نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة الثامنة من المؤتمر السنوي لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي في العاصمة التونسية في الفترة 21-23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 ، بعنوان "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية".

وفي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، نوّهت سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة في تونس، بأهمية تجربة العدالة الانتقالية التي عرفتها البلاد، كما أشادت بصدور قانون تأسيس الهيئة، ودسترة وجودها. وشددت على أن عمل الهيئة كان مرتبطًا بالأساس بإحداث الإصلاحات، في حين أن المصالحة هي مهمة سياسية ومن مسؤولية الدولة والحكومة، وأن توصيات اللجنة ملزمة لهما. وبينت مميزات عمل اللجنة، واستعرضت جهودها، ومنها الاستماع لأكثر من 50 ألف ضحية، وتطبيق برنامج شامل لجبر الضرر والتعويض، كما كان من الاستحداثات تمديد برنامج جبر الضرر للمناطق التي عانت التهميش الاجتماعي، والنظر إليها باعتبارها ضحية كذلك. كما لفتت الانتباه إلى بعض الانتهاكات، منها: المتخلفة عن الاحتلال الفرنسي، والديون اللاشرعية التي تطالب بها فرنسا، والاعتذار لضحايا الاحتلال؛ أفرادًا ودولة، والتعويض عن ذلك. وعرجت بن سدرين على عديد التحديات التي عانتها اللجنة، ومنها ما يتعلق بالنفاذ إلى أرشيفات بعض الهيئات العامة والخاصة، ومنها وزارة الداخلية، التي لم توافق على فتح أرشيفها. كذلك بيّنت أبعاد صراع اللجنة مع بعض الهيئات من أجل تحقيق وضمان استقلالها. وانتهت بن سدرين بطرح بعض الرؤى عن مستقبل العدالة الانتقالية في تونس.

العدالة الانتقالية: حالات عربية

في الجلسة الأولى عُرضت جملة من الشهادات والخبرات من حالات عربية تعثّرت خطواتها في سبيل العدالة الانتقالية، مع تعثّر انتقالها إلى الديمقراطية. وقدّم المتحدث الأول معتز الفجيري، الأمين العام للمنبر المصري لحقوق الإنسان، شهادته التي تتبّع فيها مراحل تعثرت فيها مبادرات العدالة الانتقالية في ما بعد سقوط مبارك، بدءًا بحكم المجلس العسكري ومرورًا بسنة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وصولًا إلى الانقلاب العسكري. ثم قدّم الأكاديمي السوداني والخبير بالأمم المتحدة محمد عبد السلام بابكر، عرضًا لسؤال العدالة الانتقالية في سياق ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018 في السودان، وتطرق إلى الوثيقة الدستورية التي وقّعتها قوى الثورة مع المجلس العسكري، مبيّنًا بعض عيوبها ومميزاتها. كما بيّن بابكر أن أي نظام للعدالة الانتقالية في المستقبل في السودان سيواجه العديد من التحديات، نظرًا إلى تعقّد الوضع السياسي فيه، منها تشكيل المحاكم، إضافة إلى إشكالية تحقيق السلام والعدالة معًا؛ ذلك أن المحاكمات قد تدفع العسكريين إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي.

أما مصطفى عمر التير، الأكاديمي الليبي في علم الاجتماع والمعني بقضايا المصالحة في ليبيا، فقدّم عرضًا شاملًا لمسيرة المصالحة في ليبيا في سياق مسار العدالة الانتقالية التي جرت في عهد ما بعد القذافي، مشيرًا إلى أن أبرز الانتهاكات تمّت بعد انقلاب 1969، لكنه أشار أيضًا إلى أن انتهاكات عدة ارتكبت بعد ثورة 17 فبراير 2011، بالنظر إلى أنها اتسمت بالعنف والتدخل الخارجي.

دراسات مقارنة في العدالة الانتقالية: أميركا اللاتينية وأفريقيا

مثّلت قضية لجان الحقيقة والمصالحة في بلدان الموجة الثالثة للديمقراطية موضوعًا أساسيًا للدراسات المقارنة في موضوع العدالة الانتقالية، وضمّنها المؤتمر كمحور أساسي يربط هذه التجارب الدولية بموضوع الانتقال الديمقراطي، ويبيّن مؤثراتها في المساعي العربية فيما بعد 2011 في هذا المضمار، محاولًا استخلاص الدروس التي يمكن الاستفادة منها عربيًا. بهذا افتتح سلام الكواكبي، مدير المركز العربي - فرع باريس، الجلسة الثانية.

