صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب لنادر سراج بعنوان صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية، قدّم له رمزي بعلبكي. ويقع الكتاب في 432 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
صرخة الغضب، في تقصيه المنهجي والعملي لمفهوم "خطاب الهامش" وآليات اشتغاله، يتنزّل في مجالَي تحليل خطاب الشعارات وتأصيل بلاغة جديدة. وقد أظهرت المضامين (الهتافات، والمدونات، والشعارات، والكتابات الجدارية)، أن الهامش أضحى اليوم متنًا بقدر ما أمسى الجدار نصًا، لما تنطوي عليه الساحات العربية من فيض بلاغي مبتكر ومستظرف، وسَمَ درر البلاغة الشعبية من الكلام الاعتراضي.
الإشكالية التي يرتكز إليها الكتاب، وينطلق منها ليرسمَ فرضيات ويطرح أسئلة محقّة، تتمحور على نحوٍ رئيس حول الكيفيات والآليات التي اكتنفت حضور المكوّن اللغوي، بمستوياته التداولية وبوظائفه الإقناعية والبلاغية والإبلاغية، في مفاصل هذه الانتفاضة الشعبية العارمة ومثيلاتها.
فهل مكّنت مستويات التداول اللغوي مستعمليها من توظيف منطقها واستثمار مخزونها المفرداتي، والاستعانة بتراكيبها وصورها البلاغية، لصوغ مطالبهم وبلورة أفكارهم، وإبلاغ رسائلهم لمن يهمه الأمر؟ وهل استوعب ناشطو خريف الغضب اللبناني دروسًا حراكية سابقة (2005 و2015-2016)، فعدّلوا الأشرعة، وبسّطوا خطاباتهم، وحدّدوا وجهاتهم، كي يفلحوا في مسعاهم التغييري؟ وهل بيّنت التغذية الراجعة لرسائلهم أنهم نجحوا هذه المرة في مخاطبة "الشارع" المنتفض بلغةٍ تشبهه، وتحترم ذكاءه الاجتماعي، وتحاكي أحلامه، وتنفّس عن غضبه وسخطه، وتشرح له أسباب ما يدور من حوله وأهدافه؟ أسئلةٌ واجبة الوجود نعاود طرحها علّنا نستشرف والقرّاء إجاباتٍ وافيةً ومقنعة عنها.
جديد كتاب صرخة الغضب أنه يطمح إلى إثبات فرضية بحثية، مفادها أن التبدّلات التي شهدتها مجتمعاتنا العربية المنتفِضة، بساحاتها المشرَّعةِ الفضاءات، أكّدت أنّ اللغة والشارع اللذين لطالما كانا من قوى الثبات عدّلا أشرعتهما بفعل الحراكات والانتفاضات "الربيعية" المتنقّلة، وطوّرا وظائفهما؛ فالتزما قدر الإمكان جانب قوى الحراك وأهله، وأضحيا لسانَ حال اللائذين بهما. تحاورا وتآزرا لإيصال الصوت وإبلاغ الرسالة ورفع المطلب، وإدانة الفاسدين كل الفاسدين. خرجت بلاغة اليوم من عليائها، ونفضت ثوب تقليديتها لتلامس مواجع الناس، وتتكلم لغتهم وتنطق باسمهم.
لبنانُ واحدٌ من هذه المجتمعات/ الساحات التي تستحق دراسةً استقصائية وتحليلية لمجمل نتاجاته القولية الاعتراضية. بناءً عليه، فالفرضية قوامها أن لسان الضاد أثبت قوّته الإنجازية على أرض الواقع، إن في الصيغ الاعتراضية، أو في الأشكال الاحتجاجية المبتكرة، أو في النشاطات الإبداعية المصاحِبة، بما فيها الأغاني والأناشيد والأهازيج المعدّلة.
