عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة العاشرة والأخثيرة في سلسلة المؤتمر السنوي لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي في الفترة 9-12 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 تحت عنوان "الموجة الثانية من الانتفاضات العربية: تجربتا السودان والجزائر". وجرت جلسات المؤتمر عبر تقنية المؤتمر عن بعد على منصة زووم لمقتضيات الإجراءات الإحترازية التي فرضتها الحالة الوبائية لجائحة كوفيد-19.

المؤسسات والنخب ودورهما في الانتقال السياسي في السودان

استعرضت الجلسة الأولى من المؤتمر ثلاث أوراق دارت حول موقع النخبة والمؤسسات من عملية الانتقال. وفي ورقة بعنوان: "الهُجنة المركبة: تأثير التحالف الحاكم في مسار الفترة الانتقالية في السودان"، بيّن الدكتور حسن الحاج علي، أستاذ العلوم السياسة بجامعة الخرطوم، تأثير التحالف الهجين المركب الذي حكم الفترة الانتقالية في السودان ولا يزال يتحكّم في مسارها. وخلص إلى أن التحالف الهجين الذي يحكم الفترة الانتقالية حمل مستوياتٍ مختلفةً من التعقيد؛ فهناك مستوى كلي يعتمد على توازن الأهداف الاستراتيجية بين أضلاع التحالف الرئيسة، ومستويات فرعية تستند إلى توازنات الأهداف الاستراتيجية داخل كل ضلع، وهناك اعتماد متبادل بين المستويات المختلفة. كذلك استنتج أن طول الفترة الانتقالية قد دفع بقضايا عكست خلافات التحالف الهجين، وأدخل البلاد في حالة من التحالفات المتغيرة وفقًا للهُويات السياسية المتبدلة. وشدد على أن حسابات المنفعة وتكلفة الخسارة من الانتخابات تشي بأن أمد هذه الفترة ربما يمتد سنوات أكثر؛ ما يجعلها أقرب إلى أن تكون فترة انتقالية مفتوحة.

وفي بحثه، الذي حمل عنوان "مفهوم الصفوة: إننا نتعثر حين نرى"، أكد الدكتور عبد الله علي إبراهيم، الأستاذ الشرفي للتاريخ الأفريقي والإسلامي بجامعة ميسوري الأميركية، على أن الفترة الانتقالية الحالية قد خيّم عليها شبح الفشل بسبب ما أسماه "الحلقة الجهنمية"، التي قد تفضي بالفترة الانتقالية وما يليها من نظام سياسي إلى دكتاتورية. واستدرك بأن ما قد يبدو يأسًا مبكرًا يجد دلائله فيما سبق من تجارب سودانية. وبيّن أن المحللين يعزون فشل الفترات الانتقالية إلى تنازع الصفوة التي تنادي بالحكم المدني. فتنازعها يجعل مقاليد الأمور بيد العسكر بصورة تلقائية. 

واختتم هذه الجلسة بحث الدكتور التجاني عبد القادر حامد، أستاذ ورئيس قسم العلوم الاجتماعية بمركز ابن خلدون بجامعة قطر، الذي استشرف آفاق الانتقال الديمقراطي في السودان. وانتهى إلى القول باحتمال أن يكون الهدف المتفق عليه بين القوى الدولية وشركائها السلطويين في الإقليم هو الانتقال بالسودان إلى نظام "هجين"، تبقى فيه عناصر النظام السلطوي القديم ممسكة بمفاصل السلطة، مع المحافظة على الحد الأدنى من الديمقراطية. وتوقع حامد أن التحالف العسكري - المدني الحاكم سيجد دعمًا من الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي (ومن حلفائه الإقليميين)، ما يمكّنه من تفكيك مؤسسات النظام السابق، واستيعاب عدد من الحركات المسلحة في العملية السياسية، والانخراط المتدرج في المنظومة الدولية (الأمنية والاقتصادية). أما من ناحية الداخل السوداني، فرأى أن الحكومة الانتقالية ستواجه تحديات صعبة تهدد مرحلة الانتقال ومستقبل الدولة.