وفي هذا السياق، قدّم الباحث محمد أحمد بنيس ورقته التي درست سياسات الذاكرة معتمدةً على تجارب لجان الحقيقة في أميركا اللاتينية. وأكد بنيس أن تأسيس لجان الحقيقة قد ارتبط بتحديات عرفتها هذه البلدان واعترضت مسعاها نحو تأسيس ديمقراطية تكون بديلًا من النظم العسكرية. وأنه بقدر ما اختزلت هذه التحديات أزمة الشرعية التي عصفت بتلك الأنظمة ودفعتها إلى الانخراط في التحول الديمقراطي، أبرزت أيضًا الإمكانات التي وفّرتها هذه اللجان للفاعلين لإدارة هذا التحول وتجاوز عثراته.

أما الباحث سيدنا موسى حننه فقد أشار في ورقته التي درس فيها العدالة الانتقالية بعد الحروب الأهلية، إلى نموذج دولي آخر من القارة الأفريقية، مركّزًا على نحو لافت على حالتي رواندا وسيراليون، لما فيهما من نجاحات مهمة في إرساء دولة المواطنة وتجاوز أزمة الانقسام الإثني، وتحوّلهما من دول على شفير الانهيار إلى دول تعرف معنى جودة الحكم.

في حين تطرّق الباحث أحمد إدعلي إلى الحالة الأكثر شهرة على المستوى الدولي، وهي حالة جنوب أفريقيا، وقدم تقييمًا عموميًا لتلك التجربة، التي يراوح فيها الرأي بحدة بين من يرى أنها لم تكن تجربة حقيقية للعدالة الانتقالية بسبب فرض سياسات النسيان وطغيانها على سياسات الحقيقة والمعاقبة، وبين من يرى فيها نموذجًا جيدًا لكيفية تطويع العدالة الانتقالية لطي صفحة الماضي وتعزيز الوئام الوطني.

مسارات العدالة الانتقالية بين تونس والمغرب: نجاحات وعثرات

في الجلسة الثالثة، تكثفت بؤرة النظر حول تجربة العدالة الانتقالية التونسية. وحول سياقاتها وإكراهاتها، استعرض الباحث عدنان الإمام المسارَ الذي اتخذته العدالة الانتقالية التونسية منذ سقوط بن علي حتى صدور تقرير لجنة الحقيقة والكرامة التونسية. في حين ركّز تحليل الباحث عدنان نويوة على موضوع الفساد، مبينًا أن الدستور التونسي الجديد أولى الدولةَ مهمة مكافحة الفساد، وأصدر البرلمان قانون إنشاء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وقانون حماية المبلّغين، والقانون المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح، وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح في القطاع العام. ورأى نويوة أن مسار العدالة الانتقالية قد انتابه تعثّر على الجانب المتصل بمكافحة الفساد.

ونقلت الباحثة صوفية حنازلة الجدل إلى قضية الخطاب وصنع التصنيفات ضمن خطابات العدالة الانتقالية التونسية، مركّزة على عناصر الزمان والمكان والجسد والذاكرة، فبيّنت أن الخطاب حول العدالة الانتقالية أظهر قدرات الهيمنة Hegemonic Power التي تحويها مصفوفة زمان/ مكان/ جسد/ ذاكرة؛ فالعدالة الانتقالية اعتمدت التكثيف المسرحي لطقوس العبور أو ما أسمته "طقوس التذكر الجماعية"، التي ظلّت تراوح بين فعل التنظيم المحكم من طرف القائمين على خطاب العدالة الانتقالية، وبين أداءات لم تجاوز كونها مجرد تنويعات على شكل واحد من الخطاب. ولم يوفر خطاب العدالة الانتقالية سوى غطاء أيديولوجي رقيق جدًا جرت من خلاله التعمية على عمليات نفي متواصلة لأجساد وأزمنة وأمكنة وذاكرات.

العدالة الانتقالية في المغرب: الذاكرة والتاريخ

ركزت الجلسة الرابعة التي اختُتمت بها أعمال اليوم الأول، على العدالة الانتقالية في المغرب، حيث جاء عرض الباحث محمد سعدي حول مسألة الاعتراف وموقعها في بناء الذاكرة ضمن سياق العدالة الانتقالية، متخذًا حراك الريف وشبابه حالةً للنظر والتقييم. في حين نقل الباحث سعيد الحاجي الجدل العلمي إلى مسألة الكتابة التاريخية وتقييم سعي هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب لاتخاذ السرد التاريخي آليةً لجبر ضرر الضحايا، منوهًا بحالة عبد السلام الطود.

