نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة الخامسة للمؤتمر السنوي لقضايا التحول الديمقراطي في الفترة  1-3 تشرين الأول/أكتوبر 2016 تحت عنوان "الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي".

محاضرة افتتاحية

قدّم الدكتور عزمي بشارة محاضرة افتتاحية ضمّنها تحليلًا لما هو قائم من علاقة بين الجيش والسياسة "ليس بوصفها خطأً، أو عارضًا من عوارض الابتلاء العربي، بل نتاجًا لمراحل تاريخية، وطبيعة الدولة العربية وصيرورة نشوئها وبنيتها، والبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافة".

وأكد الدكتور عزمي بشارة في البداية أنّه لا يوجد جيش بعيد عن السياسة بحكم تعريفه؛ فالجيش يتعامل يوميًا مع شؤون الحرب والدفاع، وقضايا أخرى يطلق عليها تسمية "الأمن" و"الأمن القومي". غير أنّ الحالة التي يدرسها المؤتمر هي تطلّع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، أي ممارسة الحكم، والاستيلاء عليه، أو المشاركة فيه، أو اتخاذ القرار بشأنه.

وأشار بشارة إلى أنّ نزوع الجيش نحو الحكم واتخاذ القرار أخذ صيغة "الانقلاب" في مراحل متعددة من التاريخ في أقطار عربية مختلفة. ولفت الانتباه إلى الفرق بين الانقلاب والثورة بوصفهما مفهومين، على الرغم من أنّ هدف كليهما هو خلع رأس النظام، غير أنّ الثورة تستخدم عادةً في وصف أيّ تمرد أو عصيان شعبي من خارج النظام ضد حاكم، في حين أنّ الانقلاب العسكري يأتي من داخل النظام وغالبًا ما ينتهي بتغيير الحاكم مع الحفاظ على النظام. ولكن ثمة حالات أطلق فيها الانقلاب صيرورة تغيير تحالفت فيها السلطة الانقلابية مع قطاعات اجتماعية متضررة لتغيير النظام، وجرى تغييره فعلًا.

وأكد الدكتور عزمي في هذا السياق أنّه من ناحية الديمقراطية والتحول الديمقراطي لم يثبت أنّ الثورة الشعبية أكثر كفاءة للوصول بمجتمع ما نحو الديمقراطية، من الإصلاحات من أعلى سواء أقامت بها قيادة عسكرية بعد انقلاب أم قيادة سياسية، أم كلاهما معًا. وخلص إلى أنّ التمييز بين الثورة والانقلاب لا يرنو إلى المدح أو الذم، إنما الأهم هو التمييز بين الانقلاب لتغيير قيادة والحفاظ على النظام، والانقلاب الذي يأتي ضمن عملية تغيير اجتماعي سياسي. وأضاف أنّ الجيوش كان لها دور في تأسيس الدولة الحديثة، وتسريع عمليات الانتقال من مرحلة إلى أخرى.

ولكن مرحلة بناء الدولة الوطنية العربية بعد الحرب العالمية الثانية شهدت طمسًا للحد بين الانقلاب والثورة في الثقافة السياسية للفئات الوسطى عمومًا وللمثقفين المسيّسين أو المنخرطين في أحزاب أو قريبين منها ولحركات الشباب والطلاب. وجرى لاحقًا المزج بين الانقلابية والثورية أو تفسير الانقلابية كثورية. وأصبح ينظر إلى الانقلاب بوصفه مقدمة لعملية تغيير اجتماعية - اقتصادية (ثورة).

