العنوان: غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم
المؤلف: فيتوريو أريغوني
الناشر: دار (Kube Publishing Ltd) -بريطانيا
السنة: 2010
عدد الصفحات: 152
صدر عن دار (Kube Publishing Ltd) في بريطانيا عام 2010 كتاب بعنوان "غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم" للكاتب والمتضامن الإيطالي "فيتوريو أريغوني". في الكتاب 152 صفحة، و هو من الحجم الصغير.
"فيتوريو أريغوني" المتضامن الدولي الذي يصحّح للمستفسرين عن جنسيته بالقول إنه غزّاوي، ترك دفْء شواطئ إيطاليا إلى غزّة حيث ميادين القتل. جاء إلى أرض فلسطين التي يعيش الشّعب فيها غير كلّ الشعوب. الشعب الذي يبحث عن ضجر في حياته كبقية الشعوب. شعب يبحث عن ملل في يومه وعن أرقِ وَلِهٍ في ليله. جاء قبل عملية الرصاص المصبوب ورحَّلَتْهُ السلطات الإسرائيلية. لكنه ما لبث أنْ رجع قبيْل الرصاص المصبوب، وبقي كيْ ينقل لنا رواية شاهد عيان عن الأرض التي انفجرت صباح يومٍ كانوني، وعن الجثث التي غطّت المكان طيلة اثنيْن وعشرين يوماً، المدّة التي ظلّ الرصاص فيها يُصَبُّ على غزّة والتي حضرت في يوميات "فيتوريو" في كتابه وعنوانه: "غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم"، ليعيد به لنا إنسانيّتنا فنترك مجالسنا المريحة كي نتفكّر في هذا الشعب الذي حُرم حتى من إنسانيته.
طالعنا في سفر فلسطين منذ النّكبة حتى يومنا هذا الكثير من الكتّاب العرب والفلسطينيّين بمؤلفاتٍ تتحدّث عن يوميّات الحرب والحصار والتهجير والقتْل والاغتيال الذي لحق بالشّعب الفلسطيني خلال أكثر من ستّين عاماً. لكن، "غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم" يختلف كونه رؤية شاهد عيان من بلادٍ أوروبيةٍ لمسَ الوحشية الإسرائيلية وسجّل كلّ التفاصيل ممّا عاناه هو شخصياً حين أصبح جزءاً من هذا الشّعب بعد أن انخرط في العمل التطوّعي كدرع بشرية لحماية سيارات الإسعاف من القصف، وكمسْعفٍ يقدّم العون للجرحى الذين سقطوا جراء القصف الإسرائيلي.
والكتاب هو شهادة مراسلٍ صحفي كان يرسل تقاريره شبه اليومية إلى صحيفة "الـمانيفيستو" الإيطالية فتجد وقعاً لدى الشارع الإيطالي الذي يخرج في مظاهراتٍ تدين عمليات القتل الإسرائيلية وتدعو المجتمع الدولي للتدخّل لدى إسرائيل لوقْف حربها. يذكّرنا ما جاء في هذا الكتاب بمؤلّفات الكتّاب الفلسطينيّين وخاصّةً "بسام أبو شريف" في عمله "أوراق أيلول" الصادر في بيروت عام 1978 والذي يسجّل لمعارك أيلول الأسود في الأردن عام 1970. وكتابات "رشاد أبو شاور" وخاصّةً "الربّ لم يسترح في اليوم السابع" والذي يحكي قصّة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وحصار الجيش الإسرائيلي لبيروت مدّة ثلاثة أشهر وخروج المقاومة الفلسطينيّة إثرها إلى شتات جديد. إلاّ أنّ هذا الكتاب يختلف عنهما بابتعاده عن الأسلوب الرّوائي في سرد الأحداث الذي ميّز العمليْن المذكوريْن إلى الأسلوب الإخباري والمطعّم بشيءٍ من الأسلوب التصويري الذي لجأ إليه الكاتب حسب متطلّبات الموقف.
يعرض الكتاب، الذي سيصدر مترجماً قريباً، لفترةٍ تمتدّ بين المذبحة الأولى التي استهلّت بها إسرائيل عملية "الرصاص المصبوب: من 27/12/2008 حتى 18/1/2011" وتاريخ 19 آب 2009 عندما انقشع غبار المعارك وتعرّت الوجوه ليظهر عرْي المجتمع الدولي الذي سكت عن المجزرة ولم يخرج صوتُ إدانة رسمية تضع حداً لجرائم إسرائيل. أمّا الكاتب "فيتوريو أريغوني" فهو إيطالي الجنسيّة جاء إلى غزّة على أوّل مركب لحركة التّضامن الدولية يهدف إلى كسر الحصار عن شعب غزّة وإلى إعادة تفعيل دور الحركة في الدّفاع عن حقوق الإنسان. عرفه أهل غزّة هو وزملاؤه حين كانوا يخرجون مع الصيّادين الفقراء ليشكّلوا دروعاً بشريّة تمنع إسرائيل من قصف القوارب في عرض البحر. وقد أصيب مرّةً في قصف البحرية الإسرائيلية لتلك القوارب، واعتُقل وأودع سجن الرملة مع زميلين له وفتاة لفترة أضربوا فيها عن الطعام لإجبار إسرائيل على إعادة قوارب الصيد الفلسطينية إلى أصحابها.
