​عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يومي 12 و13 أيلول/ سبتمبر 2015 في تونس الدورة الرابعة للمؤتمر السنوي العلمي في قضايا التحوّل الديمقراطي تحت عنوان: "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة". 

تضمنت الجلسة الافتتاحية محاضرتين؛ ألقى الأولى الدكتور منير كشو وتناول فيها مشكلة التحكّم في العنف في الدول الحديثة وفي مراحل الانتقال الديمقراطي. وعرّج على الأساليب التي اعتمدتها الدولة الحديثة للسيطرة على العنف المجتمعي؛ وذلك باحتكارها استخدام العنف الشرعي. ولاحظ الدكتور كشو أنّ استئثار الدول الحديثة بوسائل القوة والسيطرة على المجتمع وعلى المجال الجغرافي، خلّف تجمّعًا هائلًا للنفوذ بين أيدي أجهزة الدولة لم تستخدمه دائمًا لمصلحة المجتمع والقيم الحديثة التي بُني عليها وإنما لخدمة مصالح أطراف ومراكز نفوذ اقتصادية وسياسية. فالدولة الحديثة سيطرت على العنف الداخلي لكنها استخدمته ووجّهته ضد شعوب ودول أخرى من خلال الاستعمار والحروب وبخاصة الحربين العالميتين، واستهدفت به أيضًا أعداء داخليين لها وهو ما نراه في الدول الاستبدادية والكليانية مثل الستالينية والفاشية والنازية. وقال الدكتور اليوم هناك أمل في أن يكون تحكّم الدولة في العنف لا من خلال احتكار استخدامه فقط بل أن يكون أيضًا هذا الاستخدام خاضعًا إلى الرقابة الدستورية والقانونية والشعبية من خلال الرأي والجدل العمومي وأن يُحصر في الحدود التي يعدّها الجميع معقولة ومبرّرة. في بلدان التحوّل نحو الديمقراطية مثل بلدنا تونس حيث أنّ مؤسسات الدولة من إدارة وقضاء وأمن وجيش هي في طور إعادة بناء حتى تستجيب لمقتضيات الدستور الجديد، يشكّل العنف سواء في شكل أعمال إرهابية مدمرة أو تفشي الجريمة أو عنف الحركات الاحتجاجية العشوائية أو عنف أجهزة الدولة ذاتها في التعامل مع المواطنين، تحديًا ينبغي للدولة رفعه دون الارتداد إلى الممارسات القمعية الماضية؛ حتى لا تتعطل عملية بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات دولة.

أمّا المحاضرة الافتتاحية الثانية فقد تناول فيها الدكتور والباحث العراقي فالح عبد الجبار وهو مختص في علم الاجتماع السياسي، نشأة الدولة الحديثة وظاهرة العنف فيها وما يتطلبه توازن المجتمع لتفادي هذه الآفة. ورأى أنّ العنف أمر متصل بطبع الإنسان، وهو وسيلة وجدت في كل المجتمعات والدول وتجسدت في الحروب والنزاعات الطائفية وحتى في عمليات الانتحار، وأنّ الناس يتقاتلون من أجل الحرية ومن أجل الأوطان. وقال إنّ ربط العنف بالدين من الأخطاء الكبرى التي يرتكبها البعض على الرغم من أنّ كل الأديان تجيز العنف وتبرره. وهناك أنواع من العنف؛ هي: فرد ضد فرد، وفرد ضد جماعة، وجماعة ضد فرد، ودولة ضد فرد، ودولة ضد جماعة. وما يهمنا هو عنف الدولة ضد الجماعة. وتقوم الدولة الحديثة على فكرة المواطن كمفهوم حديث وتقتضي جملة من الأبعاد أهمها البعد الدستوري؛ إذ لا بد من دستور يضمن مبدأ المساواة بين كلّ الأفراد، وكذلك البعد الاقتصادي انطلاقًا من هيمنة الدولة على الثروة وضرورة انتفاع كلّ مكوّنات المجتمع بهذه الثروة.

وقال المحاضر إنّ الدولة الحديثة تبني علاقتها بالمجتمع على ثنائية الإكراه والرضا؛ فكلّما قلّ الإكراه زاد الرضا والعكس صحيح. وقد عرفت البلاد العربية عدة أنماط من الحكم منها الديمقراطي الذي لم ينجح في الدول العربية، والنمط التسلطي الذي يعتمد على الحكم بالعسكر.

وما يلاحظ أنّ حركة الاحتجاج في البلاد العربية لم تنجح؛ ومثال ذلك ما حصل في سورية وليبيا. ونجحت جزئيًا في بلدان حصل فيها إصلاح؛ مثل تونس واليمن. غير أنّ في تونس حركة مدنية والتمايز الإثني والديني والطائفي ضعيف جدًا، مع وجود ترابط وتماسك اجتماعيَين يمنعان الصدام. بينما يختلف الوضع في اليمن بسبب حالة الانقسام والطابع القبلي العشائري للمجتمع اليمني.