ومن خلال دراسة تفكيكية لمنظومة الشعارات، أقدرَ مستعمليه على أن يعبّروا بجلاءٍ وشفافية عن الروح المتحفّزة عندهم، باعتماد بلاغة شعبية متعددة الوظائف وبيِّنة المقاصد. حافظ على ثوابته وأساسياته، وحسّن أساليبه وبسّط مفرداته وطوّع أشكال الصوغ والكتابة والمشافهة وصيغها وأنساقها، واستعان بها في مختلف سياقات التخاطب والتداول، ليبلغ مقاصده عند جمهوره العريض. فنجح في ترسيخ معالم وعي مجتمعي طليعي لدى جمهور الشباب العرب، المنتفضين على تسلّط الأنظمة، والمعترضين على فساد المؤسّسات ونهب الأموال العامة.
لغةُ الشعار الاحتجاجي المرفوع في لبنان، والقوّة الإنجازية التي قد تنتج من تغذيته الراجعة، والنظر في أدواره المتجددة صوغًا وتركيبًا ودلالةً وإيقاعًا، فضلًا عن استجلاء أوجه البلاغة الجديدة ومساراتها التي طبعت النتاجَ الشعاراتي التشريني كلًا، تشكّل مجتمِعةً فرضيةَ الدراسة. ونخمّن أن من شأن ائتلاف هذه العناصر معًا تجديد النظر إلى المنظومة اللغوية مطلع الألفية الثالثة، الأقدر على تمكين أهلها من المطالبة بحقوقهم، وممارسة السياسة فعلًا تغييريًا ديمقراطيًا، ومسارًا إصلاحيًا حقيقيًا.
ومن الفرضيات الإضافية واحدةٌ ترى أنّ في مقدور الجمهور العريض المتلقي وعيَ أهمية المكوّن اللغوي في ثقافة الاحتجاج، وإعادةَ ترتيب أولويات عمرانه واجتماعه. تعزّز هاتان الخطوتان نمط رؤيته ذاتَه والعالم، وترصدان مكامن القوّة ومظاهر الدينامية في استراتيجيات تواصله مع الآخر.
وثمّة فرضيةٌ أخرى تتّصل بدورٍ مفترَض للساحات في تفاوت تأثير دور الخطابات الاحتجاجية في مدن عربية شهدت حراكات "ربيعية".
وقد درس المؤلف في صرخة الغضب ضمن خمسة أقسام خطاب الغضب والشعارات المبتكرة، وحرص في القسم الأول مثلًا، الذي أفرده لطرح الإشكالية والعلاقة بين البلاغة واللسان والجتمع، على توضيح مفهوم "البلاغة الاعتراضية، وخاصة في الفصل الخامس المعنون: "البلاغة الاعتراضية تجدد ذاتها والشارع الغاضب ملهمها". وتناول في القسم الثاني "الشعار تركيبًا ووظيفة بعيون اللسانيات والبلاغة"، دارسًا أحوال الفاعلين الاجتماعيين ولغتهم وكذلك العلاقة بين اللغة والعنف. ثم درس، في القسم الثالث "المجازات والشفرات مدخلًا لإدراك العالم"، الاستعارات الدلالية التي وظفها الشارع لتخدم الشعارات المتنوعة، فعاين كل هذه الرموز السيميائية المتفرقة. وفي القسم الرابع "البلاغة تتقصى شعارات الغضب اللبناني"، عاين صور البلاغة الشبابية في ابتكار الشعارات وخرق المحرمات وعالج مفهوم "البلاغة المضادة" وإيقاع بعض الشعارات وصيغها الشرطية التي تحاكي الحاضر والتراث الثقافي المجتمعي. وفي القسم الخامس والأخير "نماذج بلاغية منتقاة من الحصيلة الشعاراتية الاحتجاجية"، قدّم الكاتب تفاعل الصحافة ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري ومواقع التواصل، ووصل إلى خلاصات واستنتاجات عامة، تحاكي سيرورة الهتاف العربي والشعارات المتشابهة المتحاكية في ساحات الثورة والاعتراض.
يتحدث الكاتب عن البلاغة الجديدة بوصفها مفهومًا ووظيفةً وصيرورةً، فهي الحاملة مشاعر الاعتراض والاحتجاج المشوبة بأمارات الغضب، والجريئة إلى حدّ ملامسة البذاءة أحيانًا، وإنّ طرائقَ إبلاغها المبتكر رسائلَها للجمهور، هي محور الكتاب ومطمح واضعه.
