عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الفترة 6-8 تشرين الأوّل /  أكتوبر 2012، المؤتمر الأول حول قضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي، وحمل حينها تسمية الموضوع الذي اختير له "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي : تجارب واتّجاهات" (وقد استمر في دراسة الموضوع نفسه في الدورة الموالية عام 2013). وفي كلمة التقديم في افتتاح المؤتمر، تحدّث الأستاذ محمد جمال باروت الباحث في المركز العربي منوّهًا بأهمّية المؤتمر وموضّحًا أنه مؤتمر أكاديمي يتناول إشكاليّات مشاركة الإسلاميّين في الحياة الديمقراطية وتحدّياتها خصوصًا مع تبوّؤ بعض حركات الإسلام السياسيّ السلطة في دول عربيّة بعد الثورات العربية وقبل ذلك في تجارب عاشتها بعض الدول العربية. وأشار إلى أنه مؤتمر علميّ بحت خضعت أوراقه للتحكيم، والغاية هي الشروع في حوار جدّي بين الباحثين العرب والإسلاميين من الأقطار العربية المختلفة.

وكانت المحاضرة الأولى للدكتور عزمي بشارة تناول فيها العلاقة بين الدين والديمقراطيّة. وبدأ كلمته بنقد الربط بين ما يسمّى الحضارة المسيحيّة - اليهودية والديمقراطية، ووصف ذلك بأنه ربط تأويلي مصطنع. وقال إنّ الديمقراطية في أوروبا لم تأتِ من أثينا كما هو شائع - ولم تأتِ كذلك من أورشليم، كما يحاول البعض إشاعته، بل من تيّار ديمقراطي ظهر في أوروبا قبيل الثورة الصناعية وفي أثنائها. وأضاف قائلا: "جميع الثورات اندلعت ضدّ امتيازات القلّة، وكانت تطالب بالمشاركة، فهي ديمقراطية بمعنى من المعاني. أمّا الديمقراطية اليوم فهي تعني بناء النّظام السياسي الذي يتيح التمثيل واختيار الممثّلين بالانتخاب، ويعني في الوقت نفسه الرقابة على الممثّلين المنتخبين، وتحديد المدّة الزمنيّة للممثّلين كي لا تتحوّل السلطة إلى استبداد". وشدّد على أنّ الديمقراطية ليست وجهة نظر تجاه الدين، بل هي وجهة نظر تجاه الحكم.

وأكّد أنّ الحرّية هي القاعدة، أمّا تقييد الحرّية فهو الاستثناء. ثمّ انتقل الدكتور عزمي بشارة إلى الحديث عن العلاقة بين الدين والمبادئ الديمقراطيّة، فقال إنّ كثيرين حاولوا إيجاد رابطة بينهم، إلا أنّ مثل هذا الربط كان مصطنعًا، فالدين، على العموم مسألة روحانيّة وعقيديّة، والديمقراطيّة بصفة كونها نظامًا للحكم، مسألة سياسيّة، ولا جدوى من التفتيش عن مثل هذه الرابطة. وأعاد تصحيح الفهم المغلوط لأفكار ماكس فيبر في شأن العلاقة بين الرأسماليّة والبروتستانتيّة، فأوضح أنّ ماكس فيبر كثيرًا ما أكّد أنّ الزهد الدنيوي بما هو سلوك جيّد يدفع إلى العمل وتقديس العمل والانضباط غايته إقامة مجد الله على الأرض. وهذه الغاية لا تربط الدين بالديمقراطيّة، أو الرأسماليّة بالبروتستانتيّة. وتابع الدكتور عزمي بالقول: "جلّ ما يمكن استخلاصه من ماكس فيبر في هذا الأمر هو أنّ في الإمكان البحث في أنماط التديّن والسلوك الإيجابيّ ومواقفها من الديمقراطيّة، وهذا يندرج في سياق الثقافة السياسية".