تحديات بناء نظام الحكم في الجزائر في مرحلة ما بعد بوتفليقة

اختصت الجلسة الثانية بسبر أغوار التحولات التي يشهدها النظام السياسي في الجزائر بعد خروج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من المشهد السياسي. ففي ورقته التي حملت عنوان "طبيعة السلطة السياسية في الجزائر بعد الحراك الشعبي بين طموح الانتقال الديمقراطي وترسيخ النموذج الأنوقراطي"، قدم الدكتور عبد القادر عبد العالي، الأستاذ بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة مولاي الطاهر بالجزائر، تحليلًا للعلاقة التفاعلية بين الحركات الاحتجاجية والنظام الانتقالي ذي الطابع الأنوقراطي في الجزائر، مبينًا كيف تؤدي استراتيجيات البقاء والتعامل مع المطالب الاحتجاجية إلى إعاقة الانتقال الديمقراطي أو إنتاج مخرجات محدودة تجاهه. وأكد الباحث أن انعكاس الإرث الثقافي والبنيوي للسلطوية على أداء الحركات الاحتجاجية في الجزائر قد بينه فقدان روح المبادرة والوحدة والعجز عن تشكيل قيادات حراكية ذات قدرة إقناعية وحجاجية. ورأى أن هذه الوضعية تعمّق معضلة الوضعية الانتقالية الممتدة، وأزمة النظام العميقة التي تزداد مع ازدياد الأزمة الاقتصادية وتراجع واردات النفط. 

وعرج الدكتور كمال جعلاب، أستاذ التعليم العالي في القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية بجامعة الجلفة بالجزائر، على المسار الدستوري خلال الانتقال الذي تشهده الجزائر، ومدى اسهامه في إطلاق عملية الانتقال الديمقراطي كما عبّرت عنها مطالب الحراك الشعبي في شباط/ فبراير 2019. واستعرض الباحث محطّات هذا المسار الذي اعتمدته السلطة مقاربةً وحيدة في الاستجابة لمطالب الحراك. وطرح أن تعثّر مساهمة المسار الدستوري في تحقيق الإصلاح المنشود إنما يعود إلى أسبابٍ تتعلق بإرادة السلطة السياسية التي كانت تنطلق مُنفردةً في مسار دستوري شكلي منعزل عن سياقه، ولا يصل بمحتواه إلى ذلك العمق الذي يطيح المنظومة الدستورية القائمة غير الديمقراطية. فبحسب الباحث، بقي المسار الدستوري في الجزائر متأخرًا عن مطالب الحراك، وظلّت مبادرات السلطة حبيسة مسار دستوري شكلي لم يتجاوز في محتواه تعديل المعدّل بهدف إعادة إنتاج النظام بشكلٍ جديد، ولكن بالقيم الجوهرية نفسها التي كانت تميّز النظام القديم. 

ىأما الدكتور عدنان نويوة، أستاذ القانون بالمعهد العالي للدراسات التكنولوجية ببنزرت، فقد ركزت ورقته على موضوع يعد حرجًا في الانتقال في الجزائر، وهو مكافحة الفساد، ومدى تعلقه بالتحديات السياسية والاقتصادية بعد حراك 2019. أظهر عرض نويوة أن سياسة مكافحة الفساد تسهم في رفع التحديات التي تواجه الجزائر، وأنّ سياسات مكافحة الفساد المرتكزة على القوانين والمؤسسات، والمعدّلة في إثر الانتقال الديمقراطي والاقتصادي، تساعد في بناء قدرات الدولة التي تشمل القدرة على المساءلة والمحاسبة السياسية والقضائية والمجتمعية للمتورطين في الفساد، وهي ضامن رئيس لنجاح الانتقال الديمقراطي. وقدم الباحث عرضًا لمقوّمات مكافحة الفساد القانونية والمؤسّساتية التي تمّ إرساؤها في الجزائر، ولا يزال العمل جاريًا على تطويرها. وانتهى إلى أنّ تبنّي وتنفيذ سياسات مكافحة الفساد "المعدّلة" في الجزائر يدعّم التوازن بين مسارات التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بما يعزّز فرصة إقامة نظام سياسي ديمقراطي "منصلح ذاتيًا" ومستدام.

اليوم الثاني، العسكريون والمؤسسة العسكرية في سياق التحولات

طرحت في الجلسة الثالثة من المؤتمر، التي ترأسها الدكتور مهدي مبروك، ثلاث أوراق ناقشت الأبعاد المختلفة لقضية استعادة السلام في السودان، وسبل تجاوز النزاعات في مرحلة ما بعد عمر البشير. في البداية، قدّمت منى هداية، الباحثة في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني، ورقة بعنوان "مركزية إقليم الشرق في سلام السودان: التوترات القائمة والوقاية من تصاعد النزاع"، والتي أعدتها بالاشتراك مع الدكتور سلطان بركات، الأستاذ في معهد الدوحة للدراسات العليا ومدير مركز دراسات النزاع.

