العنوان هنا
دراسات 10 فبراير ، 2011

الموقف الأميركي من السودان مسارات التفاعل وطبيعة المخططات

الكلمات المفتاحية

أماني الطويل

باحثة وخبيرة في الشؤون السودانية بمركز "الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية". عضو "المجلس المصري للشؤون الأفريقية"، وعضو مجلس إدارة "مركز الدراسات السودانية بمعهد البحوث و الدراسات الأفريقية" في جامعة القاهرة . عملت استشاريا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان 2005- 2006، وأستاذا زائر بـ"مدرسة إليوت للشؤون الخارجية"، بـ"جامعة جورج واشنطن" في الولايات المتحدة الأميركية 2009 – 2010. إضافة لتدريس التاريخ السياسي للسودان وعدد من الدول الأفريقية في جامعة عين شمس 2004 - 2006. شاركت في تأليف التقرير الاستراتيجي العربي وتقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادرين عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وهي مؤلف مشارك لـكتاب الأمن المائي والمتغيرات الإقليمية في حوض النيل، تحت الطبع مركز الأهرام . و مؤلف كتاب الدور السياسي للنخبة المصرية قبل ثورة يوليو عن دار الشروق المصرية 2007، و مؤلف مشارك ومحرر كتاب حالة المرأة في مصر دراسة في مستويات التمثيل بالمراكز القيادية الصادر عن مركز الأهرام للدراسات. ساهمت في تنظيم وعقد العديد من المؤتمرات وورش العمل العلمية كما شاركت أيضا في مؤتمرات وورش عمل المتعلقة بالتطورات السياسية في أفريقيا عموما والسودان خصوصا في مركز الأهرام وعدد من المراكز البحثية في مصر والسودان خصوصا والعالم العربي عموما إضافة لبعض الجامعات الأميركية .
وتكتب د . أماني الطويل مقالات في صحف مصرية مثل: الأهرام والمصري اليوم والشروق والوفد، والأخبار والأحداث السودانيتين والشرق القطرية وغيرها من الإصدارات الصحفية في الشؤون السودانية الأفريقية وقضايا التطور الديمقراطي في العالم العربي. كما تساهم في المتابعات التحليلية في الفضائيات المصرية والعربية . حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس في موضوع العلاقات المصرية السودانية.

تقوم المقاربة الفكرية لهذه الدارسة على اعتبار أن المخططات والمصالح الخارجية لن تجد مناخا صالحا لتحقيقها إلا في ضوء أزمات ومشكلات محلية داخلية لم يتم التصدي لها بروح قومية شاملة تسعى للصالح الوطني العام، وليس لصالح نخب محدودة، وتستجيب للتحديات تحت مظلة من حكم رشيد يتوافر له شروط التداول، والشفافية أيا ما كانت الأطر السياسية المنظمة لهذه العملية أو مسمياتها.

مقدمة

لا يمكن دراسة وتحليل السياسات الأمريكية إزاء السودان دون التعرض لبيئة التفاعل بين الطرفين خلال العقدين المنصرمين الذين حازت فيهما السودان مكانة متقدمة من الاهتمام والتركيز الأمريكي. ويمكن القول إن عام 1989 قد شهد حدثين هامين شكلا الجذر الأساس للحظة الراهنة التي نرى فيها تقسيم السودان بين شمال وجنوب، ونتوقع فيها ميلاد دويلات صغيرة في محيطه الجغرافي وتغيير أساسي في البيئة الجيوسياسية المحيطة به.

أما الحدثان فهما وصول "الجبهة القومية الإسلامية" إلى السلطة في السودان في أول تجربة من نوعها لحركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وسقوط حائط برلين بما يعنيه ذلك من انتهاء الحرب الباردة وتحولات النظام الدولي التي سمحت بتبوأ الولايات المتحدة قيادة العالم.

كانت الخرطوم تبدأ تجربة قطر القاعدة لمشروع إسلامي أممي بقيادة حسن الترابي، وتنتمي أيديولوجياً إلى مفردات عالم يغرب، حيث سلطة الدولة القومية قائمة ولم تنهش منها مفاهيم العولمة بعد، وتنطلق، طبقا لتعريفات ومفاهيم العلوم السياسية، من تكوين ما قبل الدولة، حيث لم يكتمل فيه الاندماج الوطني بين بنيه، ولم يتمكنوا من الاتفاق على هوية مشتركة، ولا توافقوا على عقد اجتماعي من أي نوع، بعدما ورث نظام الإنقاذ الوطني في السودان حرباً أهلية منذ ما قبل إعلان الاستقلال الوطني في عام 1956، وورث أيضاً مجاعات مهلكة في دارفور لم يعترف بها أي نظام سياسي سابق، وسعى هو أيضاً لإخفائها في كردفان (1)، إضافة إلى أن البنك الدولي يصنفه، ومنذ أيلول/ سبتمبر عام 1990، كدولة غير مؤهلة للاقتراض وغير متعاونة (2).

 كان أسلوب وصول الجبهة القومية الإسلامية إلى الحكم في السودان عبر انقلاب عسكري شأن مركزي في طبيعة أدائه السياسي خصوصاً في الفترة الأولى من حكمه، وفي تمكينه من السلطة على حساب باقي المكونات السياسية السودانية، فتم حظر الأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة للنقابات المهنية، وعاشت العاصمة حظراً للتجوال الليلي لسنوات، والأهم أن تطبيقات الشريعة الإسلامية لم تنفذ إلا على المستضعفين، كما تم تعطيلها لضرورات سياسية (3).

 وبشكل عام تجاهلت حكومة الإنقاذ عولمة المفاهيم المتعلقة باحترام حقوق الإنسان المتضمنة الاعتراف بالتنوع الإنساني في السياقات العرقية والثقافية والدينية، إضافة إلى التجاهل المتمادي لدور الميديا بكافة أنواعها ولدور منظمات المجتمع المدني وطبيعة تأثيرها في صورة الدول والزعماء السياسيين في العالم.

في المقابل بدأت الولايات المتحدة تتقدم لتدشين قواعد بنائها الإمبراطوري، وتعولم القيم والمعايير السياسية المتعلقة بالحكم الرشيد كتداول السلطة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وقد تم توظيف هذه القيم الرفيعة لمصلحة المشروع الأميركي للهيمنة، كما تم عسكرتها، وهو الأمر الذى أسفر عن رسم خرائط جديدة لمنطقتنا ذات تكاليف باهظة على المستويين الاستراتيجي والإنساني.