وكشرطٍ لإعادتها وافق على ترحيله إلى إيطاليا، لكنه عاد سريعاً قبل عملية الرصاص المصبوب بأيام. وحين وقعت الحرب شكَّل مع زملائه في الحركة دروعاً بشريّة لحماية المدنيّين، فركبوا سيارات الإسعاف لمنع الطائرات والمدفعيّة الإسرائيلية من استهدافها أثناء تجوالها لإسعاف المصابين: "لم نلذْ بالفرار كما نصحتنا قنصلياتنا لأننا مدركون أنّ إسهامنا من خلال وجودنا كدروع بشرية في سيارات الإسعاف يمكن أنْ يكون حاسمًا في إنقاذ الأرواح". ذلك ما كتبه في التقرير الإخباري "أرواح تطالب بالعدالة". وأضاف في تقريرٍ آخر: "لن نذهب إلى أيّ مكان لأننا نؤمن بأنّ وجودنا ضروري لتقديم رواية شاهد عيان للجرائم التي تُقترف بحقّ سكانٍ مدنيّين مجرّدين من السّلاح ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة". وكان لتقارير "أريغوني" وقعٌ مؤثرًٌ في القرّاء عبر إيصال صوت الضحيّة دون أيّ "فلترة". فخرج الآلاف في مظاهرات في شوارع إيطاليا وأوروبا رافعين عبارته: "حافظوا على إنسانيتكم" كشعار لحثّ الجميع على التّضامن مع مأساة الشعب الفلسطيني، واستنكاراً للمجازر التي ارتكبتها إسرائيل خلال تلك الحرب.
ويتضمّن كتاب "غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم" 20 تقريراً صحفياً غطّى فيها "أريغوني" العمليات الحربية التي استمرّت اثنيْن وعشرين يوماً. كما تضمّن مقدّمتين، الأولى بقلم الأكاديمي والمعارض الإسرائيلي "إيلان بابيه" صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" والثانية بقلم الكاتب نفسه. يقول "إيلان بابيه" في مقدّمة الكتاب التي وضعها بعنوان "ميادين القتل في غزّة 2009:: "إنّ تقاريره اليومية (أريغوني) تأتي مباشرةً من ميادين القتل في غزّة، وهي لذلك خالية من أيّ تشويهٍ أو تلاعبٍ إعلامي". وسَرَدَ بابيه في مقدّمته تلك قصّة المدينة الشبح التي أنهى الجيش الإسرائيلي بناءها في شتاء عام 2006 لتشبه غزّة في كلّ تفاصيلها، من شوارع وأبنية وغيرها حيث يتدرّب الجنود "ليستعدّوا لسيناريو سيتم تجسيده في أحياء غزّة كثيفة السكّان" كما قال رئيس الأركان العامّة الإسرائيلي "دان حالوتس". ممّا يُظهر أنّ عمليّة الرصاص المصبوب التي وقعت في نهاية عام 2008 كان قد تمّ التخطيط لها قبل عامين وكان البدء فيها ينتظر وجود مبرّر رغم أنّ إسرائيل ليست في حاجة إلى مبرّر لتنفيذ جرائمها.
لم يقف "أريغوني" على الحياد بين الجلاّد والضحيّة في نقْله للأحداث، بل انحاز إلى الفلسطينيّين بعد أن رأى الفرْق بين حقيقة ما تدّعيه إسرائيل بحربها على الإرهاب المزعوم في غزّة التي طالت بالتدمير الشامل المَشافي والمنازل والمرافق العامّة، وبين الردّ الفلسطيني بوساطة ما سمّاه "صواريخ منزلية الصّنع" تحاول فيها المقاومة الردّ على الوحشيّة الإسرائيلية بما يشبه القنابل الصوتيّة التي لا تخلّف خسائر على الجانب الآخر لكنها تعكس إرادة شعبٍ يقاوم من "حلاوة الروح". كذلك في دعوته للأهل بعبارةٍ تذكّرنا بعبارة" لا تترك الأدوية في متناول أيدي الأطفال" التي تُكتب على علب الأدوية لحمايتهم من خطر استخدامها، وذلك حين طلب منهم في مقدّمة الكتاب التي بعنوان "للقارئ: تحذير وطرق الاستخدام" "الرّجاء الاحتفاظ بهذا الكتاب في مكانٍ آمن في متناول الفتيان، وبذلك ربّما يطّلعون بسرعة على عالمٍ ليس شديد البعد عنهم، حيث التمييز العنصري والاستهتار بحياة الآخرين يمزّقان نظراءَهم إلى قطعٍ صغيرة وكأنّهم مجرّد دمىً بالية".
