نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمره السنوي لقضايا التحول الديمقراطي في دورته السابعة يومي 21-22 أيلول/ سبتمبر 2018 في مدينة الحمامات التونسية، تحت عنوان "العامل الخارجي وإشكاليات الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية بعد عام 2011". وشارك في المؤتمر نخبة من الباحثين العرب من تخصصات علمية وأكاديمية مختلفة. وقد خصّص المركز العربي أعمال هذه الدورة لرصد دور العوامل الإقليمية والدولية في تجارب الانتقال الديمقراطي التي أعقبت ثورات 2011 العربية وتوثيقها، وتفسير جوانبها المختلفة في ظل الاعتناء البحثي العربي المحدود بالعامل الخارجي، وتداعياته على عملية الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية.

وقد أشار الدكتور مهدي مبروك، مدير المركز العربي - فرع تونس، في كلمته الافتتاحية إلى أن فسحة السؤال العلمي عما جرى في الربيع العربي باتت تضيق، فيما تتسع الفجوة بين الأطروحتين الحدّيتين في الموضوع؛ أي أطروحة التآمر الخارجي من جهة، وأطروحة الصناعة المحلية للثورات العربية من جهة أخرى. ولهذا تجدر إعادة طرح السؤال من أجل إيجاد تفسيرات موضوعية ودقيقة لما حدث في بلداننا منذ أكثر من سبع سنوات على انطلاق "الثورات العربية".

العامل الخارجي: الإشكالية والإطار النظري

ركزت أولى جلسات المؤتمر، التي رأسها الدكتور منير كشو، بشكل موسع على الجوانب النظرية حول علاقة العامل الخارجي بالانتقال الديمقراطي، وذلك من خلال مراجعة نقدية للأدبيات والأطروحات السائدة أكاديميًا حول الانتفاضات الشعبية العربية 2011.

وفي هذا السياق، رصد الباحث محمد سعدي في ورقته سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية، والتي غلبت فيها الاعتبارات الإستراتيجية على المقاييس المعيارية والأخلاقية التي يتبناها، موضحًا ضرورة مراجعة المشروطية الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.

أما الباحث عبد الفتاح ماضي فقد تطرق في ورقته إلى الاتجاهات العامة التي تعكسها أدبيات التحول الديمقراطي في ما يتعلق بدور العوامل الخارجية، والتي كان الاهتمام بها محدودًا. وقام باستقراء خبرات الانتفاضات الشعبية العربية، ووقف عند عدة إشكاليات؛ منها الإرث التاريخي للدول القُطرية ودور الخارج فيها، والهيمنة الغربية التي تؤطر العلاقات الغربية - العربية، والإقليم المعادي للديمقراطية.

وقدم الباحث عز الدين حميمصة تحليلًا لخطاب مراكز الأبحاث الأميركية التي تسهم في توجيه السياسات الخارجية الأميركية، مشيرًا إلى اعتماد هذا الخطاب مفاهيم المصلحة الأميركية على نحو مطلق. وفسّر ذلك بأسباب أبرزها تحوّل المواقف لدى صناع القرار الأميركي من الابتهاج بالربيع العربي والتعاطف مع قواه إلى النقيض تحريضًا ووقوفًا بوجه التغيير وقواه.

الولايات المتحدة الأميركية وأسئلة التغيير الديمقراطي

ركزت الأوراق البحثية في الجلسة الثانية، التي رأسها الدكتور حسن الحاج علي، على دراسة سياسات الولايات المتحدة الأميركية تجاه الثورات العربية؛ إذ تناول الباحث محمد الشرقاوي الموقف الأميركي من الانتفاضات الشعبية العربية، وجدل المبادئ والمصالح. ورأى الشرقاوي أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب تخوض حقبة الانعزالية، وأدارت ظهرها لثقافة حقوق الإنسان، وتزامنت البراغماتية المصلحية لترامب مع تراجع المدّ الديمقراطي في البلدان العربية.