تهدف هذه الدراسة إلى كشف نتائج هذا التفاعل بين الولايات المتحدة الأميركية والسودان من خلال تناول عدد من المحاور من بينها مشروع الجبهة القومية الإسلامية وطبيعة تفاعله الإقليمي والدولي، والاستراتيجيات الأميركية العالمية المؤسسة بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وعملية السلام الأميركية في السودان بما أنطوت عليه من مناهج للتجزئة والتفتيت.

أولا- النظام السياسي الإسلامي في السودان : هيمنة الترابي (1989- 1999)

 استولت الجبهة القومية الإسلامية في السودان على السلطة بانقلاب عسكري وقع في حزيران/ يونيو 1989، وتركزت ملامح الخطاب السياسي لهذه الجبهة على مفردات أساسية تتمحور حول مشروع حضاري إسلامي يعيد بناء الإنسان السوداني الصالح. وقد وقع هذا المشروع في عدد من الأخطاء الإستراتيجية:

الأول: حسم هوية السودان في إطار العروبة والإسلام من دون إطلاق حوار وطني في هذا الشأن، وهو الأمر الذي قاد إلى قراءة خاطئة لمشكلة الاندماج الوطني في السودان، فتم اعتماد آلية الحسم العسكري ضد المناوئين للوسط النيلي، بدوافع التهميش الاقتصادي والسياسي في جنوب السودان وغربه. وبذلك انخرط النظام الجديد في صراعات مسلحة في الجنوب والغرب ساهمت في استنزاف المشروع اقتصادياً. ثم انخرط في مفاوضات سلمية ذات طابع مراوغ إجمالاً، وفتح بذلك البوابات الملائمة للتدخل الخارجي وتدويل الصراعات الداخلية.

الثاني: استبعاد خيار التداول السلمي للسلطة عبر آلية الانتخابات النزيهة، وكذلك اعتبار المكونات السياسية السودانية غير مؤهلة للقيام بمهام ممارسة السلطة، فخرجت الأحزاب السياسة لتكوّن تحالفاً معارضاً من الخارج (التجمع الديمقراطي). وشهدت السودان هجرة غير مسبوقة للعقول، مع وجود ديناميكيات داخلية للنظام غامضة وملتبسة.

الثالث: غياب الموقف النظري في شأن سياسات التنمية الاقتصادية ومناهجها، على نحو ما هو موجود لدى معظم حركات الإسلام السياسي. وكنتيجة حتمية انصاع النظام السوداني إلى خطط التكيف الهيكلي وخصخصة الاقتصاد التي شدد عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تم اتخاذ هذه الخطوة بلا جدول زمني، حينما أعلنت هذه الخطة في شباط/فبراير 1992 (4)، وقامت الحكومة ببرنامج خصخصة قاس استفادت منه بشكل أساسي النخب المسيطرة، وانسحبت الدولة بذلك من تقديم الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والبنى التحتية. ومن هنا ازداد عدد أفراد الفئات الاجتماعية المهمشة في أنحاء السودان.

الرابع: السعي نحو دور إقليمي يدعم فصائل الإسلام السياسي في دول الجوار عبر آلية المؤتمر القومي الإسلامي، فدعمت الخرطوم حزب الجهاد الإسلامي الاريتري، وحزب الاتحاد الصومالي الذي يطالب إثيوبيا بإقليم الأوغادين، كما تم استضافة زعيم القاعدة أسامة بن لادن في الفترة ما بين 1991 و 1996، وتورطت السلطة في إيواء عناصر من الجماعة الإسلامية المصرية حاولت تنفيذ محاولة اغتيال الرئيس المصري حسنى مبارك في حزيران/ يونيو 1995.

   وقد تفاعلت هذه العناصر السابقة لتصنع طبيعة موازين القوى التي تتحكم في النظام السوداني خلال التسعينيات من القرن المنصرم، وهي التي لم تكن في مصلحته بالتأكيد. ولكنه لم يدرك ذلك وقدم نفسه كمناطح للولايات المتحدة الأميركية بشعارات شعبوية يمكن أن تجذب العامة، لكنها لا تصنع نصرهم ضد مشروعات ما بعد الإمبريالية، والتي كانت العولمة إحدى أدواتها الأساسية.

 ثانيا- الشروط الأميركية للتعاون مع السودان

كانعكاس لتيار العولمة اتجهت السياسات الغربية عموما والأميركية خصوصا خلال عهد الرئيس الأميركي كلينتون (1993-2001 ) إلى وضع شروط لبرامج المساعدات الأميركية للدول الإفريقية، وتضمنت هذه الشروط مكونات الحكم الرشيد المرتبطة بالتغيير السلمي للسلطة وضمان تداولها عبر انتخابات نزيهة، إضافة إلى سياسات التكيف الهيكلي المؤدية إلى الانخراط في السوق العالمية وتحرير السلع والخدمات. وبطبيعة الحال تعارضت هذه الشروط مع أسلوب استيلاء جبهة الإنقاذ على السلطة في السودان. ويمكن القول إن لحظة التعارف والاكتشاف المباشر بين واشنطن والخرطوم تبلورت في حدثين، الأول: الإقدام على إعدام أحد عمال الإغاثة الأميركيين عام 1992من العاملين في مناطق معسكرات الجنوبيين، حيث دين بالتجسس لمصلحة "الحركة الشعبية" (5)، والثاني: إقدام حسن الترابي على تقديم مشروعه الإسلامي إلى العالم في واشنطن ولندن وكندا في النصف الأول من عام 1992، عقب جولة في واشنطن ولندن وكندا، والتي طرح في أثنائها في لندن ان الإسلام ضد الدولة القومية، وأشار في واشنطن إلى أن حرب الخليج الأولى قد استنهضت الرابطة الإسلامية، وبدا بذلك مناوئا للتحالف الدولي في الحرب على العراق التي ساهمت فيه بعض الدول العربية. وشدد على ضرورة الانجاز الكامل لمشروع العالم الإسلامي معتبرا إياه الطريق الوحيد الى النهضة، وهي معان كررها أمام لجنة إفريقيا في مجلس النواب الأميركي.