في تقريره الأوّل وعنوانه "غيرنيكا في غزّة" والذي استعار اسمه من المجزرة التي ارتكبها الدكتاتور الإسباني "فرانسيسكو فرانكو" عام 1937 بقصفه مدينة "غيرنيكا" الإسبانية بالطائرات والمدفعيّة ،وراح ضحيّة القصف 1654 شخصاً من الجمهوريّين الذين كانوا يقاتلون ضدّ حكمه الدّموي. يسرد الكاتب بدْء عمليّات الجيش الإسرائيلي ضدّ غزّة في تلك الحرب والتي بدأت بمذبحةٍ راح ضحيّتها 210 أشخاص صباح يوم 27 كانون الأوّل 2008. وقد لاحظ "أريغوني" في زيارته لمشفى الشّفاء ،وهو المشفى الرئيس في مدينة غزّة، عدم وجود أيّ "إرهابي" بين الجرحى الذين ينتظرون دورهم للمعالجة أو بين الجثث التي تعجّ بها ردهات المشفى. كما شاهد "أريغوني" جثث التلاميذ ملْقاةً في الشارع حيث أصيبت مدرستهم الابتدائية القريبة من مركز الشرطة الرئيس في العباس ،وهو الذي استهدفته الغارةُ الأولى ،فيما قالت مصادر الجيش الإسرائيلي وردّدت وسائلُ الإعلام الغربيّة بشكلٍ ببغاوي إنّها هجمات تستهدف فقط أوْكار حماس الإرهابيّة بدقّةٍ تشبه دقّةَ العمليّة الجراحية.
تميَّز اليوم الثالث للعملية برائحة الفوسفور التي غطّت سحائب منه القطاع وصار مألوفاً لدى الغزّاويّين طيلة تلك الحرب. كما تميّز هذا اليوم بالتركيز على استهداف المشافي والمراكز الطبيّة ومستودعات الأدوية. وقد تزايد عددُ الضّحايا المدنيّين من قتلى وجرحى باطّرادٍ بعد استهداف أحد المساجد وتضرّر أبنيةٍ قريبة منه. وكان يوجد هنالك كما في عنوان تقريره هذا "الموت ببطء أثناء إصغاء السمع دون جدوى" بشر هم سكّان غزّة ينتظرون مَن يرفع الصوت في الخارج استنكاراً للمجزرة القائمة. في هذه الأثناء، يغادر أحد القوارب التابعة لحركة غزّة الحرّة ميناء لارنكا في قبرص محمّلاً بكميّاتٍ من الأدوية وعلى متنه عددٌ من المتضامنين الدوليّين.
"مصانع الملائكة" هو عنوان تقرير "أريغوني" الثالث من الانفجارات وما شهدته غزّة خلال الأيام السابقة، حوّلت إسرائيل المستشفيات والمشارح إلى مصانع للملائكة تنتج ملائكة عبر خطّ إنتاج بنسبة دون توقّف. قصف المرفأ يوم 30 كانون الثاني وسُوّيت مرافقه بالأرض، وتأثّرت الضّواحي المحيطة به بفعل القصف. ولوحظ أنّ القتل قد وحّد الفلسطينيّين وعادت الألفة بين مناصري التنظيمات المتصارعة في غزّة. تزايدت أعداد الجثث المبعثرة أشلاؤها ،ولم يستطع ذوُو الضّحايا تمييز أقربائهم، ورغم ذلك لا يزال الموقف الدولي صامّاً آذانه عن سماع صرخات الاستغاثة من فلسطين.
لم يعد المرء قادراً على تمييز شوارع غزّة، فهو حين يمشي بين الأنقاض لا يعرف إنْ كان ما يمرّ به منزلاً أمْ مشفى أم مسجداً. فقد اختفت معالم الأمكنة وكأنّ المرء يشهد زلزالاً ضرب المنطقة كما وصف "أريغوني" المشهد في تقريره "الكارثة غير الطبيعية". في هذا الوقت أعلن أعضاء حركة التضامن الدولية في مؤتمر صحفي عقدوه في غزّة في الأوّل من كانون الثاني 2009 ،وكان رسالة بعثوا بها إلى السلطات الإسرائيلية على الهواء مباشرةً، أنهم سيركبون سيّارات الإسعاف آملين أنّ وجودهم فيها كدوليّين يمكن أن يكون رادعاً ولو بسيطاً لاستهدافها.