أما الباحث رضوان زيادة فقد قام بتحليل أبعاد السياسة الأميركية في سورية من بداية الثورة، وحتى السيطرة الروسية 2011–2018، والضغوط الخارجية التي أدت دورًا حاسمًا في دفع الثورة السورية من حركة جماهيرية مطالبة بالتغيير إلى ثورة مسلحة، ثم إلى حرب أهلية ونزاع دولي، مؤكدًا أن روسيا والنظام السوري وحدهما يملكان خطة إستراتيجية تقوم على تكرار ما قام به بوتين في الشيشان. أما الولايات المتحدة والغرب عمومًا فليس لديهما إستراتيجية في سورية.

في السياق ذاته، استعرضت الباحثة فوزية الفرجاني تأثير السياسة الأميركية في عملية الانتقال الديمقرطي في تونس، حيث بقيت السياسة الأميركية تراوح بين الدوافع المثالية المتمثّلة في تأييد الديمقراطية وأولويات السياسة الواقعية الساعية لتحقيق المصالح الإستراتيجية الثابتة. وأكدت أن المجال الأمني حظي بالأولوية في جميع الأحوال، ولتبقى السياسة الأميركية تجاه تونس محدودة المقبولية والفاعلية.

التغيير المؤجل في المغرب العربي وظلال الضغوط الدولية

في الجلسة الثالثة، التي رأستها الدكتورة فاطمة الصمادي، تناولت الأوراق البحثية دراسة حالات من بلدان المغرب العربي. فقد عرض الباحث فرج معتوق الدور الفرنسي وتأثيره في الثورات العربية 2011 بشكل عام ، والثورة التونسية بشكل خاص، مشيرًا إلى أن الربيع العربي ظل محط إعجاب لدى شريحة فرنسية قليلة العدد، ومصدر قلق لشريحة فرنسية أخرى، تستكثر على العربي أن يكون متمردًا ضد الطغيان، وتخشى من فكرة الثورة لأسباب داخلية وخارجية.

وقد تطرق الباحث أحمد قاسم حسين إلى دور القوى الخارجية في الانتقال الديمقراطي في ليبيا بعد الاتفاق السياسي "الصخيرات"، وبيّن حالة الازدواجية التي وسمت سياسات القوى الدولية والإقليمية تجاه ليبيا، واتسام حركتها بالتغير المستمر تعزيزًا لمصالحها ونفوذها فحسب؛ ما ولّد تناقضات بين القوى السياسية والعسكرية الليبية وعطّل عملية الانتقال الديمقراطي.

أما الباحث محمد بنيس فقد استعرض دور العوامل الخارجية في استقرار السلطوية المغربية، وأوضح أن العوامل الخارجية أسهمت في استقرار السلطوية المغربية عبر تشجيعها على لبرلة محدودة لا تسمح بالتحول نحو الديمقراطية. وأضاف أن قدرة النظام على توظيف العوامل الخارجية منحت السلطة هامشًا لتدبير التوازنات الداخلية والتحكّم في منسوب اللبرلة مع الحفاظ على نواته السلطوية.

الاقتصاد والأمن بين صراعات الداخل ومصالح الخارج

خُصصت الجلسة الرابعة التي رأسها الدكتور معز السوسي لدراسة حالات تطبيقية في موضوعي الأمن والاقتصاد في عملية الانتقال الديمقراطي. وقدم الباحثان حسن الحاج علي وعديلة تبار بحثهما حول قضايا الأمننة في القرن الأفريقي، وتأثيرها في خفض أولوية مسألة التحوّل الديمقراطي في قائمة أولويات الدول الكبرى. وقد بقي خطاب محاربة الإرهاب يؤطر التصورات حول التعامل مع هذه المنطقة.

