمية أو تعكس آراء ورغبات لا تمت بصلة إلى الموضوع ذاته. فيأتي مَن يطرح عليك ملاحظات على شكل أسئلة استنكارية مثل: إنني تحدثت مع كثير من الناس وأعرف أنّ آراءهم تختلف عن النتائج. ولماذا يُنفَّذ هذا الاستطلاع أصلًا؟ ولماذا يجري تنفيذ الاستطلاع في مثل هذا الوقت؟ وما هي الأهداف الحقيقة وراء طرح هذا السؤال أو ذاك؟ وغيرها من الأسئلة.

يدفعني إلى هذا الرد ما قرأته في مقالة جواد عدرة التي نشرتها جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 31/8/2013. وهي مقالة تقع ضمن الصنف الثاني. وأفضل ما يمكن وصفها أنها أقرب إلى تداعيات هوجة غضب تملّكت كاتبها، فامتلأت مقالته بالغمز واللمز وبجمل غير مفهومة، وبعبارات تفتقد إلى أدنى مستويات التركيب أو وحدة الموضوع. ويبدو أن كاتب المقالة ظن أن كثرة الاقتباسات من "ابن خلدون" إلى "ابن الفرات" ثم "نابليون" سوف تجعله يبدو مثقفًا مطلعًا، غير أن الذي نجح في إثباته هو أنّ ثقافته سماعية، لا غير.

 إنّ ما يدعو إلى الرد هنا أنّ الكاتب ينسب إلى المؤشر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ما لم يقله، وكأنّه لم يجد ما ينتقد فيه المؤشر سوى أن يدّعي - زورًا وبهتانًا - بأنه يفاضل بين البلدان العربية. ثم نراه ينتقد ما ألصقه هو بالمؤشر العربي من تهم كي يبرر لنفسه هجومه على عملٍ بحثي راقٍ باعتراف المختصين. ولعل القارئ يحتاج إلى أكثر من قراءة هذه المقالة ليكتشف بأنّ المؤشر يتبع أساسًا علميًا رصينًا في التعامل مع الرأي العام العربي، إذ إنه يرفض أن يطغى الرأي العام في بلد عربي ذي عدد سكاني كبير على رأي عام في بلد عربي آخر ذي عدد سكاني قليل. وبذلك، فإن المؤشر اتبع منهجية علمية محترمة تقوم على أنّ الرأي العام العربي هو مجموع آراء المجتمعات العربية المستطلعة آراؤها، إيمانًا من القائمين عليه بأن يعكس الرأي العام في بلدان عربية صغيرة من ناحية السكان مثل لبنان أو الأردن أو الكويت لتكون على السوية نفسها لبلدان أكبر من حيث عدد السكان مثل السعودية أو المغرب أو مصر؛ إذ يبدو أنّ صاحب المقالة يروج للاستعاضة عن تنفيذ استطلاعات للرأي العام في فلسطين ولبنان والأردن والكويت بإجراء استطلاع رأي في السعودية فقط، بحكم أنّ عدد سكان السعودية يوازي تقريبًا عدد سكان فلسطين ولبنان والأردن والكويت معًا. بطبيعة الحال، لهذا الكاتب الحق في أن يفعل ما يحلو له وأن يجري استطلاعات رأي في السعودية، ويقول إنها تمثل الرأي العام في عدة بلدان عربية. ولكن مثل هذا الأسلوب الذي يفتقد المبررات العلمية ويقترن بنظرة فوقية ويدّعي بأنّ هناك مجتمعات أهم من أخرى، هو أسلوب غير مقبول حسب المعايير البحثية العلمية التي نتبعها في المؤشر العربي.

ويدّعي كاتب المقالة مرة أخرى بأنّ المؤشر العربي قد قرّر عدم تنفيذ استطلاعاته في بعض البلدان العربية مثل البحرين وقطر والإمارات. إننا لم نُقرر عدم تنفيذ استطلاعات في بلدان معينة؛ فكما تشير مقدمة المؤشر، فإنّ إستراتيجيتنا هي تنفيذ المؤشر العربي على عينات ممثّلة في البلدان العربية كافة؛ وذلك بتوافر ثلاثة شروط لا تنازل عنها، أما الأول، فهو توافر إطار إحصائي للسكان والمساكن. ويعلم المختصون أنه من دون توافر هذا الإطار، فإنّ إمكانية سحب عينات عشوائية ممثّلة هو أمر شبه مستحيل، وبخاصة أننا نتبع أسلوب العينة العنقودية الطبقية المتعددة المراحل، والتي تضمن مستوى ثقة يزيد على 97% وهامش خطأ يتراوح بين 1.5- 3%. وبناء عليه، فنحن لسنا على استعداد لتنفيذ استطلاع في أي مكان غير متاح فيه الحصول على مثل هذا الإطار أو لا يتوافر فيه. أما الشرط الثاني، فهو أن يكون هنالك إمكانية لتنفيذ هذا الاستطلاع بما لا يُعرّض حياة الباحثين الميدانيين للخطر أو للملاحقات القانونية نتيجة لتنفيذ هذا الاستطلاع. أما الشرط الثالث، فهو توافر شريك محلي مؤهل لتنفيذ الاستطلاع؛ إذ إننا نعتمد في تنفيذ الاستطلاعات على مؤسسات محلية لديها الخبرات والقدرات على التنفيذ الميداني، ويقوم فريق المؤشر العربي من جهته بتدريب الباحثين الميدانيين، ويشرف على العمل الميداني بالرقابة وضبط الجودة ضمن أرقى المعايير الأكاديمية.