بينما كان "أريغوني" يكتب تقريره بعنوان "أرواح تطالب بالعدالة" بتاريخ 3 كانون الثاني 2009، كانت الدبّابات الإسرائيلية تدخل القطاع. ومع استمرار القصف الجوّي والبحري كان الفلسطينيون يَتوقون لوجود مَن يحقّق لهم العدالة. وبينما هم يتمنّون ذلك ظهرت صور الرئيس الأميركي باراك أوباما وهو يلعب الغولف على شاشات كلّ القنوات الفضائية العربية ،في مشهدٍ بَدا وكأنه إحراز مزيد من ثياب الحداد التي تغطّي أرض غزّة. غادر الكثير من الأجانب القطاع، لكن أعضاء حركة التضامن قرّروا البقاء.
في الوقت الذي تعلن فيه إسرائيل أنّ حربها ليست موجّهة ضدّ المدنيّين بل ضدّ حماس، يكون قد وصل عدد المساجد المدمّرة منذ بداية الحرب إلى 15 مسجداً، علاوةً على العدد الكبير من المنازل والمشافي والمدارس والجامعات التي دمّرها القصف. ووصل عددُ الضّحايا إلى 548 حتّى تاريخ كتابة "أريغوني" لتقريره بعنوان "أطبّاء بأجنحة: عرفة عبد الدايم" في 5 كانون الثاني الذي يبرز فيه دور الأطباء والطواقم الطبيّة ويتحدّث عن صديقه الطّبيب عرفة الذي أرْدته طلقة دبّابة أصابت سيارة الإسعاف التي كان فيها.
تتجلّى نكبة 1948 مرّةً أخرى أمام عينيْ الكاتب حين يرى قوافل الفلسطينيّين وهي تمشي دون هدىً في إطار البحث عن ملجأ آمن. وفي تقرير له بعنوان "النكبة" يقول إنه قد قارن صوراً التقطها لهذه القوافل بالأبيض والأسود فوجد الشّبَه الكبير بينها وبين ما رآه من صور النّكبة القديمة. في ظلّ هذه المأساة ما زال الصحفيّون المرتزقة يردّدون ما تقوله إسرائيل عن الحرب على الإرهاب، في وقتٍ تتزايد فيه صور المجازر وقصْف المراكز المدنيّة ليصل عددُ الشهداء إلى 650 شهيداً.
في تقريره "المقاليع في مواجهة قنابل الفوسفور الأبيض" يلاحظ "أريغوني" استخدام طائرات الأباتشي المتطوّرة جداً التي تلقي القنابل العنقودية والفوسفور الأبيض المحرّميْن دولياً، بينما يقف الفلسطينيون بمقاليعهم الحجريّة لمواجهتها. كما يلاحظ ثبات عدد القتلى الإسرائيليّين على الرقم 4 فقط منذ بدْء العمليات. وبحضور كلّ هذا الدمار نجد أنه حتى الأطفال يرفضون مغادرة غزّة، وهو ما أبرزه الكاتب في تقريره "أنا لن أغادر وطني!". ذلك رغم كلّ الحرمان وصعوبة تأمين المستلزمات الحياتيّة التي تأتي من تحت الأرض عبْر الأنفاق التي يبيّن في هذا التقرير استهدافها من قبل الطائرات طيلة هذا اليوم 8 كانون الثاني، في سعْيٍ من السلطات الإسرائيلية لحرمان أهل غزّة حتّى من النذر اليسير الذي يصلهم، لتتجمّع لديهم الأسباب التي تدفعهم للانتفاض ضدّ حماس، وهو أحد أهداف هذه الحرب.
يلقي الكاتب الضّوء على معاناة الطواقم الطبية في تقريره "قتل أبقراط" حيث تبيّن له في غزّة أنّ فرقة الإعدام الإسرائيلية ضربت بأبقراط عرض الحائط، مسدّدةً بنادقها عليه ومطلقةً النار. ففي حين لا يتمّ استهداف سيارات الإسعاف في الحروب، أعلنت إسرائيل أنها ستستهدف سيارات الإسعاف لأنّ الإرهابيّين يستخدمونها في تنقّلاتهم، وهو ما نفاه الكاتب بحكم وجوده الدائم على متْنها.
يستنتج الكاتب من المناشير الورقيّة التي ألقتْها الطائرات الإسرائيلية على غزّة أنّ إسرائيل قد حسمت أمرها وقرّرت تدمير القطاع تدميراً شاملاً. ففي تقرير "التدمير الشامل: العمل جارٍ على قدم وساق" بتاريخ 10 كانون الثاني يورد ترجمة لتلك المناشير التي تدعو سكّان غزّة لإخلائها قبل قصفها. يتذكّر "أريغوني" وهو يمرّ بين الأنقاض والحفر ما كان يُعرض في أفلام الخيال العلمي، حيث بدَا وكأنّ نيازكَ قد حوّلت غزّة إلى خرائب. ويشهد على استخدام قنابل الديم) Dime) المكوّنة من خليط الكربون والراتنج مدمجةً مع الفولاذ والتنغستين. وهي مخصَّصة لقتال المدن حيث تحْدث موجة قاتلة في منطقة سقوطها.