على أن تصنيف المشروع الإسلامي السوداني، بالمعطيات التي طرحها الترابي والممارسات الماثلة لنظامه، ساهمت، بدورها، في بلورة موقف الخارجية الأميركية من سلوك النظام السوداني الذي وصفته في عام 1992 بأنه "ممارسة لإرهاب الدولة"(6)، في وقت كانت منطقة شرق إفريقيا تحتل وزناً أعلى نسبياً في الاهتمام الأميركي مقارنة بباقي المناطق الإفريقية التي أخضعتها لشروط الدمقرطة والتكيف الهيكلي، وذلك بتفاعل عاملين:

 الأول: الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة بإطلالها على البحر الأحمر الناقل البحري للنفط الخليجي، وطبيعة المهددات الأمنية الناتجة عن انهيار الدولة في الصومال.

 الثاني: أن إفريقيا تحتل بؤرة اهتمام الأميركيين من أصل إفريقي (AFRO AMERICAN) باعتبارها القارة الأم، لاعتبارات تتعلق بتاريخ مظالم التمييز العنصري التي عانوها في الولايات المتحدة ذاتها، وان عليهم مسؤوليات أخلاقية بشأن مكافحة التمييز العنصري في إفريقيا وتعزيز فرص التنمية لسكانها.

ويملك هؤلاء جماعات ضغط ومصالح مؤثرة في النظام السياسي الأميركي، حيث يزيد عمر البعض منها على القرن. ونشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى "الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين" التي أسست عام 1909 وتضم في عضويتها نحو مليوني أميركي، و"منظمة دعم العمل الإفريقي" التي أسست عام 1953، و"جمعية البرلمانيين السود" التي تضم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الأميركيين الأفارقة (7).

مع اتضاح هوية نظام جبهة الإنقاذ الإسلامية في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وطبيعة مشروعها الإقليمي المهِّدد لحلفاء الولايات المتحدة، علاوة على فشل

محاولة الرئيس الأميركي جيمى كارتر في كانون الأول/ ديسمبر 1989 بدء مفاوضات سلام بين شمال السودان وجنوبه لإنهاء الحرب الأهلية، ومع وجود موروث تاريخي من التمييز العنصري مارسه العرب ضد الأفارقة (8)، استطاع جون غارانغ زعيم الحركة الشعبية في جنوب السودان توظيف هذه المعطيات كلها ليضمن دعماً أميركياً متزايداً لحركته، خصوصاً أن نظام جبهة الإنقاذ كان عقد اتفاقاً يعرف باتفاق الناصر عام 1991 مع المتمردين من القبائل الرئيسة المنافسة لقبيلة الدينكا، وهما رياك مشار من قبيلة النوير ولام أكول من قبيلة الشلك، ووعدت جبهة الإنقاذ في اتفاق الناصر بتطبيق حق تقرير المصير للجنوبيين، ولكنها تراجعت عنه ولم توافق على إقراره في مفاوضات أبوجا التي بدأت تحت رعاية الرئيس النيجيري إبراهيم بابنغيدا في أيار/مايو 1992.

 في هذا السياق نجحت الحركة الشعبية في إحداث تطور كيفي في طبيعة العلاقات الأميركية السودانية حيث تحولت واشنطن إلى لاعب أساسي في التفاعلات الشمالية ـ الجنوبية في ميدان مفاوضات السلام، وعلى صعيد التفاعلات بين حكومة الإنقاذ ومعارضيها أيضاً. ففي تشرين الأول/أكتوبر عام 1993 عقدت لجنة إفريقيا في الكونغرس الأميركي مؤتمرا تحت عنوان "السودان: الحرب المنسية" وهو المؤتمر الذي ساهم في إنهاء الانشقاقات على قيادة غارانغ وتوحيد القيادة الجنوبية تحت زعامته. وقد بلور هذا المؤتمر إعلان واشنطن الذي كان أهم نقاطه توسيع الاعتراف بحق تقرير المصير ليس في جنوب السودان وحده، بل ما سُمي المناطق المهمشة في جبال النوبة والأنقسنا، وهي التي نجح غارانغ في ضمها إلى عباءة الحركة الشعبية، في وقت كان يحظى بدعم التجمع الديمقراطي المعارض المؤلف من تكوينات حزبية شمالية.

من النتائج المباشرة لهذا التطور استحداث آلية إقليمية برعاية دولية لإنهاء الحرب بين الشمال والجنوب. وقد كانت منظمة التنمية ومكافحة التصحر في شرق إفريقيا "إيغاد" هي الآلية الفاعلة في هذا المجال حتى منتصف التسعينيات على المبادئ نفسها لإعلان واشنطن الذي رفضته حكومة الرئيس عمر حسن البشير.

وقد كان للمحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك سنة 1995 شأن في وضع مجلس الأمن السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب (9)، وهي الخطوة التي اتبعها الرئيس كلينتون (10)، بفرض عقوبات اقتصادية على السودان، تضمنت حظرا على تصدير التقنيات إليها، وتجميد أرصدة بلغت 4 ملايين دولار، ومنع استيراد الصمغ العربي الذي تعتمد عليه سوق النفط العالمية بنسبة 70%.

وقد كان للعزلة الدولية للنظام السوداني، وتصاعد الضغوط الأميركية عليه شأن مهم في دعم المعارضة السودانية وتمويلها المباشر (11)، ولعب الإطار الإقليمي المعادي للخرطوم دورا أساسيا في بلورة التوجهات السودانية في نحو آسيا. وبالفعل نجح هذا الخيار في تحويل السودان إلى دولة منتجة ومصدرة للنفط بحلول عام 1999، بمساعدة مباشرة من الصين (12).

أحداث أيلول/سبتمبر وانعكاسها على العلاقات الأميركية ـ السودانية

لعبت أحداث 11/9/ 2001 دورا مركزيا في إعادة هيكلة الاستراتيجيات الأميركية المرتبطة بالأمن القومي الأميركي، وقد تبلورت في ثلاث محددات هي: الحرب على الإرهاب، وتطوير مستوى الاعتماد الأميركي على النفط الإفريقي؛ وتعويق تقدم الصين في إفريقيا بشكل عام، وفي السودان بوجه خاص.

  وقد صاحب هذا التطور الاستراتيجي عدد من المتغيرات المؤثرة في الساحة الداخلية السودانية، وكذلك في النطاق الإقليمي. فسودانياً وقع انقسام في صفوف النخبة الحاكمة في كانون الأول/ديسمبر 1999وهو ما يعرف في الأدبيات السودانية بالمفاصلة بين قطبي الحكم : الرئيس عمر البشير وحسن الترابي. وقد كان لهذه المفاصلة ما بعدها من تغيير في توجهات النظام السوداني وعلاقاته الإقليمية والدولية. وفي سياق مواز برز توازن الضعف بين النظام السوداني ومعارضيه شمالا وجنوبا، فلم يحسم أي من الأطراف الصراع لمصلحته. وإقليميا اندلعت الحرب الاثيوبية ـ الاريترية (1998-2000) وهو ما أنتج إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية في شرق إفريقيا وهندستها لمصلحة النظام السوداني.