وأكّد المحاضر أنّ هيمنة الدولة على الثروة والاقتصاد عمومًا تؤدي إلى الهيمنة على الطبقة المنتجة ورجال الأعمال، والتحكّم في هؤلاء يؤدي إلى احتكار الاقتصاد ويزيد من سطوة الدولة، ويجعل فئة فقط تتمتع بالثروة. وهو ما يؤدي لاحقًا إلى التمرد والعنف.

أمّا عن الحلول التي تسمح بالقضاء على ظاهرة العنف، فتتمثل بحسب رأي الدكتور فالح عبد الجبار في ضرورة إقرار المشاركة السياسية من خلال السماح للمواطنين بالانتخاب وممارسة النشاط السياسي وإبداء الرأي وحرية تكوين الأحزاب والمشاركة في صنع القرار أيضًا، والمشاركة في الأجهزة الإدارية لضمان حسن توزيع الموارد وضمان الاستقرار، كما أنّ المشاركة الثقافية أمر مهمّ. وفي غياب هذه الأنواع من المشاركة واحتكار الدولة الموارد، تدمَّر البلدان.

وقد تلت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أربع جلسات في اليوم الأول، انقسمت كل واحدة منها إلى مسارين يجريان في الوقت نفسه في قاعتين. وقدّم خلال الجلسات الأربع ما يقارب الـ 30 ورقة بحثية في مواضيع "العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة"، و"جماعات العنف"، و"العنف السياسي في السياقات العربية المعاصرة: في بعض حالات السودان"، و"العنف والهوية"، و"بعض مظاهر عنف الدولة: التعذيب ومساءلة مرتكبي الجرائم".

وتواصلت أعمال المؤتمر في يومه الثاني (الأحد 13 أيلول / سبتمبر 2015) بجلسات خصصت لمواضيع: "ثقافة العنف" و"التسامح مقابل العنف" و"العنف السياسي في اللغة والخطاب" و"العنف في وسائل التواصل الاجتماعي".

وقد تحدث في جلسة "ثقافة العنف" الباحث رشيد شريت من المغرب عن الحالة المغربية التي يرى أنها فريدة من نوعها نتيجة خصوصيتها في كونها فسيفساء فريدة من العنف الشامل الذي اشتركت فيه جميع الأطراف من دون استثناء من نظام وأحزاب وفصائل يسار ويمين وإسلاميين، وقال إن العنف الثوري والمضاد تحوّل من مجرد مناورة وتكتيك إلى لغة سياسة قائمة الأركان. وأضاف أن العنف الموجود في المغرب هو العنف السياسي الناعم وهو عنف الدولة المتمثل في الترويض والاستيعاب والاحتواء، أي أنه عنف من أجل ترويض الفاعل الاجتماعي للآخر منافسا كيفما كان.

وقدم الدكتور محمد صالح مولى مداخلة بعنوان" ثقافة النحر وحِرْفة قطع الرؤوس.. أيّ معقوليّة؟ مقاربة تحليلية نقديّة". وسلط خلالها الضوء على السياقات والمسارات التي تتحرك فيها الظاهرة وحاول تفسيرها وقال إن القضاء على العنف نهائيا امر غير ممكن وغير متوقع فكل الدلائل الثقافية والتاريخية والسياسية توفر باستمرار ما يفيد أن العنف ليس ظاهرة عابرة أو سلوكا منحرفا يمكن تصويبه بيسر وإنما هو لصيق بالإنسان ولا يمكن إلا عقلنته وذلك بتحويل مجراه والتقليل من ضحاياه.

وشكلت قضية إعاقة العنف للتحوّل الديمقراطي أبرز محور للنقاشات التي شهدتها الجلسة الختامية للمؤتمر. وأشّرت التدخلات على استخدام الأنظمة العربية العنف لقمع توق المجتمعات العربية للتغيير ولوأد الثورات العربية، مثلما أعاق جنوح جماعات إسلامية مسلحة التحوّل الديمقراطي أيضا في تونس مثلا وفي ليبيا وغيرها من الدول العربية. وأكد العديد من المشاركين على ضرورة توافق القوى السياسية والتيارات المختلفة على آليات لإبقاء التنافس السياسي في نطاق سلمي.

وأكد عدد من المتدخلين على أن ثمة نوعًا من المغالاة في الحديث عن العنف في المجتمعات العربية وأن منسوب العنف وأشكاله تبقى في مستويات عادية باستثناء ذلك العنف الذي ارتبط بالجماعات الجهادية وجماعات العنف السياسي. وأشار بعض المتدخلين إلى أن أحزابًا سياسية في أكثر من دولة عربية استغلت العنف ووظفته لتخويف عامة المجتمع ودفعها إكراها لتبني أفكارها ورؤاها.

وشدد مشاركون على أهمية التنشئة على الأمن الإنساني والاجتماعي وترسيخ ذلك منذ مرحلة التنشئة الأولى للطفل، ولما لا إدراج ثقافة اللاعنف ضمن البرامج والمناهج الدراسية وذلك بهدف سد الطريق أمام بروز تربة خصبة وملائمة لنمو ثقافة العنف في المجتمع العربي.