حتى لحظة إعداد الكاتب لتقرير "العقبان ومنتهزو الفرص" بتاريخ 13 كانون الثاني يكون عدد الضّحايا قد وصل إلى 923 بينهم 255 طفلاً و4,150 جريحاً. ينظر الفلسطينيون نحو الأفق في انتظار أيّ نورٍ يعطيهم الأمل بعد أنْ انتهكت كلّ بوصة من أرضهم وتحوّلت حتى الجنازات إلى أهدافٍ للطائرات الإسرائيلية التي تتبعها العقبان لتنهش الجثث التي تخلّفها. إنهم يبحثون عن أيّ ممرٍّ آمن خارج هذا الجحيم. هذا الممرّ الذي يحاول مركب "روح الإنسانية" التابع لحركة "غزّة حرّة" والمحمّل بأطنانٍ من المساعدات الطبية وأربعين طبيباً وممرّضاً وصحفيّين وأعضاء في البرلمان الأوروبي ونشطاء حقوق إنسان ممثّلين لـ 17 بلداً مختلفاً إيجاده.
في هذا الوقت، أوردت وكالتا معاً ورويتر للأنباء أنّ الولايات المتحدة على وشك أنْ تشحن حمولة 300 طن من الأسلحة إلى إسرائيل من اليونان. كما أعلن الجيش الإسرائيلي ،على أحد مواقع الانترنيت الأميركية، أنه يستهدف أعضاء حركة التضامن الدولية وخاصّةً "فيتوريو أريغوني" (الكاتب) لأنه يساعد حماس. وقد وضعوا صورةً شخصيةً له تساعد على الاستدلال عليه وأرقام هواتف بهدف إبلاغ إسرائيل عن مكانه.
يفرد الكاتب تقريره "الأطفال أقل من الله"، هذا العنوان المستوحى من إحدى المسرحيات الأميركية، ليتحدّث عن الأطفال الذين ذُبحوا بالقصف الإسرائيلي ووصل عددُهم حتى تاريخ 14 كانون الثاني إلى 255 طفلاً. كما يتحدّث عن حملات الشّجب العالميّة للجرائم التي ترتكبها إسرائيل. وإضافة للاحتجاجات، تعالتْ الأصوات على مستوى العالم لمقاطعة إسرائيل مستلهمةً دعوة الكاتبة والناشطة الكنديّة "نعومي كلين" في مقالها في صحيفة الغارديان البريطانيّة تحت عنوان "كفى! حان وقت المقاطعة" الذي دعت فيه إلى مقاطعة إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية باتّباع نفس الأسلوب الذي أدّى إلى إنهاء العنصرية في جنوب أفريقيا. وفي وقتٍ تدمّر فيه الطائرات المساجد دون أيّ ردّ فعلٍ دولي، يتخيّل الكاتب ماذا لو أصاب أحد صواريخ القسّام كنيساً، كانت ستعمّ الاحتجاجات ضدّ الإسلام العالم قاطبة.
في "دوائر جحيم جباليا" يقول "أريغوني" إنّ جباليا، وخاصّةً مشافيها، تبدو وكأنّ لعنةً قد حلّت عليها. هذا العنوان مقتبسٌ من الكوميديا الإلهيّة لدانتي، وتقوم فكرة الدوائر على أنّ هنالك مستوياتٍ مختلفةً للعقاب في الجحيم تتجلّى في تسع دوائر قاد الشاعر الروماني "فيرجيل" الشاعر "دانتي" إليها. والدوائر مركّزة في الوسط وهي تمثّل ازدياداً تدريجياًّ لمقدار الشرّ، وتتجمّع في مركز الأرض. وتخصّص كلّ دائرة لمخطئين يعاقبون بطريقةٍ تناسب جرائمهم. يعتقد الكاتب أنّ مركز هذه الدوائر يتركّز في جباليا هذه الأيام. فالعقاب الجماعي نزل على الشّعب الفلسطيني في غزّة بسبب "اختياره حركة حماس في انتخاباتٍ ديمقراطية راقبت سير عملياتها لجانٌ دولية"، وهي عبارة يدأب عالمُ اللسانيات والمعارض الأميركي "نعوم تشومسكي" على ترديدها في كلّ مقالاته التي تتحدّث عن فلسطين أو المنطقة.
كان "انقلاب الجغرافيا رأساً على عقب" هو ما ميّز غزّة في يوم 16 كانون الثاني حيث لم يعد بمقدور السكان ،إذا غادروا منازلهم، الاهتداء إلى طريق العودة إليها نتيجة تغيّر الجغرافيا. وكان الدّمار الذي ينتشر في كلّ مكان مانعاً لوصول سيارات الإسعاف لمقصدها كي تنقذ جريحًا أو تخلي شهيداً. كما أنّ صورة أقمارٍ صناعية لغزّة هذه الأيام ستكون مغايرةً تماماً لصورةٍ أُخذت قبل شهرٍ واحد. لم يقتصر عمل الجنود الإسرائيليّين على قتْل المدنيّين وتدمير غزّة، بل كانوا يظهرون وهم يسرقون المنازل والمتاجر بمشهدٍ يدلّ على وضاعتهم. كما برز عمل القنّاصة الإسرائيليين الذين كانوا ينجزون ما تبدأ به الدبابات والطائرات عبر اصطياد الناس الفارّين من منازلهم بعد أن يستهدفها القصف.
