يعكس كلٌ من مفهوم "التنمية الاقتصادية" و"التنمية البشرية" صراعًا بين اتجاهين اقتصاديين سياسيين؛ فالأوّل يركّز على إنتاج الثروة، وليس على توزيعها، ويعدّ انعكاسها على المجتمع بعمومه منتجًا ثانويًا، أمّا المفهوم الآخر فيهتم بمدى انعكاس التنمية الاقتصادية على المجتمع ككلّ، ومدى تقدّم العدالة الاجتماعية إلى جانب النموّ الاقتصادي.
تقاس "التنمية الاقتصادية" عادةً بعددٍ من المؤشرات الرقمية، مثل: معدل نموّ الناتج المحلي السنوي، ومتوسط حصة الفرد الواحد منه، ومعدلات الادخار والاستثمار نسبةً للدخل القومي، ومؤشر تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد أو الصادر، ومستوى المديونية المحلية والخارجية نسبة للناتج المحلي، وعجز أو فائض الميزان التجاري وميزان المدفوعات، واحتياطيات الدولة من العملات الصعبة، وغيرها من مؤشرات رقمية تقيس نموّ الاقتصاد وسلامة الوضع المالي للاقتصاد.
في المقابل، يهتم مؤشر التنمية البشرية بانعكاس التنمية الاقتصادية على المجتمع؛ فإلى جانب مؤشرات التنمية الاقتصادية، يهتم مفهوم التنمية البشرية بكيفية استخدام المجتمع نموّه الاقتصادي، فيدخل مؤشرات عديدة تقيس وصول منافع التنمية الاقتصادية إلى أوسع شرائح المجتمع، فهو يقيس مؤشرات التعليم والصحة وتزويد المنازل بالكهرباء والمياه النظيفة والصرف الصحي وتجهيزات البيت والمطبخ وتوافرها لأوسع قطاعات المجتمع، ويقيس أيضًا المساواة والفوارق في الدخل والفوارق بين استهلاك الطبقات الفقيرة والفئات الغنية وحصص شرائح المجتمع من الدخل، إضافةً إلى مؤشرات اجتماعية أخرى تتعلق بقياس الفوارق بين الجنسين، ومؤشرات تمكين المرأة وتعليمها ومشاركتها في قوة العمل، ومساواتها في الأجر، ومشاركتها في إدارة المجتمع ومؤسساته، وغيرها من مؤشرات تقيس شكل اتساع انعكاس التنمية الاقتصادية على المجتمع، ومداه.
يصرّ أنصار التنمية الاقتصادية على أنّ أيّ تدخّل في السوق هو اعتداء على الملكية من جهة، ويضرّ بالقدرة الاقتصادية التنموية. وهم يرون أنّ التنمية البشرية هي نتاج طبيعي وتابع للتنمية الاقتصادية، والأوّل يتحقق بتحقيق الثاني دون حاجةٍ إلى تدخّل أو توجيه من الدولة، ويرون أنّ مثل هذا التدخّل ضار. فزيادة الادخار والاستثمار برأيهم تعني خلق فرص عمل جديدة ودخول أفضل، وإنتاج المزيد من السلع والخدمات، والمزيد من الضرائب للخزينة العامة، على الرغم من المعدلات الضريبية المنخفضة لأنّ قاعدتها ستكون أوسع مع توسّع الاستثمار، واتساع القاعدة الضريبية مع معدلات ضريبية منخفضة أفضل من ضرائب عالية وقاعدة ضريبية ضيقة، فالحصيلة في الحالة الأولى ستكون أعلى، والسوق الحرة هي ذاتية التنظيم عبر يدها الخفية. وكلّ هذا يعني زيادة الرفاه للجميع، وإن تفاوتت مستوياته، فهذا من طبيعة الأشياء. ولا يعدّ انعكاس التنمية على المجتمع أولوية بل هو تابع ثانوي وتحصيل حاصل. وتتبنى مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأونكتاد وغيرها من مؤسسات شبيهة وكذلك معاهد وجامعات ومراكز بحوث ومنظمات قطاع الأعمال، التوجّه الليبرالي وجهة نظر التنمية الاقتصادية. وتصدر مؤسسات دولية عديدة مثل هذه التقارير؛ مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وغيرها.
بينما لا يؤمن أنصار التنمية البشرية باليد الخفية للسوق، ويعتقدون بضرورة تدخّل الدولة في السوق الحرة لتصحيح عيوبها، وبخاصة عيوب توزيع الدخل. ويؤيدون سياسات تعرف بإعادة توزيع الدخل، وهذا اقتطاع ممّن حصل على الكثير عبر سياسات ضريبية مرتفعة وسياسات إنفاق وتسعير، واستخدامها تمويل شبكة ضمان اجتماعي تدعم الفئات الهشة والضعيفة، وتموّل أيضًا الإنفاق على الخدمات الأساسية والضرورية لجعلها في متناول الجميع وبخاصة التعليم والصحة. وقد أصبحت منظمات الأمم المتحدة تميل أكثر لتبنّي مفهوم التنمية البشرية. ويصدر برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة تقريرًا سنويًا عن التنمية البشرية. وهو جدير بالاهتمام ولا تخلو قراءته من المتعة. ويسير في هذا الاتجاه قوى مجتمعية وأحزاب ومراكز بحث ذات توجّه اجتماعي تنحاز أكثر إلى العدالة الاجتماعية.