وأكد بشارة صعوبة التوصل إلى نظرية وقانون يضبط علاقة الجيش بالحكم وتصرّفه فيه؛ فالجيوش تختلف باختلاف المراحل التاريخية، ودرجة تطور المجتمعات، والعقائد السائدة، وبنية الجيش الاجتماعية وغيرها. ولكن ثمة سمات مشتركة لا تصل بالضرورة إلى درجة القانون، أو النظرية الكاملة الأركان، وهي خمسة: أوّلها "الجيش بوصفه وسيلة للترقي الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعات فلاحية"، إذ أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثًا المسار الرئيس لتقدّم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعودًا على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدد مسار حياتهم، وتقرر مصائرهم سلفًا، وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية. والسمة الثانية يمكن تلخيصها تحت عنوان "أخوية رفاق السلاح الرجولية" وهي رابطة تشبه أخويات الطلبة في الكليات الجامعية في الماضي أو رابطة الخشداشية في الجيش المملوكي. وتتحول إلى نوع من الولاء الشخصي للجماعة أو رفاق السلاح أو "جماعة أبناء الدورة"، وكانت هذه الأخوية قوام نواة الانقلابات العسكرية في العديد من الحالات العربية، لكن حالما تقوم تراتبية ما بعد الانقلاب، تنخر في الجماعة مشاعر غيرة وتحاسد تصل حد الكراهية والشكوك المتبادلة، فالاحتمال وارد أن يطمح كلٌ منهم للزعامة. والسمة الثالثة هي الصراعات الحزبية والأيديولوجية داخل الجيش وداخل المجموعة الانقلابية التي عادةً تتسبب في تفكيك كتلة الضباط. وتتعلق السمة الرابعة لعلاقة الجيوش العربية بالحكم بالرهانات الدولية على دوره في السياسة، والتي كرّستها الحرب الباردة، فقدّمت الولايات المتحدة الدعم لأنظمة نابعة من انقلابات، كما أصبح السوفيات الرافضون في تراثهم الأيديولوجي الانقلابات العسكرية يؤيدونها إذا جاءت بأنظمة تتحالف معهم.

ولخّص الدكتور عزمي آخر السمات التي استنبطها في تحليله لعلاقة الجيوش العربية بالحكم تحت عنوان "لا يقوم الضباط بانقلاب من أجل أن يحكم آخرون"، إذ وقعت قوى سياسية واجتماعية في البلدان العربية عدة مرات ضحية الوهم أنّ الضباط يقومون بانقلاب في خدمتها. وقد اتضح أنّ الضباط لا يقومون بالتخلّي عن الحكم لمصلحة حزب سياسي إلا نادرًا. وفي أحيان كثيرة كان الانقلاب في الدول العربية هو انقلاب النظام القديم على العملية السياسية التي تتجه نحو تغييره، في محاولة للحفاظ على امتيازاته من جهة وعلى النظام الحاكم. إنّه انقلاب من داخل النظام للحفاظ على النظام. يتميز هذا النوع من الانقلابات بالاستقرار. فلا مجموعة أو شلة، أو أخوية ضباط هنا، بل الجيش النظامي ذاته؛ ولا تدور بعد الانقلاب صراعات الضباط، فالهرمية التراتبية واضحة تمامًا، ويصبح قائد الجيش رئيسًا.

أطر نظرية واقترابات تفسيرية

قدّمت الجلسة الأولى للمؤتمر مدخلا عامًا من خلال مناقشة "قضايا وإشكاليات نظرية" متعلقة بموضوع المؤتمر. وفي ورقته عن "الأطر النظرية لمعالجة إشكالية الدولة المتخندقة (العسكرية)"، أشار الدكتور عبد الوهاب الأفندي إلى إشكالية اعتماد الأدبيات البحثية العربية على تجارب وبيانات مُستقاة من الواقع الغربي والديمقراطيات المستقرة، وهو ما يطرح مشكلة التعميم.

وأكّد الباحث طيبي غماري أنّ نظريات تفسير العلاقة بين الجيش والسياسة لا يمكنها فهم العلاقة بين الجيوش العربية والسياسة، فقد أفرزت الحالات التي أنتجتها الثورات العربية، ردّات فعل متباينةً لم تتوقعها النظريات المذكورة؛ لأنّها تعاملت مع مختلف جيوش العالم بالعقلية الغربية نفسها. وقد تأثرت الجيوش العربية في تشكيلها وتنظيمها بتاريخ المجتمع وتركيبته، وبطبيعة النظام السياسي للدولة التي تنتمي إليها، ومن ثمَّ يمكن عَدّ كلّ جيش حالةً خاصةً أنتجت ردّات فعل خاصة عند قيام الثورات العربية.