وفي الموضوع ذاته، قدّم الدكتور بهاء الدين مكاوي، أستاذ مشارك في قسم الشؤون الدولية بجامعة قطر، ورقة تبحث واقع اتفاق جوبا لسلام السودان وتستشرف آفاقه، بيّن فيها إنه على الرغم من اختلاف ظروف نشأة الحركات المسلحة، فهي تشترك في العديد من مطالبها، مثل التنمية المتوازنة، والمشاركة في السلطة، والاعتراف بالتنوّع الثقافي، واحترام حقوق الإنسان والمواطنة. وهي المطالب ذاتها التي أطّرت توجهات الأطراف المعارضة خلال مباحثات اتفاق جوبا لسلام السودان. 

أما الدكتور حمد عمر حاوي، أستاذ العلوم السياسية وعميد سابق للدراسات العليا بجامعة بحري في السودان، فقد تناول الجوانب المختلفة لما تواجهه مسارات الانتقال الديمقراطي في السودان من تحديات. وطرح الباحث أنّ توق قوى الثورة إلى تحقيق تحوّل شامل يصطدم بواقع تعقد البيئة السودانية وبروز عوامل معيقة للتغيير المطلوب. وبما أن التجربة تسير عمومًا ببطء شديد فمن الصعب تصور إنجاز التحول الديمقراطي، في حين أن الباحث لا يستبعد تحققه على المدى الأبعد، شريطة توافر طاقة ثورية أكبر ووعيٍ أعلى. 

دارت الجلسة الرابعة التي ترأّسها الدكتور صالح زياني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باتنة، حول المسائل المتعلقة بالعلاقات المدنية العسكرية في الجزائر والسودان. وفي بدايتها، تناول الدكتور محمد سي بشير، الأستاذ بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية في الجزائر، أبعاد ما أسماه "جدلية الأمني/ العسكري والسياسي" في التجربة الجزائرية. وأكد الباحث ضرورة صياغة نموذج للتغيير يؤسس لتحولٍ ديمقراطي، معتمدًا بالأساس على تجاوز تلك الجدلية في إطار توافقي ونموذجٍ اقتصادي غير ريعي.

أمّا الدكتور كرار التهامي، السفير السوداني السابق، فقد قدّم ورقة بعنوان "إشكالات الانتقال في السودان: نواقص الثورة ونواقض الديمقراطية"، استعرض فيها التطور التاريخي للنموذج السياسي السوداني الذي تعثرت فيه الديمقراطية في أكثر من محاولة. 

وحول أدوار المؤسسة العسكرية الجزائرية في سياق حراك 2019، قدّم الدكتور عادل أورابح، الباحث المتخصص في الدراسات الأمنية الدولية، طرحًا يرى فيه أنّ الحراك الشعبي عام 2019 قد أكد الدور المفصلي للمؤسسة العسكرية. لكن هذا الدور لم يسر على مسارٍ خطّي؛ بسبب خضوع عناصره لتقلبات تتصل بالطابع العُصبي للنظام السياسي القائم، واقتصاده الريعي، فضلًا عن عوامل أخرى تخص تكوين المؤسسة العسكرية نفسها. 

اليوم الثالث، القوى الاجتماعية والاقتصاد في سياقات انتقالية

في الجلسة الخامسة، التي أدارها الدكتور حامد علي، عميد كلية الإدارة العامة واقتصاديات التنمية في معهد الدوحة للدراسات العليا، جرى تناول الأدوار المختلفة للقوى الاجتماعية. واستهل الدكتور محمد نعيمي، أستاذ علم اجتماع التنظيمات بمعهد التنمية الاجتماعية في الرباط، بطرحٍ قارن فيه أدوار الحركات الاجتماعية في حراكَي السودان والجزائر، وكيف انعكست هذه الأدوار على مطالب الانتقال الديمقراطي في البلدين. وأكّد أنّ "تجمع المهنيين السودانيين"، قد أسهم إلى حد بعيد في انتقال الحراك في السودان من العفوية إلى الهيكلة، وفي تعبئة بقية الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة. وهو دور لوحظ غياب نظيره في التجربة الجزائرية. كذلك غاب جزائريًا وجود معارضة سياسية بنوعية تلك التي عرفها حراك السودان، ما حال دون صياغة مطالب سياسية متوافق عليها، وجعل التحول الديمقراطي متعثِّرًا.