وتقصّيًا لصيغها المبتكرة، استند المؤلف إلى شواهد كثيرة، متنوّعة وموثَّقة توزعت في ساحات بيروت والمناطق. فدرس وحلل وبيّن كيف أنّ الجِدّة البلاغية، بما فيها الاستعمالات الاستعارية والتمثيلات الذهنية، أفلحت مسعى على أيدي شباب غير متخصّصين، أو متعمّقين بالضرورة في علومها، فأساليبُ الإبلاغ التي اعتمدوها، بل ابتكروا أو جددوا بعضها، وتفنّنوا في تشكيلها وإخراجها، بلغت مقاصدها. استقطبت جمهورًا سلميًا عريضًا، لاسياسيًا، متعطِّشًا إلى التغيير. هذه البلاغة المتجدِّدة، روحًا وأسلوبًا، لاقت استساغةً وقبولًا حسنًا عنده. رفدته بأدبياتِ مواجهةٍ عصرية، منطقية وموائمِة. وسندته بأبجدياتِ دفاعٍ محصَّنة، مدعَّمة عند الضرورة بالشتائم المغنَّاة والموقَّعة الكلمات، وبالتهكّم المجبول بإساءات لفظية جارحة. لم يأتيا من عدم، بل اتّكآ على هياكلِ أغانٍ شائعة وأخرى ولادية وأهازيج معروفة ومتداولة شعبيًا. المعنيون والمعنيات عدّلوا بعض تراكيبها، وبدّلوا في مفرداتها كي تناسب المقام، وهي في الإجمال لا تخرج عن دائرة اهتمام الشباب المنتج مثل هذه الشعارات والهتافات. الملاحظ أنها ما خدشت حياء رافعيها ومردّديها من مختلف الأجناس، أو أعاقتهم عن استعادتها مرّاتٍ ومرّات، بملء أصواتهم (هنّ)، وبحماس زائد لفت الأسماع.
اللغة هي في أعراف المشتغلين بها أداة التواصل الرئيسة في المجتمع. وميزتها التفاضلية أنّ أحكامها وصفية لا معيارية. يتناول موضوع دراستها وصف العناصر والتراكيب من منظار التماسك والتناسق والتحليل. و يتّكئ تحليل مضامينها على تقنيتَي التشقيق وإعادة التركيب. وبما أن المحضر لغوي، فالدراسة تُظهر أن الجمهور المحتجّ، ممثّلًا بناشطيه وناشطاته، اصطنع بدراية لغةً تشبهه، لغة تتماهى روحًا وفكرًا وصوغًا مع خلفيات منتجيها، وارتقابات متلقّيها، ومردّدي مفرداتها. وتظهيرًا لصورتهم "الثورية"، ابتدعَ الناشطون أساليب صوغ مبتكرة وجريئة لشعاراتهم، وهتافاتهم المُدينة للطبقة الفاسدة، والمعبّرة عن حقّهم وتوقهم إلى حياة حرّة كريمة، جاءت عاليةَ النبرة واضحةَ الرؤيا، رشيقةَ السبك، وقابلةً للتعديل والتنغيم. أغلبية هذه النواتج القولية سُبكت بألفاظ مأنوسة وتراكيب متماسكة.
لم يتخلّ الشباب المنتفضون عن ثوابتهم، ولا هم أهملوا موروثهم، بالرغم من تكوينهم العلمي وثقافتهم الرحبة واطّلاعهم المستدام على تكنولوجيا المعلومات؛ إذ نهلوا من مخزونهم الثقافي، واستندوا إلى تراثهم الفني الذي ينطوي على مجموعة أغانٍ تطريبية شائعة، وأخرى "ودّية"، وثالثة ترقيصية. وكي ينقلوا رسائلَ ساخنة وعاجلة ومباشرة لمن يهمّهم الأمر، لجؤوا إلى صنوف التناص بين الخطابات ذات الصلة بطبيعة حَراكهم. فعدَّلوا واستعاروا وبدَّلوا في التراكيب والألفاظ العائدة لأقوال مأثورة وحكم وأمثال شعبية وأغانٍ شائعة.