أما شفيق عبد الغني فقدم تقييمًا عموميًا لعمل هيئة الإنصاف والمصالحة على هدف ترميم الذاكرة المغربية وإزالة أثر ما خلّفته "سنوات الجمر والرصاص" من جراح عميقة فيها. وكشف عبد الغني أن الرهان على المصالحة كان يروم تهيئة الضحايا للتعايش السلمي مع من ألحقوا الضرر بهم، الأمر الذي اقتضى من الدولة المغربية تحمّل مسؤولية أخطائها، من خلال الاعتراف بانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الضحايا.

خبرات وشهادات دولية

بدأ اليوم الثاني للمؤتمر بجلسة تستعرض خبرات وشهادات دولية في مجال تطبيق برامج العدالة الانتقالية، ترأسها محمد أحمد بنيس، أستاذ العلوم السياسية في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين في طنجة، وقد شارك فيها كل من ، ومود رور مديرة البرامج في مؤسسة كوفي عنان بجنيف، وبوغسلاف توماس شيفرسكي ممثل معهد التذكر الوطني بمفوضية مقاضاة الجرائم المرتكبة في حق الأمة البولندية في وارسو.

استعرض جيرمي سيركن، الأكاديمي الجنوب أفريقي والرئيس السابق للجنة حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، أهمية الدراسات النظرية إلى جانب الدراسات التطبيقية؛ وذلك من أجل تحديد المفاهيم النظرية التي تُعِين على الفهم والتفسير وربط الحالات التطبيقية بعضها ببعض، وكذا فهم الصورة الكلية لنظام العدالة الانتقالية. وأشار إلى الأبعاد الرسمية وغير الرسمية للعدالة الانتقالية، فضلًا عن جذور الصراعات، وصلاحيات لجان الحقيقة. أما مود رور مديرة البرامج في مؤسسة كوفي عنان بجنيف، فبدأت بالتنبيه إلى أنّ إحلال السلام، في عقب انتهاء الصراعات، عادةً ما يستمر في الحدّ المتوسط سبعة أعوام فقط، في حين تنجرف حوالى 60 في المئة من النزاعات إلى هوة الصراع مرة أخرى. وهذا ما دفع إلى الاهتمام بموضوع تعزيز السلم عبر آليات منها البحث عن الحقيقة، ومبادرات المصالحة، وغيرها من آليات العدالة الانتقالية التي أصبحت نهجًا معياريًا يرشد عمليات وضع اتفاقات السلام وإدامته. أما بوغسلاف توماس شيفرسكي، ممثل معهد التذكر الوطني بمفوضية مقاضاة الجرائم المرتكبة في حق الأمة البولندية في وارسو، فقد عرض مشكلة محاكمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم الشيوعية في بولندا، إضافة إلى المؤسسة التي تتعامل مع هذه القضايا في بولندا. كما تطرق إلى معهد التذكر الوطني في بولندا الذي أنشأه البرلمان عام 1998، وتشمل أعماله مهمات قضائية وتوثيقية أرشيفية، إضافة إلى المهمات التأريخية والتعليمية.

سؤال العدالة الانتقالية في المغرب بين الذاكرة والتاريخ

في الجلسة السادسة للمؤتمر، طرح مصطفى العارف، أستاذ الفلسفة بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، مسألة الذاكرة الجماعية في المغرب ومراوحتها بين التأريخ والنسيان، مقدمًا طرحًا نقديًا يرى في التذكر بابًا لتمجيد الألم وإبقاء جذوته سببًا في الشقاق الاجتماعي. أما محمد مزيان، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة ابن طفيل في المغرب، فقد ربط موضوع الذاكرة بقضية المصالحة، وهي أكثر القضايا تعقدًا والتباسًا في تجربة العدالة الانتقالية المغربية. وفي مقارنة الحالة المغربية بحالات دولية وعربية، في الموضوع ذاته، استعرض عبد العزيز الطاهري، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس في الرباط، كيف جرت التحوّلات في هذا الشأن على مستوى التأريخ، مع إيلاء المؤرخين الاهتمام بموضوع الذاكرة، وتكاثر الدعوات إلى فتح ورش تاريخ الزمن الراهن ومباشرته.