في غمرة القتل الذي ينتشر في غزّة، وبينما هو يقف في الدمار الذي خلّفته آلةُ القتل الإسرائيلية لم ينسَ "أريغوني" الحديث عن الحبّ في غزة. ينقل لنا في تقريره "الحب تحت القصف" قصصاً عن أناسٍ كانوا يمارسون الحبّ في ظلّ القصف، حتى أنّ أحدهم كان وزوجته في لحظة عناق ملؤها الرقّة حين ضبطتهما رصاصة وأقحمت نفسها بينهما، فأصابت اللوح الخشبي في مقدّمة السرير على بعد بوصاتٍ من رأسيهما. فالفلسطينيون الذين يؤرّقون إسرائيل بمعدّل الإنجاب لديهم، والذين يهدّدونها بالقنبلة الديموغرافية، لا يجدون لحظةً يستكينون فيها لزوجاتهم في هذه الجهنم. والأزواج الفلسطينيون الجدد، على عكس أقرانهم الإسرائيليين الذين يمضون العطلة على شاطئ البحر، لا يمكنهم حتى ممارسة الحبّ في أسرّتهم الخاصّة.
وصل عدد الجرحى إلى 5,320 جريحًا في حين أنّ القدرة الاستيعابية لِما تبقّى من مشافٍ لا تتجاوز 1,500 سريراً. قصفت دبابة إسرائيلية ،صباح هذا اليوم 17 كانون الثاني، مدرسةً أخرى تابعة للأونروا في بيت لاهيا شمال قطاع غزّة. فجُرح جراء القصف 14 تلميذاً ،في حين قُتل اثنان. تواصل إسرائيل فرْض أوامرها بإخلاء المنازل وإلاّ ستُقصف فوق ساكنيها. كما خرجت دعواتٌ لقصف غزّة بالسّلاح النووي على غرار ما تمّ أواخر الحرب العالمية الثانية ،حين أُجبرت اليابان على الاستسلام بعد قصف اثنتين من مدنها بالسّلاح النووي. وبينما كان يتم الحديث عن وقفٍ لإطلاق النار في الخارج، قُتل 60 فلسطينياً في الليلة الماضية. يبدو الفلسطينيون قلقين بسبب الحديث عن إطلاق النار دون الحديث عن فتْح المعابر، ممّا يعني استمرار حجزهم في أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، وهو ما يقلق المنظّمات الإنسانية أيضاً.
يرى "أريغوني" في تقريره "الأحياء والأموات" أنّه في غزّة، وحدهم الأموات هم من شهد نهاية الحرب، بينما يستمرّ الأحياء في معركتهم الأبديّة للبقاء على قيْد الحياة. أنباء عن وصول الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" إلى غزّة غداً 20 كانون الثاني حيث تنتظره الكثير من التقارير ليطّلع عليها، خاصةً أنّ لدى "جون جنغ" مدير عمليات وكالة الغوث "الأونروا" في غزّة الكثير من القصص لإبلاغه بها بعد أنْ قصفت إسرائيل مدرستين تابعتين للأمم المتحدة واغتالت أربعة من موظّفيها، كما قصفت ودمّرت مركز الأونروا في مدينة غزّة محوّلةً أطناناً من الأدوية والموادّ الغذائية التي كانت مخصّصةً للسكّان المدنيّين إلى رمادٍ خلال تلك العملية. تعود الحياة شبه طبيعية للقطاع.
ويجاهد الغزّاويون للتظاهر بأنّ الحالة طبيعية على الرغم من أنّ ملامح وجوههم تَشي بغير ذلك حيث أنّ لكلٍّ نصيبه من المصيبة التي حلّت بأرضهم. تابعت جبال الأنقاض لفْظ الجثث التي في جوْفها إلى السطح. وكما هو متوقّع خرقت إسرائيل الهدنة ليلة البارحة، 18 كانون الثاني. فرغم عدم إطلاق أيّ صاروخٍ فلسطيني، قُتل طفل بفعل القصف الإسرائيلي وأمطرت حوامة منطقة سكنيّة شرق مدينة غزة بقنابل الفوسفور الأبيض وفعلت الشيء ذاته في جباليا. أمّا اليوم 19 كانون الثاني ،فقد أطلقت سفينة حربية قذائفها على سهلٍ مفتوح دون أن تصيب أحداً بأذى. أصيب الصّحفيون بالذهول عقب الجولة التي قاموا بها بعد الهدنة، وسأل مراسلُ البي بي سي المذهول كيف أخطأ الجيش وأصاب الأبنية بدل أنْ يصيب معقل الإرهابيّين. وهنا يظهر مدى تأثّر الصحفيّين الغربيّين بما تدّعيه قيادة الجيش الإسرائيلي حول عملياتها شبه الجراحيّة. ما زال الاتحاد الأوروبي يتبع سياسة العقاب الجماعي بامتناعه عن تمويل مشاريع إعادة البناء طالما بقيت غزّة محكومةً من قبل حماس.