وفي ضوء محددات الإستراتيجية الأميركية الجديدة، تبلورت السياسات الأميركية من السودان في المحاور الآتية:

1- الاستفادة من الخبرات السودانية في تنظيم القاعدة

  شكلت حوادث الاعتداء على سفارتي الولايات المتحدة الأميركية في تنزانيا وكينيا في نهاية التسعينيات من القرن العشرين إنذاراً للولايات المتحدة الأميركية يشير إلى التفاعلات الجارية في شرق إفريقيا ومدى مسؤولية النظام السياسي السوداني عن هذه التفاعلات، وأقدمت الولايات المتحدة في هذا السياق على قصف مصنع الشفاء للأدوية في السودان على اعتبار أنه منتج لأسلحة كيماوية، وهو ما لم يقم أي دليل عليه، كما لم تثبت صحته.

وقد ساهمت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر في تحويل السودان إلى هدف استخباري أميركي، في ضوء الكلام على أن المؤتمر القومي الإسلامي لعب خلال التسعينيات، دور الرافعة الأساسية لتنظيم القاعدة الذي أعلن ظهوره في أفغانستان سنة 1998 بعد مغادرة أسامة بن لادن السودان عام 1996.

وفي هذا السياق تم عقد اجتماع لسفراء مجموعة الدول الإفريقية في أيلول/سبتمبر 2001 طالبت فيه الإدارة الأميركية بتعاون الحكومات في محاربة الإرهاب. وقد أعلن السودان استعداده للتعاون في هذا المجال، وبالفعل قدم خدمات هائلة كشفت بعض ملامحها صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في حزيران/يونيو 2007 نقلا عن مسؤولين في جهاز المخابرات الأميركي تحدثوا عن ان مستوى التعاون وصل إلى حد العمليات المشتركة في دول عربية (13).

2- الإسراع في عملية السلام بين الشمال والجنوب

 استقر التقدير الأميركي على أن الصراعات المسلحة في أفريقيا تشكل بيئة مثالية لفتح مجالات العمل أمام تنظيم القاعدة. وفي هذا السياق تم قبول توصيات من لجنة الحريات الدينية الأميركية بتعيين مبعوث أميركي إلى السودان، وهو ما يفسر كون المبعوث الأول جون دانفورث قساً يقوم بتقديم تقارير عن كيفية حل مشكلة الحرب الأهلية والتوصية بالضغط على الحكومة(14).

وفي سياق مواز أنجز مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية CSIS في واشنطن دراسة مولها معهد السلام الأميركي عن سلام السودان وساهم فيها بشكل رئيس المفكر السوداني الجنوبي فرنسيس دينغ(15).

ويمكن ملاحظة أن منهج التعامل الأميركي في الحالتين كان يركز على التجزئة والتفتيت، وقدم مبادرات مهمة في هذا السياق من تقاسم الثروة والسلطة إلى تجزئة الحلول مابين جنوب السودان والمناطق المتاخمة. ويبدو أن هذا المنهج كان مطلوبا في ذاته لإنجاح المحور الثالث من الإستراتيجية الأميركية وهو الحصول على النفط طبقا لتوصية مجلس الطاقة الأميركي الذي أوصى في تقرير حديث عنوانهAfrican Oil Policy Initiative بأن المطلوب رفع مستوى الاستهلاك الأميركي من النفط ليصل إلى 25% من الإنتاج اليومي بحلول عام 2015، أي ما يساوى 5 ملايين برميل يوميا. وتحقيق هذا الهدف يتطلب التعامل مع سلطات محلية مجزأة ومرتهنة إرادتها السياسية لشركات النفط.

ويمكن القول إن التطبيقات الأميركية لهذه الاستراتيجيات تجلت في تطورين هما: اتفاقية نيفاشا للسلام المعقودة بين شمال السودان وجنوبه والموقعة في كانون الثاني/يناير 2005، والسياسات الأميركية في أزمة دارفور، وهي التطبيقات التي ساهمت في تغيير شكل السودان، وأحدثت انقلابا في البيئة الجيوسياسية في منطقة شرق إفريقيا ووسطها.

وإذا كانت نيفاشا انجازا للفاعل الرسمي أي الحكومات الأميركية والأوروبية وطرفي الصراع السوداني، فإن أزمة دارفور قد استحدثت فاعلا غير رسمي، وهو منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في تحويل موقف الإدارة الأميركية من فكرة دعم وحدة السودان حتى نهاية عام 2008 إلى الضغط من أجل استفتاء يفضي إلى انفصال جنوب السودان عن شماله. ومن المتوقع أن تستكمل أدوارها بإقرار حق تقرير المصير لدارفور، الأمر الذي سيفضي بدوره إلى الانفصال. وفي السياق التالي نعرض تفصيلات التطبيقات الأميركية لمنهج التجزئة.

3- اتفاقية نيفاشا وطبيعة الدور الأميركي

لعبت اتفاقية السلام الشامل المعروفة باتفاقية نيفاشا دوراً حاكما في تغيير الأطر الدستورية والقانونية للدولة السودانية من حيث الاعتراف بالتنوع السوداني وإدارته طبقا لهذه الاتفاقية، وتغيير نمط الحكم لينطوي على حكم ديمقراطي، وفتح المجال أمام تغيير حدود الدولة باستفتاء في شأن تقرير المصير للشعب السوداني في الجنوب الذي جرى في كانون الثاني/يناير 2011. وقد تطلبت هذه الاتفاقية تغيير الدستور القومي للبلاد، واستحداث حكومة جنوب السودان خلال الفترة الانتقالية ليكون لها السيادة المطلقة على الولايات الجنوبية، بعد انسحاب القوات المسلحة السودانية والعمل على ترتيبات لاقتسام الثروة بين الشمال والجنوب.

وفيما يتعلق بآليات التحول الديمقراطي فإن الاتفاقية حددت أساليب التحول عبر إجراء تعداد سكاني شامل في موعد أقصاه السنة الثانية من الفترة الانتقالية، أو انتخابات مراقبة دولياً في نهاية السنة الثالثة(16).

وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية قد نجحت في إنهاء أطول حرب في إفريقيا، إلا أنها تجاوزت حقائق على الأرض هي أن طرفي الاتفاقية لا يمثلان المعادلة السياسية في السودان، لا في الشمال وفي الجنوب. كما يؤخذ على هذه الاتفاقية الالتباس والغموض في مفاصل مهمة منها ما يتعلق بمستقبل منطقه أبيى الغنية بالنفط، وتدشين أساليب غير مطروقة في المنطقة كالمشورة الشعبية لحسم مصائر المناطق المتاخمة للجنوب، كما كان المخطط التاريخي الغربي لأفرقة السودان.(17)

 وكان لوجود داعم للحركة الشعبية في أوساط اليمين الأميركي على أسس من الانحياز الديني شأن أساسي في حصول الجنوب على نصيب في سلطة الشمال يتجاوز مطالباته التاريخية في السلطة (18).

وإزاء هذه السلبيات الأساسية في اتفاقية نيفاشا فقد تم الاعتماد على أمرين الأول: آلية الانتخابات لتمكين القوى السياسية المهمشة من التمثيل في الاتفاقية وإعادة ترتيب المعادلة السياسية، والثاني: اعتماد منهج الدمج الوظيفي بين الشمال والجنوب في محاوله تأسيس وحدة طبقا لاختيار طوعي للجنوبيون في استفتاء تقرير المصير عام 2011 (19).

وقد شهدت الفترة الانتقالية الممتدة بين الأعوام 2005 و2011 صراعا للإرادات السياسية بين الشمال والجنوب، كما خلقت أزمة دارفور وطبيعة التدخل الدولي فيها استقطابات سياسية جديدة، فتم تجاوز الاتفاقية وأطرها القانونية الممثلة في إجراء إحصاء سكاني نزيه ممثل لكافة الأعراق في مناطقها، وإقامة انتخابات نزيهة. ويمكن القول إن صراع الإرادات السياسية في سياق حكومة الوحدة الوطنية السودانية قد نتج عن عدة عوامل منها أن الأطراف الشمالية قد شعرت بالخديعة من الجانب الأميركي الذي حث الشماليين على تقديم تنازلات على مائدة المفاوضات الجنوبية مقابل تهدئة أزمة دارفور المندلعة عام 2003.

كما لعبت أزمة دارفور وتداعياتها مثل المحكمة الجنائية الدولية دوراً في اختلال موازين القوى الداخلية بين طرفي حكومة الوحدة الوطنية، وهكذا تمتع الجنوبيين بوزن نسبي أعلى. لكن الإشكالية التي برزت هي وجود مصالح جنوبية تتمثل في استمرار حزب المؤتمر الوطني على الرغم من ضعفه، شريكا خلال الفترة الانتقالية المقررة بست سنوات باعتباره الطرف الموقع على اتفاقية نيفاشا، وأن هذه الاتفاقية لن تكون ملزمة - في ضوء الخبرة التاريخية - لأي من الأطراف الشمالية الأخرى المستبعدة منها. في هذا السياق تم القبول بإحصاء سكاني وانتخابات برلمانية ورئاسية ترقى إلى المعايير الدولية.

إن أهم النتائج الناجمة عن اتفاقية نيفاشا وما أسسته من مناهج التجزئة وترتيبات اقتسام الثروة والسلطة، هي اندلاع مطالبات جهوية وعرقية في شرق السودان وغربه، حيث نصت الاتفاقية على أن تحوز الحركة الشعبية السلطة المطلقة في الجنوب، ثم على 28% من سلطات الحكم في الشمال، فيما يحوز حزب المؤتمر الوطني على 52% من السلطة في الشمال وتوزع باقي النسبة على القوى في الشمال والجنوب بنسب 14% و6% على التوالي. وطبقا لهذا الترتيب وجدت الأحزاب التاريخية السودانية نفسها ممثلة بنسب لا تتوافق مع آخر انتخابات ديمقراطية جرت في السودان، كما بدت مناطق شرق السودان وغربه غير حائزة أي مكاسب من هذه الاتفاقية وتم تهميشها بالكامل (20).

وإجمالا يمكن النظر إلى اتفاقية نيفاشا على أنها أنهت حربا أهلية ممتدة، وخلقت سلاما قد يكون موقتاً طبقاً للتفاعلات الراهنة، ولكنها في المقابل خلقت حالة من التوتر السياسي والاجتماعي في السودان بتجاوزها المعطيات الواقعية في هذا البلد، والإمكانات المتاحة لمصالحة شاملة يمكن أن تنتج أطراً دستورية وقانونية أكثر تماسكا وقدرة على الاستمرار طبقا للنماذج المطبقة في العديد من دول العالم الثالث، والتي أنجزت بمعزل عن المخططات الأميركية في التجزئة، كما حصل في جنوب إفريقيا والهند، وماليزيا.

التفاعل السوداني الأميركي في أزمة دارفور

اندلعت أزمة دارفور بعد تفاعل عدد من العوامل الداخلية منها الصراع على السلطة الذي نشأ في الخرطوم جراء الانقسام في صفوف جبهة الإنقاذ السودانية عام 1999في إطار الجبهة القومية الإسلامية، علاوة على التهميش التنموي التاريخي في إقليم دارفور تحت مظلة اتساع ظاهرة الجفاف وما خلفته من صراعات على مورد المياه بين نمطي الإنتاج الزراعي والرعوي، وأيضا المعالجات المحلية لهذه الأزمة التي قام بها حزب المؤتمر الوطني، والتي ارتكزت على توسيع العمليات العسكرية ضد التمرد الدارفوري، وإهمال الحلول القومية للأزمة، وهي معاجلة أنتجت تطورين أساسين، الأول: أزمة إنسانية ممتدة لنحو 2 مليون من البشر هجروا قراهم وهربوا إلى معسكرات اللاجئين في داخل السودان وخارجه على مدى السبع سنوات الماضية، فضلاً عن ممارسات خارج القانون كالقتل والإحراق الواسع للقرى. والثاني: تدخل دولي مستند على مبدأ أقرته الأمم المتحدة وهو التدخل لأسباب إنسانية Humanitarian Intervention كان الجانب الأميركي أبرز اللاعبين بأدوات رسمية وغير رسمية. ولعل قول الرئيس بيل كلينتون أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1999 " ان على الدول ألا تعتقد أن سيادتها الوطنية ستمنع المجتمع الدولي من وقف الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان"(21) مؤشر على طبيعة السياسات الأميركية في هذا السياق. وفي هذا المجال نلاحظ العاملين التاليين:

أ - الفاعل الرسمي الغربي في أزمة دارفور

شكلت الكارثة الإنسانية في دارفور التي بدأت معالمها في الوضوح مع مطلع سنة 2004 معطيات ملائمة للسياسات الدولية المتجهة نحو اعتماد منهج التدخل لأسباب إنسانية، وهي السياسيات التي حظيت بدعم أميركي. وكانت محصلة هذا المنهج إصدار مجلس الأمن الدولي 11 قراراً في شأن السودان خلال عشرة أشهر منذ حزيان/ يونيو 2004 وحتى كانون الأول/ديسمبر 2005 (22)، بينما كان معدل القرارات اثنين سنويا خلال الأعوام 2006 ـ 2009، وهي القرارات التي اعتمدت آليات الضغوط والتلويح بالعقوبات ثم محاكمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وقد اعتمدت هذه القرارات على إحلال القوات الدولية في محل قوات الاتحاد الإفريقي عام 2007 بعد أن تم تحجيم قدرات الأفارقة بالامتناع الدولي عن تمويل إتحادهم، فلم يتجاوز التمويل الأميركي حاجز الـ40 مليون دولار في سنتي أزمة دارفور (2004 ـ 2005)، كما تقاعس الأوروبيون الذين كانوا قد وعدوا بتمويل الاتحاد بـ 80 مليون يورو عن الايفاء بوعودهم (23).

وقد ساهم في تحقيق هذا النجاح تزامن الحملة الانتخابية للرئيس بوش الابن عام 2004 مع تكوين تحالف Save Darfur، حيث تم توظيف أزمة دارفور كورقة انتخابية في إطار الحملة الهادفة إلى الحصول على أصوات الأميركيين من أصل إفريقي، وذلك بإعلان التعهدات بمناصرة الدارفوريين من القارة الأم حتى لو تطلب الأمر الحل العسكري، وهو منهج نجده مستمرا في الحملات الانتخابية الأميركية اللاحقة، حيث أصدر المرشحون الثلاثة عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي (أوباما وماكين وكلينتون) تعهدات بالمعنى نفسه في أثناء حملتهم الانتخابية عام 2008 (24).

في هذه الأجواء سقطت التفاهمات بين الخرطوم والأمم المتحدة التي أبرمت في مطلع تموز/يوليو 2004، حيث تعهد السودان نزع سلاح ميليشيا الجنجويد التي استخدمتها الحكومة السودانية في مرحلة مبكرة في العمليات العسكرية في دارفور، وتقديم المتورطين من عناصر هذه الميليشيات إلى المحاكمات المحلية خلال 90 يوما، إضافة إلى تسهيل العمل الإغاثي والإنساني.

إن سقوط هذه التفاهمات فتح الطريق أمام تصاعد الضغوط على السودان إلى حد التلويح بورقة التدخل العسكري الخارجي في نهاية تموز/يوليو 2004 في قرار مجلس الأمن رقم 1556، والذي تسبب في انقسام المجلس، بعدما وصل عدد الرافضين للعقوبات إلى سبع دول (25)، وكانت المحصلة عدم إقرار العقوبات، المجلس هدد بفرض عقوبات في غضون ثلاثين يوما إن لم تقم حكومة السودان بإنهاء "الفظاعات" في إقليم دارفور، والوفاء بالتزاماتها في شأن نزع أسلحة ميليشيا الجنجويد واعتقال قادتهم "الذين قاموا بالتحريض على ارتكاب انتهاكات وتقديمهم إلى العدالة"(26).

وقد تبنى قرارا مجلس الأمن 1591 و 1593 الصادران في نهاية آذار/مارس رغبة الإدارة الأميركية والكونغرس في فرض وصاية دولية على السودان وحظر الطيران الحكومي فوق دارفور إلا بإذن من الأمم المتحدة، وتقديم 51 من المشتبه في قيامهم بالتحريض أو ممارسة جرائم ضد الإنسانية في دارفور إلى المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (27).

على أن التطور الأهم في قرارات مجلس الأمن الدولي هو صدورها بالاعتماد على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يبيح استخدام القوه العسكرية ابتداء من القرار 1564(28). وكانت المحصلة النهائية في هذا التدخل الدولي اعتماد وجود قوات للأمم المتحدة تقدر بـ 26 ألف عنصر طبقا للقرار 1769 مع عدم وجود تسوية سياسية للأزمة التي اتخذت مسارات أكثر تعقيداً.

مع وجود القوات الدولية في دارفور وتغير الإدارة الأميركية في مطلع عام 2009 تحسنت البيئة الأمنية في دارفور، وسعت الإدارة الأميركية لحل سياسي للأزمة من خلال توظيف منبر الدوحة التفاوضي الذي كانت أقرته جامعة الدول العربية كآلية للدفع نحو حل سياسي، وهي جهود مازالت فاشلة وبلا نتائج، حيث فشل المبعوث الرئاسي الأميركي في إلحاق الفصائل الدارفورية بالمعادلة السياسية الراهنة عبر ما أطلق عليه أتفاق الدوحة الإطاري الذي تم توقيعه في شباط/ فبراير 2010(29).

ب- الفاعل غير الرسمي

في العقود الثلاثة الأخيرة أخذ مفهوم المجتمع المدني حيزاً مهماً في الأدبيات السياسية، وارتبطت مكانته في الفضاء العام للدولة بالتحولات الديمقراطية فيها، ونشأت علاقة جدلية بين تطور المجتمع المدني وتطور الحالة الديمقراطية، وبين نكوصهما، فإذا حققت الدولة شروط ديمقراطيتها من حريات عامة وتداول سلمي للسلطة ونزاهة للعملية الانتخابية، قويت منظمات المجتمع المدني وتجذرت وتعاظمت أدوراها، والعكس صحيح.

ويخضع تعريف منظمات المجتمع المدني إلى مرجعيات متعددة ثقافية وتاريخية وفكرية وأيديولوجية. وسأعتمد هنا تعريف البنك الدولي الذي يرى المجتمع المدني على أنه "تلك المجموعة الكبيرة من المنظمات غير الحكومية والمنظمات التي لا تهدف إلى الربح، والتي تمارس نشاطها في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات أعضائها أو الآخرين وقيمهم". ويشير مفهوم منظمات المجتمع المدني ـ بحسب البنك الدولي ـ إلى مجموعة من المنظمات تضم جمعيات المجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية والنقابات العمالية والجمعيات الخيرية والمؤسسات. وأضيف إليه مفهوم غرامشي للمجتمع المدني الذي يصفه بأنه وجود خاص خارج نطاق الدولة، مع كونه على علاقة جوهرية بها، فهو يشكل مع الدولة ما يعرف بالمنظومة السياسية في المجتمع بأحزابه ونقاباته.