وتحفظ عزمي بشارة عن مقولة العلاقة المباشرة للتّنوير بالديمقراطية، لأنّ حركة التنوير في أوروبا ظلّت نخبويّة، والديمقراطية نفسها نشأت بينما كان الناس بعيدين عن ثقافة الديمقراطيّة. أمّا النّخب الإسلاميّة في بلادنا العربية، يضيف الدكتور عزمي بشارة، فقد صارت، بالتدريج، جزءًا من النخبة السياسيّة العربيّة، وعليها تقع مسؤوليّة التأثير في اتّجاهات الثقافة السياسيّة اليوم. وأشار في هذا المجال إلى أنّ الاستبداد العربيّ هو الذي جعل الحديث عن الحرّيات العامّة يتضاءل ليصبح كلامًا على الحرّيات الشخصيّة والحرّيات اللَّذية (من اللّذة). ولاحظ أنّ الديمقراطيّة في أميركا أسّستها نخبة متديّنة وغير متديّنة معًا، حتّى أنّ ثورة كرومويل الجمهوريّة كانت ثورة ذات طابع أصوليّ متديّن، وأوّل ما فعلته ثورة كرومويل كان منع الخمر وتحريم البدع الدينيّة. أمّا أساس الديمقراطيّة الإنكليزية فهو الكنائس المنشقّة.

في ميدان آخر، تحدّث الدكتور عزمي بشارة عن الثقافة الشعبيّة التي سيكون لها شأن في تأسيس الديمقراطيّة في العالم العربيّ، لأنّ الناس هم من سيختارون ممثّليهم في نهاية المطاف، الأمر الذي يشكّل عناصر بناء الديمقراطيّة. أمّا كيف يفكّر هؤلاء الناس؟ وما هي تطلّعاتهم؟ فقد تجلّى ذلك في استطلاعٍ مثير أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات ضمن مشروع قياس الرأي العامّ العربي في المركز، وجاءت نتائجه مخالفة للتوقّعات السائدة والشّائعة عن خيارات الناس في العالم العربي. فقد جرى استطلاع آراء أكثر من ستّة عشر ألف مواطن في اثني عشر بلدًا عربيًّا، بالتعاون مع مؤسّسات علميّة مشهود لها بالمهنيّة والاحتراف في هذا الحقل المعرفي، وكانت المؤشّرات الاستخلاصيّة كالتالي: إنّ 85% من المجتمع العربيّ يعرِّف نفسه كمتديّن جدًّا، أو كمتديّن إلى حدٍّ ما، و11% يعرّف نفسه كغير متديّن و0.4% غير مؤمن. ويعتقد 49% أنّ التديّن يعني إقامة الفرائض والعبادات، بينما 47% يعتقدون أنّ التديّن هو حسن معاملة الآخرين والتكافل الاجتماعي، أي أنّ نصف المجتمع تقريبًا يرى الصّلة بالآخر بعيون مدنيّة.

وأشارت بقيّة المؤشّرات إلى أنّ معظم الأفراد، بمن فيهم المتديّنون جدًّا، لا يعارضون إقامة الديمقراطيّة كنظام للحكم، ولا يعترضون على الفصل بين رجال الدين والسياسة. وشدّد الدكتور عزمي بشارة في نهاية محاضرته على أنّ من غير الممكن إقامة الديمقراطيّة وإهمال السّيادة الوطنيّة في الوقت نفسه (وهذا ما أكّده الاستطلاع أيضًا)، وقال: إنّ التّحالف مع الاستعمار أو الصهيونيّة لدى بعض القوى التي تنادي بالديمقراطيّة هو مسألة معادية للديمقراطيّة في الجوهر.

نقاشات ثرية

وعلى امتداد 12 جلسة في الأيام الثلاثة التي استغرقها المؤتمر، فحص باحثون وأساتذة جامعيون الجوانب المختلفة لمشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية في الدول العربية، وقدّموا قراءاتهم التحليليّة عن المسار التاريخي الذي مرّت به الحركات الإسلاميّة في السودان والأردن ومصر وتونس والمغرب والعراق وفلسطين واليمن والجزائر ولبنان وليبيا وموريتانيا، كما عدّدوا التحدّيات التي تواجهها حركات الإسلام السياسي في ظلّ ثورات الربيع العربيّ وما ينتظر منها في ما بعدها. وتطرّقت أوراق المؤتمر إلى مكونات تيّار الإسلام السياسي كافّةً، إذ شملت حركة "الإخوان المسلمون"واسعة الانتشار والتنوّع، وكذا التوجه السلفي ذا الانتشار الكبير في عدد من الدول العربية مثل مصر والمغرب، وأيضا المكون الإسلامي الشيعي. وإلى جانب مداخلات وأوراق الباحثين التي تناولت موضوعات المؤتمر من زاوية التحليل الأكاديمي، قدّم السياسيون المشاركون في المؤتمر من زعماء للحركات الإسلامية وممثّلين عنها إضافة نوعية من خلال مداخلاتهم التي عرضوا فيها تجاربهم، وهو ما أثرى النقاش وفتح جسورًا للتواصل والحوار بين المجتمع الأكاديمي ومجتمع الممارسين السياسيين من تيّار الإسلام السياسي.