الهدنة التي أُعْلِنَ عنها لم تكن سوى فرصة لإحصاء عدد الموتى واكتشاف حجم الدمار والمجازر التي لم تعلنْ من قبل بسبب انعدام القدرة على التجوّل. لذلك استحقّت تلك الهدنة التسمية التي أطلقها الكاتب عليها في تقريره "هدنات الموت". فالموت لم يتوقّف في غزة رغم إعلان الهدنة. جالَ "أريغوني" ،وجال الصحفيون في خرائب غزّة. فانكشف عكس ما يدّعيه قادة الجيش الإسرائيلي بأنّ لديهم براهين قاطعة على أنّ المواقع التي قصفوها كانت كلّها قواعد دعم لاستخدام إرهابيّي حماس.
الفوسفور الأبيض بطل عمليّة الرّصاص المصبوب، عنصرٌ جديد يُضاف إلى جانب اليورانيوم المنضب، إلى سجلّ الأسلحة المحرّمة دولياً التي تستخدمها إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين. فعلاوة على نار المراوغة التي تتغذّى بالماء الذي يسكب لإطفائها، لا يزال يثير العجب بنتائجه التي بدأت تظهر أو تلك التي سيتكفّل الزمن بإظهارها في شكل سرطانات أو مواليد مشوّهين، كما قال أحد أطبّاء مشفى الشّفاء في غزة. لاحظ "أريغوني" ذلك من صوت المؤذّن الذي صعد إلى إحدى المآذن المتبقّية في غزّة لتقطع نوبة سعال حادّة آذانه الذي كان مهيباً مرّة قبل أن يتعرّف إلى الفوسفور الأبيض.
يحدّثنا تقرير "ما الذي رأته دموعها" عن نعيمة العمياء التي صعد "فيتوريو" إلى سطح منزلها ليشاهد التناقض اللوني بين أرضٍ خضراءَ تمتدّ بعيداً خلْف الحدود الفلسطينية الإسرائيلية حيث "الكيبوتسات"، وبين الأراضي الجرداء التي سرقت السلطات الإسرائيلية مياهها الجوفيّة داخل الحدود الفلسطينية. ونعيمة تلك صاحبة آخر منزل في قريتها التي دمّرتها الجرّافات الإسرائيلية خلال تلك العملية. لم يدمّروا المنزل إذْ قرّروا استخدامه كمرصدٍ لأنه أكثر منازل القرية ارتفاعاً فدخلوا إليه واحتلّوه مدة أسبوعين وجعلوه مرصداً لهم. خلال هذيْن الأسبوعين، سُجنت نعيمة مع ثلاث نساء من القرية وسيدة مسنّة ورجل مسنّ مشلولٍ أحدَ عشر يوماً نكّل الجنود بهم شرّ تنكيل، فمنعوهم حتّى من الخروج لقضاء الحاجة ،وكانوا يمنعون عنهم الماء ويرمون لهم ما تبقّى من طعامهم كي يأكلوا. أخفتْ نعيمة دموعها خلف نظّاراتها السوداء بعد أن فرغت من سرد قصّتها لفيتوريو. فكان ما "رأته" نعيمة أكثر بكثير ممّا يمكن أن يتاح لشابّةٍ في مثل سنّها أن تراه إذا ما كان حظّها سيئًا ووُلدت في هذا القطاع المعذّب من الأرض.
في التاسع والعشرين من حزيران عام 2009 ،وبعد خمسة أشهر من انتهاء المعارك، كتب "أريغوني" تقريراً بعنوان "استمرار بؤرة الكارثة". لم تكن الكارثة هي فقط ذلك الزلزال البشري الذي خلّف الخراب في غزّة، ولم تكن المعارك هي الشكل الوحيد للكوارث التي تصيب الشعب الفلسطيني. فكما أنّ لكلّ زلزال بؤرة كذلك لكارثة غزّة بؤرة لا تنتهي. إنها الحصار الذي قال عنه "جون جنغ" مدير عمليات الأونروا: " إنّ الحصار هو لبّ العدم. إنه مركز التّعاسة البشريّة. إنه مركز اليأس والإحساس المتعاظم بتعثّر الأمل". فقد تمّ تشديد الحظْر على دخول الموادّ الأساسيّة لعملية البناء، إضافةً إلى قطع غيار الآلات وقائمة طويلة من الموادّ والسّلع الغذائيّة والتجارية، إضافةً إلى البنود التي لا يمرّ يوم دون أن تتجدّد بإدخال بعض العناصر إليها دون أن يصار إلى التخفيف عن عناصر أخرى. وباختصار فإنّ المنْع طال كلّ شيء ،لكن، لسخرية القدر فقد تم السّماح بدخول معكرونة "الباستا" من أجل السيناتور الأميركي "جون كيري" الذي قدم في زيارة إلى قطاع غزّة في شباط وقد ذهل لسماعه أنباء منْع دخول الباستا. وفي وقتٍ وصلت نسبة الفلسطينيّين الذي يعتمدون على المساعدات الإنسانية في حياتهم إلى 85% من سكّان القطاع، لا تزال إسرائيل تعلن للعالم أنه لا توجد كارثة إنسانية في غزّة هذه الأثناء.