من جانبه، أكد الدكتور خليل العناني النقص الملحوظ في الدراسات التي اعتمدت المناهج والاقترابات النظرية التي تُعنى بالتفسير والتفكيك للتحولات التي طرأت على العقيدة السياسية - وليست العسكرية فحسب - للجيوش العربية خلال العقود الخمسة الماضية، وغلبة الاقترابات الوصفية أو الإرشادية. وأضاف أنّه على الرغم من الكتابات الغزيرة التي تتناول قضايا مهمّةً؛ كالعلاقات المدنية – العسكرية، ودور العسكر في المرحلة الانتقالية، وموقف الجيوش من الثورات، فإنّ تحولات العقيدة (أو المذهب السياسي) بالنسبة إلى العسكريين، لم تحظَ بدراسة وافية.

واستعرضت الجلسة الثانية من المؤتمر في يومه الأول جانبًا من تاريخ التدخّل المباشر للجيوش في الحكم والاستيلاء عليه من خلال مقارنات بين أنماط انقلابية متعددة في سياق الحرب الباردة. في حين خصصت الجلسة الثالثة - وهي الأخيرة في اليوم الأول - لتتناول "نشوء العسكرية العربية الحديثة وتطور أدوارها السياسية"، بعرض تاريخي لبعض الحالات العربية، بدءًا بتأثير النخب العسكرية العربية العثمانية في نشوء الدولة في المشرق العربي من خلال نموذج العراق، والأدوار المبكرة للعسكريين في السياسة والزعامة العسكرية، وكذا عرض نموذج الضباط الأحرار في الأردن وتجربة تسييس الجيش، إضافةً إلى جذور التسلطية العسكرية وازدواجية السلطة العسكرية – المدنية في سورية (1950-1970).

بداية من الجلسة الأولى في اليوم الثاني من المؤتمر، جرت الجلسات في مسارين متوازيين متزامنين في قاعتين ، وشمل هذه الجلسات موضيع: "الجيش والقوى غير النظامية"، "الجيش والسلطة في حالات الجزائر وسورية والسودان"، "الجيش والقوى غير النظامية"، "مشكلات العلاقة بين الجيش والانتقال الديمقراطي في بلدان المغرب العربي: تونس، وليبيا". إضافة إلى مواضيع: "مواقف المؤسسة العسكرية من الثورات العربية ومسائل إصلاحها"،  "مشكلات العلاقة بين الجيش والانتقال الديمقراطي في بلدان المغرب العربي" بتناول حالتي: موريتانيا، والمغرب، "المؤسسة العسكرية العراقية ودورها السياسي بين التاريخ والراهن"الانقلابات السودانية وأبعادها السياسية"، "المؤسسة العسكرية المصرية من الثورة إلى الانقلاب". وجرت الجلسة الأخيرة في برنامج أعمال المؤتمر في مسار واحد تحت عنوان "مقاومة الانقلابات في الديمقراطيات الفتيّة في ضوء الانقلاب التركي الأخير".

زولتان براني: الجيش "الديمقراطي"

ألقى الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان براني، في بداية أعمال اليوم الثاني من المؤتمر محاضرةً عن الجيش والديمقراطية، حدد فيها المبادئ الرئيسة التي تمنح أيّ جيش صفة "الديمقراطي"، على الرغم من أنّ هذه الصفة لا تتفق تمامًا مع طبيعة تنظيم الجيوش داخليًا.

وقال براني إنّ الجيش هو المؤسسة الأقل ديمقراطيةً، من بين مؤسسات الدولة جميعها، بسبب طبيعته والقواعد التي تسيّره، إذ تحكمه التراتبية والأوامر، ولا مجال فيه لتطبيق آليات الديمقراطية. بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أنّ الجيش هو مؤسسة الدولة الوحيدة القادرة على تدمير الدولة. ولكنه يوضح أنّ هناك مبادئ تمنح الجيش صفة "الديمقراطي" عند إقرارها وتطبيقها. ويُعرّف الجيوش الديمقراطية بأنها الجيوش التي تَقبل الحكم الديمقراطي وتسانده وتحميه.