تكمن الأهمية العملية التطبيقية لهذا التفريق بين التنميتين في كون كلٍ من المفهومين يؤثّر في السياسات المالية والضريبية والتجارية وسوق العمل وغيرها من السياسات، ويوجّهها نحو مصالح محددة مختلفة، بل ومتعارضة. وهو يتجلى صراعًا بين عولمة بلا قلب مقابل عولمة إنسانية، وبين رأس المال مقابل العمل، وبين الإنتاج لزيادة الربح مقابل الإنتاج من أجل تلبية احتياجات البشر، وبين السوق الحرة بصورة مطلقة مقابل سوق حرة منظمة (رأسمالية منظمة).
بالنسبة إلى الحكومات وصانعي سياساتها، فهم من جهة في حاجة إلى تشجيع الاستثمار والمستثمرين في عالم مفتوح، ومهتمون بتحقيق مؤشرات تنمية اقتصادية جيدة لأنّها الأساس للتنمية البشرية، وعليه، يندفعون لصوغ تشريعات وقواعد لمصلحة رأس المال ومبدأ تعظيم الربح وتقديم كلّ التسهيلات للمستثمرين وأرباب العمل، وضمان عدم إرهاق قطاع الأعمال بأيّ أعباء، وخفض معدلات الضريبة على الأرباح وتعويضها بضريبة المبيعات والقيمة المضافة التي تفرض على المستهلكين بدلًا من المنتجين، وإضعاف النقابات، وإضعاف منظمات المجتمع المدني وتقليص قدرتها على الاحتجاج، والسيطرة على وسائل الإعلام، وتوجيه المؤسسات الأكاديمية للترويج لهذه المفاهيم. ولكنّهم من جهة أخرى مهتمون بالاستقرار، ما يعني الاهتمام بالتنمية البشرية وتبنّي مفاهيمها. وهذا يعني فرض ضرائب تصاعدية أعلى على الأرباح وقيود على حرية السوق وتدخل لتصحيح مساراتها، والحفاظ على نقابات قوية وعلى قدرة عالية للمجتمع المدني على الاحتجاج، وحماية المشتغلين من التسريح التعسفي، وغيرها.
إنّ تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية مسألة في غاية الأهمية والدقة؛ فمن جهة، لا بدّ من الاهتمام بالتنمية البشرية، ولكن المبالغة في الاهتمام بها بأكثر من حدود معيّنة تقضم القدرة على التنمية الاقتصادية وتكبحها، ما يقلّص المتاح للتنمية البشرية. وإهمال التنمية البشرية ومنح الحقوق كافة لرأس المال، إنّما يعني تدهور سوية الحياة ومستوى المعيشة، ويُضعف تأهيل قوة العمل والقدرة الإبداعية للمجتمع، ويهدد في النهاية بانفجار المجتمع.
غير أنّ خيار الحكومات ليس خيارًا تقنيًا صرفًا، فهي تقع تحت ضغوط أنصار هذين الاتجاهين؛ فرأس المال ومؤسساته الاقتصادية والتجارية ووسائط إعلامه وأحزابه ومعاهده الأكاديمية يضغط بكلّ ما لديه من قوى لدفع الحكومة باتجاه الاقتصار على تبنّي مفاهيم التنمية الاقتصادية ومؤشراتها. ومن جهة أخرى، تضغط مصالح قوة العمل والنقابات والأحزاب الاجتماعية واليسارية باتجاه سياسات تخدم التنمية البشرية. والحكومة في حاجة إلى كسب قطاع الأعمال، وهي في حاجة إلى كسب الشارع. والتوفيق ليس بالأمر السهل وتوازن السياسات أمر دونه عوائق.
لعلّ أحد دروس الربيع العربي أنّ انتشار السياسة الليبرالية عبر العالم، بعد وصول تاتشر لرئاسة بريطانيا (1979) وريغن لرئاسة أميركا (1980)، ثم بعد سقوط المعسكر الشرقي المنافس (1990)، وتقليص شبكة الضمان الاجتماعي في كثير من بلداننا تأثُّرًا بهذه السياسات، ساهم بوصفه أحد العوامل، في تراكم الغضب وقيام ثورات الربيع العربي التي فتحت أبواب جهنّم، ولا نعلم أين ستنتهي.