هذه التشكيلة الواسعة من الفاعليات الاجتماعية استطاعت جماعات المصالح الأميركية توظيفها على نحو ناجح للغاية ضد السودان، بسبب طبيعة النظام السياسي الأميركي الذي يتيح لهذه الجماعات التأثير على الأطر التشريعية والتنفيذية الأميركية، إضافة إلى وجود غطاء دولي للتدخل لأسباب إنسانية. وطبقا للتقديرات الأميركية فإن أقوى جماعات المصالح في واشنطن هي الجماعات اليهودية التي يبدو أنها نفذت إستراتيجية إسرائيلية في الأساس معنية بدراسة التكوينات العرقية والانقسامات الدينية في البلدان العربية وتوظيفها في عمليات عدم الاستقرار الداخلية لهذه البلدان(30).

انطلقت ردة الفعل الغربية على هذه الكارثة الإنسانية من لجنة الضمير في متحف الهولوكوست في واشنطن الذي يرئسه جون فاولر بالتعاون مع عضو اللجنة اليهودية الأميركية روث مسنغر، اللذان تحدثا عن إبادة جماعية في دارفور(31). وهي الجهود التي نجحت في عقد اجتماع في جامعة سيتي في نيويورك في 14 تموز/يوليو 2004 أسفر عن إنشاء تحالف Save Darfur الذي تنشط فيه حالياً 192 منظمة أميركية ودولية (32).

وطبقا لإعلان نشرته المنظمة عام 2007 للبحث عن مدير جديد لها فإن المنظمة تصف نفسها بأنها المنظمة الأكبر في دعم دارفور حيث تصل ميزانياتها إلى 14 مليون دولار سنويا وبشبكة إلكترونية تزيد على مئة مليون شخص متضمنة مليون ناشط. وهذه الأموال مخصصة، طبقا للأهداف المعلنة للتحالف، للعمل كجماعة ضغط على الحكومة الأميركية والكونجرس (33) لاتخاذ سياسات تتفق مع تكييف منظمة Save Darfur للصراع في الإقليم وآليات حله.

ويمكن القول إن هذا التحالف نجح بالفعل على نحو إيجابي في لفت أنظار العالم إلى ما جرى في دارفور وإلى طبيعة الأزمة الإنسانية الناتجة عن التمرد وردات الفعل الحكومية عليه. ولكن مشكلة هذا التحالف الرئيسية هي عدم إلمامه بظروف الإقليم أو تاريخه من ناحية، أو اعتماده استراتيجيات مؤسسة على مفاهيم مغلوطة مثل اعتماد مفهوم الإبادة الجماعية لتعريف ما جرى في دارفور ووصفه بأنه مماثل لما جرى في رواندا عام 1994، والمطالبة بالعدالة الجنائية الدولية ضد المسؤولين عن الانتهاكات كآلية مطلقة ووحيدة لحل أزمة دارفور. ولعل خطأ هذه الاستراتجيات هو المسؤول عن دفع الأزمة إلى مستويات من التعقيد على الصعيدين السياسي والإنساني. وتوجد في دارفور حاليا أكبر بعثة دولية بتكاليف باهظة، لكن من دون اتفاق سلام يمكن حمايته على الأرض، وهو الأمر الذي لم يمنع الصراع المسلح في دارفور من نقله من مستوى صراع ثنائي بين الحكومة والفصائل المسلحة إلى صراع بين الفصائل المسلحة كحالة جنينية تشبه ما يجرى في الصومال حاليا(34). وهناك شهادات سودانية من أشخاص يمكن وصفهم بالمستقلين يروون قصصاً عن الرشاوى التي يدفعها بعض أفراد قوات الأمم المتحدة للفصائل المتناحرة في دارفور لضمان السلامة (35).

ويبدو أن الإدارة الأميركية الراهنة قد أدركت حجم الأزمة التي تسببت فيها الاستراتجيات الخاطئة لجماعات الضغط المتعلقة بدارفور، فلم يسفر اعتماد مفهوم الإبادة الجماعية المؤسس على قرار الكونغرس الصادر في تموز/يوليو 2004 عن تقدم يذكر في الأوضاع على الأرض في دارفور. من هنا تم الإعلان عن إستراتيجية أميركية إزاء السودان في تشرين الثاني/نوفمبر 2009 على لسان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ذكرت فيها قيام الإدارة الأميركية بمراجعات مهمة إزاء السودان تستبعد الركون إلى آلية الضغوط التي كانت متبعة سابقا، وتقدم محفزات لتحسين الأوضاع على الأرض في دارفور، كما تعرضت أيضا للملفات الأخرى العالقة في العلاقات الأميركية السودانية (36). وقد أكد هذه الأمور الجنرال SCOTT GRATION المبعوث الأميركي إلى السودان في اجتماع مغلق مع الفصائل الدارفورية عقد في معهد السلام بواشنطن في 25 ـ 26 كانون الثاني/يناير 2010 قال فيه إن الإدارة الأميركية تولي اتفاقية السلام الشامل أولوية مطلقة، وأن مساندة الرأي العام الأميركي لأزمة دارفور سوف تتحول إلى مساندة دولة جنوب السودان المنتظر ولادتها في كانون الثاني/ يناير 2011، ولعل هذا الموقف لمبعوث الرئيس أوباما إلى السودان كان وراء البيان الذي أصدرته 36 منظمة سودانية في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية تطالب بإقالة المبعوث الرئاسي الأميركي إلى السودان من منصبه (37)، وهو البيان الذي تبناه مشروع Enough وهو أحد المنظمات الأساسية في تحالف Save Darfur.

وطبقا لهذه التوجهات تحول الاهتمام الأميركي نحو جنوب السودان للضغط في سبيل التزام موعد استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان بحسب اتفاقية نيفاشا، على الرغم من عدم الاتفاق على القضايا العالقة بين الأطراف الشمالية والجنوبية بموجب قانون الاستفتاء، وهي قضايا تشمل تقسيم الموارد والأصول والديون وكذلك قضايا الحدود، وجميعها مثيرة للقلق، وقد تتسبب في تفاعلات مستقبلية سلبية تنطوي على إمكانات عدم الاستقرار جنوبا وشمالا.