وأول المبادئ التي تؤسس الجيوش الديمقراطية هو خضوع الجيش لسلطة مدنية، ولكن براني يرى أنّ هذا المبدأ ليس كافيًا، وأنّ في التاريخ العديد من الأمثلة المتعلّقة بتحكّم مدنيين في الجيوش، من دون أن تتحقق الديمقراطية. فقد كان ستالين متحكمًا في الجيش الأحمر، لكن الاتحاد السوفياتي كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية خلال فترة حكمه. وبناءً عليه، يرى المحاضر ضرورة أن يكون تحكّم المدنيين في الجيش عبر تقاسم بين السلطة التنفيذية. فيكون الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، والسلطة التشريعية؛ بأن يؤدّي البرلمان دورًا في الرقابة والتشريع في ما يتعلق بأدوار الجيش وموازنته. ولذلك تعتمد الأنظمة الديمقراطية وجود لجنة للدفاع، من بين اللجان البرلمانية، تتكفل بمناقشة الحكومة والجيش ومساءلتهما بشأن كل القضايا المتعلقة بالمؤسسة العسكرية. ويُفضل أنّ تضمّ بعض الأعضاء من ذوي الخلفية العسكرية، وتستعين بالمستشارين والخبراء في المجال العسكري. ويشدد براني على ضرورة شفافية موازنات الدفاع إلى أقصى حدّ ممكن باستثناء بعض المصاريف التي تقتضي البقاء في سرية.

أمّا المبدأ الثاني، فهو أن تُحدد الدساتير والقوانين تنظيم الجيوش والرتب والقيادات، وآليات الرقابة والمحاسبة والجهات التي تقوم بها، مثلما يجب أن تُحدد مهمّات الجيوش بدقة، خصوصًا ما تعلق منها بالتدخل داخليًا. فالعديد من الدول تمنع في دساتيرها وقوانينها أيّ تدخل للجيش، ماعدا تقديم المساعدة في حالات الكوارث.

والمبدأ الثالث هو عدم السماح للجيش بأيّ تدخل في السياسة. وتذهب بعض الأنظمة الديمقراطية في تطبيق هذا المبدأ إلى منع العسكريين حتى من المشاركة في التصويت في الانتخابات.

وفي السياق نفسه أيضًا، يرى براني أنّ الجيوش الديمقراطية تلتزم مبدأ عدم التدخل في النشاط الاقتصادي. فلا يكون للجيش مؤسسات اقتصادية، كما يُمنع أفراده من امتلاك الشركات أو القيام بأنشطة اقتصادية أثناء الخدمة.

ويؤكد المحاضر أهمية وجود مستشارين وخبراء عسكريين مستقلين تستفيد من خبراتهم الحكومة والهيئات الرقابية والتشريعية، وكذا وسائل الإعلام، على نحو يمنح الرأي العامّ أدوات استيعاب وتقييم عمل الجيوش والمؤسسة العسكرية.

تطرق الدكتور زولتان براني في الشطر الثاني من محاضرته إلى الجيوش في الشرق الأوسط وفي البلدان العربية خصوصًا، وأسهب في الحديث عن الحالة التونسية التي شكّلت إحدى محاور دراسته للجيوش عبر العالم. ويرى أنّ تونس تمثل حاليًا قصة النجاح الوحيدة للتحول الديمقراطي الذي أطلقته الثورات العربية. ويقول إنّ الحالة التونسية تتحدى النظرية التي وضعها صمويل هنتنغتون حول الحدّ الأدنى للناتج المحلي لدولة ما حتى تنجح فيها الديمقراطية؛ ذلك أنّه وضع، من خلال دراسته للدول الديمقراطية والدول التي فشل فيها التحول الديمقراطي، حدًّا أدنى للناتج المحلي الخام كي ينجح التحول. غير أنّ تونس تحقق تحولًا ناجحًا، على الرغم من أنّ ناتجها المحلي أدنى من الحد الذي وضعه هنتنغتون.

كما يؤكد "الاستثناء التونسي" في المجال العربي، مشيرًا، على نحو خاصّ، إلى أنّ الجيش التونسي ظل الوحيد تقريبًا البعيد عن السياسة، وأنّه يُحسب للحبيب بورقيبة منْع الضباط وأفراد القوات المسلحة من الانخراط في الحزب. يُضاف إلى ذلك أنّ تونس هي الدولة الوحيدة من بين الدول العربية التي لم تحدث فيها أيّ محاولة انقلابية من الجيش.

ويرى براني أنّ التحول الديمقراطي في تونس تواجهه تحديات عديدة ليس من بينها تحدي "دمقرطة" الجيش، على عكس العديد من الدول العربية.