قضايا المصالحة والعدالة الانتقالية: حالات عربية

في الجلسة السابعة، قدم حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استعراضًا لحالة العراق، وسياقها السياسي والثقافي. وانتقد تحوّل برنامج العدالة الانتقالية الذي طُبّق في العراق عن غايته، ليكون أداةً في صراع طائفي؛ إذ فُهم من بعض المجموعات السكانية على أنه يستهدفهم وأنّه مصمّم ضدهم، كما أن سياق تطبيقه غلبت عليه نوازع صراعية لا تصالحية. وفي مداخلته، أوضح عبد النور المنصوري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد بوضياف في الجزائر، أنّ البعد المعرفي المتمثّل في غياب النموذج سببٌ أساسي لعسر المصالحة في الحالات العربية. ودعا الباحث إلى وجوب تقييم تجارب المصالحة والعدالة الانتقالية ببعديها النظري والتطبيقي، بوصفها خطوة ضرورية لصياغة نموذج يوافق سياق الدول العربية. أما نوري دريس، أستاذ علم الاجتماعي بجامعة محمد لمين دباغين، سطيف في الجزائر، فقد اشتبك نقديًا مع التجربة الجزائرية، ملمحًا إلى اتصافها بالشعبوية. ورأى أن دموية الأزمة الجزائرية ترجع إلى تصادم أيديولوجيتين يوتوبيتين، الأولى شعبوية قومية، والثانية شعبوية دينية. كان التصور الشعبوي للسياسي والاجتماعي حاضرًا بقوة في وثيقة السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر بعد أن تمّ وضعه في سياق "انتصار" عسكري للسلطة على الجماعات المسلحة الرافضة له. وقد كرّست الوثيقة التصور السلطوي المُجزّأ للتحول الديمقراطي، وتوفير غطاء قانوني له ليستمر في عملية التراجع عنها.

العدالة الانتقالية في تونس: قضايا الخطاب والضحايا

في الجلسة الثامنة، تناول عادل العياري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس، أوضاع النساء الضحايا من مسار العدالة الانتقالية في تونس، وتقييم تضمينهن في هذا المسار استنادًا إلى المحكات الأبرز؛ وهي التعويض وجبر الضرر، وكشف الحقيقة، والمحاسبة. وأكد العياري أن انتظارات الضحايا النساء في تونس ظلت معلقة؛ إذ لم يستجب لها التحول السياسي الذي جرى من بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي. واستعرض محمد الطاهر خنيسي، أستاذ القانون الخاص بجامعة جندوبة في تونس، إطار تنظيم العدالة الانتقالية في تونس، والكيفية التي أديرت بها مؤسسته الرئيسة، هيئة الحقيقة والكرامة، وقدم تقييمًا لمخرجاتها في ضوء المنوط بها من مهمات. ورأى الخنيسي أن تصاعد مستويات الصراع في داخل هيئة الحقيقة والكرامة، وكثرة صداماتها مع مؤسسات الدولة، ونقص الكفاءة القانونية على مستوى مجلسها، أسبابٌ جعلت الحكم بفشل الهيئة يطغى على عديد التقييمات. وقدم أحمد عثمان، الأستاذ بجامعة تونس، وصفًا ديموغرافيًا وسوسيولوجيًا للضحايا المشمولين بأعمال هيئة الحقيقة والكرامة في تونس. وأكد أن الهيئة استطاعت، في الحيز الزمني والإمكانات التي توافرت لها، أن تستكمل – نسبيًا - الأهداف التي بُعثت من أجلها، كما أكد أنّ المهمة بقيت على عاتق المؤسسات الرسمية التي أحالت إليها الهيئة الملفات للنظر فيها، ومحاكمة الجناة، ثم المرور إلى جبر الأضرار والمصالحة "الممكنة".

عمق الصلة بين العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي

تحدثت في الجلسة التاسعة من المؤتمر حورية مشهور، وزيرة حقوق الإنسان في اليمن سابقًا، وبينت حورية صعوبة السياق الذي طرحت فيه العدالة الانتقالية في اليمن، فبدايةً أبقت مبادرة مجلس التعاون الخليجي على رأس النظام السابق، ومنحته الحصانة في مقابل التنازل سلميًا عن السلطة. ورغم احتجاج شباب الثورة، صدر قانون الحصانة في 21 كانون الثاني/ يناير 2012، قبل إقرار مشروع العدالة الانتقالية. وأثار مشروع قانون العدالة الانتقالية شكوكًا وهواجس لدى الأطراف كافة، حتى قبل أن يتم إعداده، كما أنه خالف المعايير الدولية للعدالة الانتقالية، ومكونات أساسية هي الكشف عن الحقيقة واعتراف المنتهكين لحقوق الإنسان واعتذارهم والتزامهم، وكذلك طلب الصفح والمسامحة من الضحايا. واستبعد المشروع كليًا الإجراءات القضائية، مركزًا فقط على المصالحة الوطنية وجبر الضرر.