يختتم "أريغوني" كتابه بمقالين صحفيّين: الأوّل بعنوان "جرائم حرب في غزّة"، عرض فيه لتداعيات الحرب على الرّأي العام العالمي وردود فعل المنظّمات الدولية واللّجان الدولية التي شكّلت للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت والاستخدام السافر لأسلحة محرّمة دولياً. وتحدّث عن لجنة التحقيق التي شكّلها الجانب الإسرائيلي والتي برّأت الجيش من أيّ جرم، وبالطبع رفضت منظّمات حقوق الإنسان الدولية ما جاء في نتائجها. كما تحدّث عن لجنة "غولدستون" لتقصّي الحقائق التي شكّلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. كذلك نجد عرضاً لتقارير منظّمات حقوق الإنسان الدولية والدّعوة لتجريم قادة الحرب والسياسيّين الإسرائيليّين ومقاضاتهم أمام المحاكم الدولية الخاصّة بحقوق الإنسان وجرائم الحرب. أمّا المقال الثاني فهو بعنوان "فليجيئوا إلى غزّة" ،يعرض فيه لاستثمار السّاسة الإسرائيليّين الحرب على غزّة لأغراضٍ انتخابية وخروج دعواتٍ لاستخدام قنابل نووية ضدّ قطاع غزة وتوظيف ذلك انتخابياً. ويبيّن استمرار عمليات القتل والقصف رغم إعلان الجانب الإسرائيلي عن انتهاء المعارك، ويلاحظ عدم تغيّر موقف أوروبا والعالم "المتحضّر" من إسرائيل رغم كلّ الجرائم التي ارتكبتها. كذلك، يربط الكاتب بين دعوة الرئيس الأميركي "جون كينيدي"، في كلمته في برلين الغربية عام 1963، العالم للمجيء إلى ألمانيا للاطّلاع على نعيم الرأسمالية، وبين ما دعت إليه مدوّنة إيطالية العالم الذي ما زال يشكّك في حقيقة جرائم إسرائيل للمجيء إلى فلسطين والاطّلاع على الوحشيّة الإسرائيلية.
على تراب فلسطين التي أَحَبّ، وفي غزّة التي عاش بين أهلها وعانى الحرب مثلما عانوا، سقط "فيتوريو". قيل قتلته أيادٍ سلفيّة ، وقيل إسرائيلية. لا فرق، طالما أنّ القتيل صديق فلسطين الذي وقف في وجه إسرائيل ورفض مغادرة غزّة أثناء الجحيم. أيّ حقدٍ ذلك لينصَبَّ على جسد "فيتوريو"؟ وأيّ ظلامٍ ذلك ليخطف روحه؟ أيّ عماءٍ ذلك الذي يدفع لقتل مَن ترك أهله ووطنه ورغد العيش على شواطئ بلاده ليحمي صدور أطفال غزّة من الرصاص؟ ذلك الذي وهب جزءاً مهمًّا من حياته ومن عمله الصحفي ليفضح ذبح الفلسطينيّين اليومي.
وها قد ملأت الغبطة مجرمي إسرائيل ليصبح ربحهم مضاعفاً: موته، وخوف المتضامنين من أنهم ليسوا آمنين. وستكون جهودهم لترحيل المتضامنين أكثر سهولةً وسيكونون واثقين أنّ حملات التضامن ستتوقّف كما توقّفت أساطيل الحرية بعد أنْ هاجموها. ولن يجد أهل غزّة الذين أضاؤوا الشّموع ليلة مقتل "فيتوريو أريغوني" مَن سيتضامن مع مأساتهم. ولن يجدوا من يدفع القنابل عن سيّارات إسعافهم. أو مَن ينقل مشاهد الذّبح كما رآها بأمّ عينه. مات "فيتوريو أريغوني" وترك أطفالاً في شوارع غزّة مازالوا يرمون بمقاليعهم الحجارة باتّجاه السماء، علّها تصيب وحشاً آلياً يلهو بحياتهم.