وفي الوقت الذي بات فيه انفصال جنوب السودان محسوماً، أقدمت الإدارة الأميركية على خطوتين تعدان من المؤشرات الأساسية على طبيعة الدور الأميركي في السودان على المستوى المنظور، فقد تم تعيين مبعوث أميركي جديد إلى دارفور، وعرض السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي قانون سلام السودان واستقراره في تشرين الأول/أكتوبر 2010(38)، وهو القانون الذي يضع نوعاً من أنواع الوصاية الأميركية الناعمة على السودان. وفي تطور مواز أنجزت الفصائل الدارفورية نوعاً من التفاهم أسفر عن اندلاع العمليات المسلحة على نطاق واسع في دارفور. ما يعنى أن الساحة مهيأة لفصل جديد من فصول الأزمة السودانية.

خاتمة

إن التناول السوداني الجزئي للأزمات الداخلية والمعالجات الأمنية والعسكرية لمشكلات الهوية والصراع على الموارد، ساهم، ذلك كله، في تنوع أدوات الفاعل الأميركي وفي ازدياد قدراته في التأثير في مجريات الأزمة السودانية بما يحقق مصالحه الإستراتجية المناهضة بالضرورة لمصالح السودان ومحيطيه العربي والإفريقي.

كما أن تدويل الأزمة السودانية وغياب الدور الإقليمي العربي والإفريقي بإرادة ذاتية تفتقد أحيانا إلى الأدوات، وبضغوط أميركية أحيانا أخرى، يفتحان السودان وغيره من دول الجوار العربي والإفريقي على مخاطر التجزئة والتقسيم، وهو ما يعنى إجمالاً وجود مهددات إستراتجية شاملة في النطاقين العربي والإفريقي.

---------------

  المراجع

  1. المحبوب عبد السلام " الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء خيوط الظلام"، دار مدارك، القاهرة: 2010، ص ص
  2. نجلاء مرعي، السياسة الأميركية تجاه السودان 1989، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية 2006، ص 180.
  3. مصطفى البطل، جريدة الأحداث السودان،
  4. نجلاء مرعي، مرجع سابق، ص 187.
  5. نجلاء مرعي، مرجع سابق، ص 158.
  6. Robert O. Collins، "تاريخ السودان الحديث" (ترجمة مصطفى الجمال)، القاهرة: المركز القومى للنشر، 2010، ص 237 ـ 238.
  7. US. Senate committee on Foreign Relation
    http://foreign.senate.gov/press/chair/release/?id=202a7a65-89c3-4754-9a05-65d9e985ebd5 
  8. الخطاب الافتتاحي الأعمال القمة العربية الإفريقية، ليبيا، سرت، 9-10 تشرين الأول/أكتوبر، 2010.
  9. SUCURITY CONCEL S\RES - 1044-1054-1996
  10. The Emergency Economic Powers Act، Nov،4،1997
  11. قامت مادلين اولبرايت بجولة إفريقية في دول حوض النيل وأعلنت عن دعم المعارضة السودانية الشمالية بـ 3 ملايين دولار، كما تم تسليم مقر السفارة السودانية في أسمرا الى المعارضة السودانية.
  12. مجدى صبحى، "النفط وإنهاء الحرب الأهلية فى السودان"، مجلة السياسة الدولية، أكتوبر، 2002.
    Greg Miller and Josh Meyer،los Anglos، Times، June 11، 2007
  13. http://articles.latimes.com/2007/jun/11/world/fg-ussudan11
  14. http\\www.uscirf.gov\index.php?option_content&view=article&id=814ـ
  15. Francis Mading Dang, sudan at the Brink, Fordham University Press, 12.
  16. نصوص اتفاقيه السلام الشامل، نيروبى كينيا، 9 يناير 2005، ص 19.
  17. أمانى الطويل، "العلاقات المصرية السودانية،1953-1970"، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة عين شمس، 2003.
  18. بهاء الدين مكاوى محمد، " تسويه النزاعات في السودان: نيفاشا نوذجا"، مركز الراصد للدراسات، الخرطوم: نوفمبر 2006،ص 334-340.
  19. المرجع السابق، ص 21.
  20. الصادق المهدي رئيس الوزراء السودانى الاسبق ورئيس حزب الامة، محاضرة فى مركز دراسات الشرق الاوسط، القاهرة، 10/6/2008.
  21. http://www.un.org/ar/documents/charter/pp 265-267
  22. قرارات مجلس الامن 1547، 1556، 1564، 1574، 1585، 1588، 1590، 1591، 1593.
  23. Middle East newspaper, London, March 18th, 2004
  24. El Hala newspaper, London, 29/5/2008
  25. Alhayat newspaper, London, July 20th, 2004 26
  26. نص قرار مجلس الأمن رقم 1556.
  27.  The Arabic Strategic Report, 2005-2006, pp 21-39
  28. قرار مجلس الامن S / RES / 1564.
  29. Scott Gartion, March 3/2010, Department of State, Special Press Briefing, Washington DC.
  30. أنجز مركز موشى دايان للأبحاث بإسرائيل العديد من الدراسات عن التكوينات العرقية للبلدان العربية ومنها العراق والسودان ومنطقة المغرب العربي. ويشار فى هذا السياق الى تصريحات مسؤولي المخابرات الإسرائيليين عن الإستراتيجيات الإسرائيلية فى تقسيم السودان لأن لديه معطيات كامنة للقوة. 
  31. Mahmood Mamdani, saviours and survivors: Darfur, politics, and the war on Terror, New York, Pantheon Books, 2009, p37.
  32. http://www.savedarfur.org/pages/members. viewed in April 13th,2010
  33. Mamdani ibid p36.Alex De Waal, War in Darfur and the search of Peace, MA, Global
  34. Equity Initiative, Harva, Cambridge rd UN،PP
  35. http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2010/02/100210 _am_darfur_celebrities_tc2.shtml
  36. Fesal Mohamed Saleh, Al Akbar news paper,
    Kharetoum, June 27th, 2009.
  37. http://www.state.gov/secretary/rm/2009a/10/130686.htm showed November 26th, 2009.
  38. Enough - Sudan activists, call for special Envoy removal, February 19th, 2010.
  39. 111TH CONGRESS،2D SESSION، Sudan Peace and Stability 39- Act of 2010.10122010pdf