في حين أشار سلام الكواكبي مدير فرع المركز العربي بباريس، إلى أن الانتهاكات التي تعرض لها السوريون هي الأكثر توثيقًا في التاريخ، وبعض هذا التوثيق تم بيد النظام وتخطيطه؛ إذ عمد إلى نشرها، بثًا للخوف في النفوس. وفي ظل القانون السوري، لا مجال لمعاقبة المنتهكين لحقوق الإنسان؛ فنصوصه تحمي رجال الأمن من المساءلة على الانتهاكات، ولا مجال في القضاء السوري لمحاكمة من يقتلون. وإثر استعراضه للانتهاكات الواسعة هذه، أضاف الكواكبي أن ثمة تحديات كبيرة أمام أي برنامج للعدالة الانتقالية؛ فهي ستظل مرتبطة بالحل السياسي، وإن كان لا يزال بعيدًا.

وفي عرضه للحالة المصرية، أكد أسامة رشدي، السياسي والحقوقي المصري، وعضو المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان سابقًا، أن فاعلي ثورة يناير قد أخفقوا في إدارة ملف العدالة الانتقالية؛ إذ عجزت عن محاسبة من قاموا بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سواء على مدار سنوات حكم مبارك، أو في خلال احتجاجات ما بعد يناير 2011.

قضايا المصالحة في حالات عربية

وخصصت الجلسة العاشرة، لاستكمال عرض المزيد من الحالات العربية في مجال تطبيق سياسات المصالحة والعدالة الانتقالية. وتناولت مداخلة أحمد إنداري، الباحث الموريتاني، ما عرف بالتجربة الموريتانية في مجال العدالة الانتقالية، والتي أكد أنها اسم لأمر لم يحصل بعد، على الرغم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حصلت في ظل الحكمَين المدني والعسكري، وما نراه يمكن وصفه وحسب بتجربة قَيد التشكل. واستعرض الباحث اليمني محمد الحميري، تجربة العدالة الانتقالية في اليمن، حيث بيّن أن مشروع العدالة الانتقالية والمصالحة قد جمد عند حد النقاشات، التي لم تتحول إلى واقع تطبيقي، وكان طبيعيًا أن ينتهي المشروع مع انهيار العملية السياسية إثر انقلاب جماعة الحوثي المسلحة، في أيلول/ سبتمبر 2014، ودخول البلاد في موجة احتراب داخلي وتدخّل خارجي.

أما نبيل زكاوي، أستاذ القانون بجامعة فاس في المغرب، فطرح في مداخلته عن مسار العدالة الانتقالية في المغرب، الخصوصية التي اتسمت بها التجربة المغربية وميّزتها عن كثير من التجارب المحلية الأخرى؛ واصفًا إياها بأنها تجسد انتقالًا من نظام تسلّطي إلى نظام منفتح، وليس انتقالًا من الحرب إلى السلام. وبيّن زكاوي أن إنشاء هيئة للإنصاف والمصالحة، ضِمن النظام السياسي نفسه، أثّر كثيرًا في مردوديتها؛ فلم يكن في مقدورها تجاوز الخطوط التي ظل يرسمها هذا النظام.

وفي الموضوع نفسه، عقدت الجلسة العاشرة، وبدأت بمداخلة للباحثتين لور أبي خليل، أستاذة العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية، وعزة الحاج سليمان، أستاذة القانون بالكلية نفسها. أكدت الباحثتان أن قانون العفو العام عن مرتكبي الجرائم المرتبطة بالأحداث اللبنانية التي جرت في فترة الحرب الأهلية، يُعدّ سببًا في عدم بدْء مرحلةٍ انتقالية لإرساء السلام وتكريس إفلات مقترفي جرائم الحرب من العقاب.

وعرج محمد خليفة صديق، الأكاديمي السوداني، على واحدة من التجارب ذات الخصوصية وهي اتفاقية الدوحة للسلام في دارفور، التي تمت برعاية دولة قطر؛ حيث جمعت طرفي النزاع في دارفور لإنجاز مشروع غير مسبوق إقليميًا. وبيّن صديق أن حالة اتفاقية الدوحة لسلام دارفور تختلف عن جُلّ تجارب العدالة الانتقالية التي كانت تتم بمبادرة الدولة نفسها، أو بوساطة غربية، أو أممية. فوثيقة الدوحة نشأت في سياقٍ عربيٍ، وخلَت من ضغوط الوسيط والشك في أغراضه. وعلى الرغم من جودة الإطار الذي طرحته الوثيقة، فقد لازم التعثر تنفيذها؛ بسبب تقاعس أطراف النزاع عن الوفاء بالتزاماتها كاملة، وعدم وفاء المانحين الدوليين بالتزاماتهم التي قطعوها تجاه عملية السلام في دارفور.