وقدّم الدكتور حسن الساعوري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين في السودان، تحليله لتلك التحديات التي تعترض التحول الديمقراطي في مرحلة ما بعد عمر البشير، وبخاصة ما يتصل منها بدور النخب. وتساءل: إلى أي حدّ تستطيع النخب السياسية تجاوز مشكلات الانتقال مع نظام سياسي كان عسكريًا إلى نظام ديمقراطي؟ وفي معرض إجابته، أكد أنّ غياب توافق النخب السياسية أدى إلى تعثر عملية تأسيس المؤسسات الانتقالية، وهي التي يتم عبرها تحديد آليات التحول الديمقراطي، كما وقعت تجاوزات للدستور الانتقالي من الطرفين المدني والعسكري، أسفرت عن تداعيات سلبية على بناء دولة القانون، وظهور الانفلات الأمني الذي فتح بدوره المجال أمام المكون العسكري لإحكام سيطرته، وأخيرًا، كان لفرض العزل السياسي ضد بعض القوى المشاركة في الثورة، أثره السلبي، إذ مثل نقيضًا للسلوك الديمقراطي القائم على حق الجميع في المشاركة السياسية.

وقدّمت الدكتورة مشاعر الأمين الدولب، الأستاذة ورئيسة قسم دراسات المرأة والأسرة والمجتمع بمعهد السودان الإنمائي، ورقتها المعنونة "الهندسة الاجتماعية الفوقية لقضايا النساء في الفترة الانتقالية في السودان"، والتي ركّزت على قضية مشاركة النساء في الثورة في السودان في كانون الأول/ ديسمبر 2018، وما برز من قضاياهن في الوثائق المرجعية للفترة الانتقالية. وتناولت الدولب ما أسمته سياسة الهندسة الاجتماعية الفوقية لقضايا النساء، عبر تحليل الإجراءات والقرارات والتشريعات التي صدرت من المستويات الأعلى في الهرم الحكومي. وبينت أن هذه التشريعات استبقت إجراء الانتخابات، وأن أسلوب الهندسة الاجتماعية الفوقية الذي وظفته الحكومة الانتقالية في السودان قد نزع إلى إحداث تغيير ثقافي من دون الاهتمام بقضية التمثيل والمشاركة السياسية التي تمثل أحد المؤشرات المهمة في التحول الديمقراطي.

في الجلسة السادسة، التي اختتمت أعمال اليوم الثالث، وترأّسها الدكتور سيد قوجيلي، الأستاذ ببرنامج الدراسات الأمنية النقدية في معهد الدوحة، طرحت العديد من المسائل المتعلقة بالاقتصاد وعلاقتها بمسارات التحول في تجربتَي السودان والجزائر.

طرح الدكتور علي إبراهيم محمد، البرلماني السوداني السابق، والباحث المتخصص في اقتصاديات التنمية، قضية المعيقات الاقتصادية التي تعترض التحول الديمقراطي في السودان. وبينت الورقة تقاطعات الجغرافيا السياسية مع اقتصاديات الفساد، وطرحت إطارًا تحليليًا لتفسير بعض مؤشرات مدركات الفساد التي ظلّت ملازمة لأداء الحكومة بعد التغيير. 

وفي ورقة بعنوان "الاقتصاد السياسي للانتقال الديمقراطي في الجزائر: حسابات الحقل ومآلات البيدر"، طرح الباحثان بمركز البحث في الاقتصاد التطبيقي من أجل التنمية في الجزائر، الدكتور خالد منه والأستاذ رضا بوجانة، أنّ كسر هيمنة الريع على مقدرات الاقتصاد، وإتاحة الفرصة للشباب لممارسة حقوقهم السياسية والاقتصادية قد مثّلا أبرز مطالب الحراك الشعبي الذي انطلق في سنة 2019. 

وفي الموضوع ذاته، على الصعيد السوداني، تناول الزاكي الحلو، المحاضر بقسم الاقتصاد في جامعة الخرطوم، الأسباب الاقتصادية لانتفاضة ديسمبر 2018. وحاول بناء سردية تفسر هشاشة الاقتصاد السوداني التي انعكست في صورة عجز الدولة عن توفير السلع المدعومة وعن التحكم في الأسعار. وأوضح أنّ الاقتصاد رافق عوامل أخرى ساهمت في هذا الغضب، وأدت في النهاية إلى الخروج إلى الشارع وإسقاط البشير، منها سياسة التمكين وتداعيات الحرب الأهلية.