وبهذا الصدد تعود بي الذاكرة إلى يوم 24 حزيران/ يونيو، عندما قمنا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ فرع بيروت بعقد ندوة لتعميم نتائج المؤشر العربي لعام 2013، وقد دار نقاش كان بمجمله على مستوى عالٍ حول مدلولات النتائج ومعانيها وأهمية استطلاعات الرأي التي تنفّذ في المنطقة العربية ليس لأنها تعكس اتجاهات الرأي العام العربي فحسب (على أهمية هذا الأمر)، وإنما أيضًا لأن هذه الاستطلاعات تمثل قاعدة غير مسبوقة للبيانات التي يمكن أن توظف في إعداد أوارق علمية وأكاديمية في العلوم الاجتماعية. وبالفعل، فقد كان النقاش في مستواه وحرصه على المؤشر العربي بوصفه مشروعًا بحثيًا تعود ملكيته إلى جميع الباحثين العرب على اختلاف مؤسساتهم البحثية، يوازي النقاش الذي عبّرت الندوات التي عقدت للغاية نفسها في كل من تونس والقاهرة.

من المثير للسخرية هنا هو أنّ جواد عدرة نفسه تحدث في ندوة بيروت تلك، وناقش المؤشر العربي وطرح بشأنه بعض التساؤلات، وقد ثمّن جهود المركز العربي في إنجاز هذا البحث المهم، وأشاد بضخامة هذا المشروع، والعدد الكبير من البلدان العربية التي شملها. وبُعيد انتهاء أعمال الندوة - وفي لقاء جانبي - قام بتقديم تعريف بالخدمات التسويقية التي تقوم بها شركته، وبأنّ لهم باعًا في تنفيذ استطلاعات الرأي بناء على خبرتهم في الأبحاث التسويقية في لبنان، وأنهم على استعداد للتعاقد لتنفيذ المؤشر العربي لعام 2014.

وختامًا، يبدو من المهم الإشارة إلى أنّ المركز العربي للأبحاث يموّل بأموال قطرية خاصة (غير حكومية). وهذا ليس سرًا، وهو أمر لا نخفيه. كما لا تقوم دولة قطر أو أي من موظفيها بالتدخل في إنجاز مشاريعه البحثية، ومن ضمنها المؤشر العربي في أي مرحلة من مراحله؛ فنحن لا نشعر بالخجل حتى إن جرى تمويل هذا المشروع البحثي الرائد من قبل دولة عربية، ما دام هذا التمويل غير مشروط. إنّ تمويل مراكز الأبحاث والجامعات هو مصدر فخر للدول، وهي تفاخر بإنشاء الجامعات ومراكز الأبحاث. فليس من المعيب أن تموّل المشاريع البحثية والأكاديمية من قبل دول عربية على ألا ترهن تمويلها بشروط، وإلا فمَنْ الذي يفترض أن يمولها؟ إلا إنْ كان كاتب المقالة يرى أنّ تمويل الدولة اللبنانية للجامعة اللبنانية - على سبيل المثال - هو أمر معيب للجامعة اللبنانية وينتقص من قيمتها العلمية.

إنّ أقصى ما يصبو إليه الباحثون الجادون أن يجري تمويل البحث العلمي من دون أي شروط تمس السوية العلمية أو الأكاديمية أو تملي عليهم مواقف سياسية مقابلها، وبخاصة أنّ المؤسسات الأجنبية (وغير الأجنبية) غير معنية بتمويل عمل بحثي جاد مثل المؤشر العربي الذي يضع أجندته البحثية أكاديميون عرب وتعود فائدته على المواطنين والباحثين العرب من دون شروط. كما أنّ نشر نتائج البحث وتعميمه ليستفيد منها جميع الباحثين والأكاديميين ليس مدعاة للخجل على الإطلاق. المهم في مسألة التمويل أنّ المال لا يشتري السياسة البحثية وأنّ استقلالية المؤسسة البحثية تبقى محفوظة، وكذا استقلالية العاملين فيها وحريتهم. أما المخجل فهو ما يجري عند التمويل من بعض المؤسسات والصناديق الأجنبية أو من قبل أحزاب سياسية معينة؛ إذ تقوم مراكز وجمعيات بإجراء هذه الاستطلاعات بتمويل من مؤسسات من دون التمحيص بأهدافها ونشاطاتها وجنسياتها، وذلك وفق استمارات معدّة أصلًا من قبل الجهة الممولة، ويجري تسليم نتائج هذه الاستطلاعات إلى الجهة الممولة لتفعل بها ما تشاء، وعادة ما تحفظ في أدراج موصّدة، فلا تنشر ولا تعمم، ويكون المستفيد الوحيد منها الجهات الممولة التي تستخدمها لأغراضها.