وتضمّن برنامج المؤتمر أيضًا محاضرات عامّة ألقاها بعض من أبرز قيادات الحركات الإسلامية السياسيّة من أمثال زعيم حركة النهضة في
تونس راشد الغنّوشي، والمفكّر الإسلامي وزعيم حزب المؤتمر الشعبي السوداني حسن الترابي، ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلاميّة (حماس) خالد مشعل.

وقد برزت من خلال نقاشات المؤتمر العديد من الأفكار والرؤى بشأن ما يتطلّبه الواقع الجديد للحركات الإسلامية في ظلّ التحوّل الديمقراطي المأمول في أعقاب ثورات الربيع العربي من "نفض" لغبار العديد من الأفكار والسلوكيات التي ارتبطت بمنعكسات فترة الصراع مع السلطة، ومع اعتلاء الإسلاميّين السلطة في عددٍ من الدول ومشاركتهم فيها في دولٍ أخرى أصبحت الحركات الإسلامية السياسية أمام تحدّي ممارسة السلطة والمشاركة فيها والتخلّص من منعكسات الفترة السابقة. وفي هذا السياق، أكّد العديد من الباحثين على ضرورة أن ترتقي الحركات الإسلامية بمستوى فكرها وممارسته ولا تكتفي بالإقرار بآليات التحوّل الديمقراطي من تنافسٍ سياسيّ نزيه وتداول للسلطة واحترام للدساتير والتنوّع والاختلاف، وهي ما وصفه أحد الباحثين بأنه الفهم الأداتي للديمقراطية. والمطلوب في المرحلة الآنية ومرحلة التحوّل الديمقراطي هو أن تنتقل الحركات الإسلاميّة إلى استيعاب التعريف والماهيّة الفلسفيّين للديمقراطية ومركزية مسألتي الحرّية والمساواة بمعناهما الفلسفي أيضا. وكان الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قد لخّص هذه الفكرة في المحاضرة الافتتاحيّة بالتشديد على أنّ الديمقراطية ليست لها هويّة دينية، ولذلك فإنّ الإسلاميّين مؤهّلون مثل غيرهم للمساهمة في التحوّل الديمقراطي في الدول العربية شريطة أن يستوعبوا في فكرهم وممارساتهم المقتضيات الفكرية والعملية للديمقراطية. واحتلّت مسائل المواطنة والتحول الديمقراطي حيّزا مهمًّا من نقاشات جلسات المؤتمر.

وشملت جلسات المؤتمر تقديم أوراق بحثية في محاور ستة هي: "تجارب المشاركة والتّحالفات السّياسية ما قبل الثّورات: بحث وتحليل وتقييم"، "الحضور الجديد للسّلفية والسّلفية البرلمانيّة في مجتمعات تتغيّر"، "الإسلاميّون وقضايا المواطنة ونظام الحكم الدّيمقراطي"، "الإسلاميّون والتّحالفات وقضايا المشاركة في النّظم الدّيمقراطيّة الجديدة"، والإسلاميّون والقضيّة الفلسطينيّة والمحيط الإقليمي والدّولي، فيما خصصت الجلسة الأخيرة لموضوع الإسلاميّين وأسئلة الرّاهن والمستقبل. 

واستضاف المؤتمر، إضافةً إلى الباحثين المتخصّصين، عددًا من الممارسين السّياسيّين بهدف تطوير الحوار بينهم وبين الباحثين بخصوص القضايا المطروحة، بما يخدم الهدف الرئيس للمؤتمر وهو البحث العلمي وتعميق المعرفة بمواقف التّيارات الإسلاميّة ومدى توافقها مع متطلّبات التّحول الديمقراطي واستنتاج السّبل الأفضل لتعزيز التّماسك الاجتماعيّ القادر على خوض المرحلة الانتقاليّة بنجاح، ودعم قيم الدّيمقراطية والحرّية والحكم الرشيد في الوطن العربيّ. وفي هذا الإطار، قدم راشد الغنوشي محاضرة عامة تحت عنوان "التيار الإسلامي وقضايا الدستور الديمقراطي"، وحاضر خالد مشعل تحت عنوان "التيار الإسلامي وسبل إدارة سلطة في ظروف معقدة... الدروس المستفادة من تجربة حركة حماس".