وفي استعراضه لحالة الجزائر، أكد الباحث نوري دريس، في دراسته لتجربة التحول الديمقرطي في الجزائر في ظل الفشل الاقتصادي، أن ارتباط المجتمعات العربية اقتصاديًّا بالريع والسوق العالمية، هو أحد أهم أسباب فشل التحول الديمقراطي. ورصد دريس كيف أن الجماعات الريعية تخشى فقدان السلطة وكل الامتيازات الاقتصادية التي تتمتع بها، ومن ثم فهي تعمل على إجهاض كل تحوّل نحو الرأسمالية المنتجة وتفادي الخضوع لقوانين السوق.

وتناول الباحث عبده موسى أثر المؤسسات المالية الدولية في تعزيز الاستبداد، وركّز على حالة مصر. ورأى أن الطبيعة الوحشية للنيوليبرالية في بلدان الأطراف تكمن في عاملين، هما: سياسة العلاج بالصدمات الموصى بها من المؤسسات المالية الدولية، والقمع السياسي والاجتماعي الواسع؛ ما يشكل عامل سلب للديمقراطية، وتفريغ المشروطية الديمقراطية من أثرها المرجو.

وفي عقب كل جلسة من الجلسات الأربع، فُتح المجال لمداخلات الحضور، وجرت مناقشات مستفيضة، أظهرت اهتمامًا واسعًا بما قدمه الباحثون.

أدوار القوى الإقليمية

وشملت أعمال اليوم الأخير من المؤتمر ثلاث جلسات. ناقشت الجلسة الأولى، برئاسة عبد الرضا أسيري، موضوع "القوى الإقليمية في المشرق العربي"، واستهل ياسر الجزائرلي ورقته حول "إيران وتركيا والثورة السورية: الدور الإقليمي والتحالفات الدولية"، بالتأكيد أن ما جرى في سورية منذ اندلاع الثورة كان يبرهن على عدم إمكانية دراسة الأدوار الإقليمية في الشرق الأوسط بمعزل عن الأدوار الدولية للقوى العظمى. وبيّن أنه بقدر ما خشيت الولايات المتحدة من انتصار الثورة السورية، فإنها كانت قلقة من توسّع النفوذ الإيراني في سورية وتعاظم نفوذ تركيا. ولعل تناقض مسلكها في اتخاذ إيران - وهي من ألد أعدائها - حليفًا لها في العراق، وتحالفها مع القوات الكردية المعادية لحليفتها تركيا، عضو منظمة حلف الشمال الأطلسي، أن ينبهنا إلى ضرورة تقديم قراءة مغايرة للسياسة الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.

في السياق ذاته، قدمت فاطمة الصمادي في ورقتها المعنونة "من تونس إلى سورية: كيف تعاملت إيران مع الثورات العربية؟"، عرضًا لمحاولات إيران توظيف الثورات العربية لتعزيز نفوذها والتبشير بنموذج سياسي أسمته "الديمقراطية الدينية". وحين وجدت أن هذه الثورات تسير عكس ما تريد، تحول حماسها إلى نقدٍ لقوى الثورة، واعتبرت طهران الثورة السورية "ظاهرة غير وطنية" صُنعت في الخارج، وأن إسقاط الأسد من شأنه إضعاف مكانتها أمام السعودية، وزعزعة نفوذها في العراق.

وقد استمرت معالجة أدوار القوى الإقليمية في الجلسة الثانية من أعمال اليوم الثاني، والتي رأسها فتحي الجراي. وطرح فيها عبد الرضا أسيري معالجته لموضوع "المتغيرات الإقليمية وتأثيرها في مسار التحول الديمقراطي في الكويت"، وأشار إلى أن تأثير المتغيرات الخارجية في مسار التحول الديمقراطي في الكويت كان دأبًا مستمرًا، وللعوامل الخارجية تداعيات على مجمل الحياة السياسية في الكويت، بما ينبئ بضرورة إجراء إصلاحات لترسيخ التجربة الديمقراطية، مع مواكبة التحولات الدولية والتغيرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية داخليًّا.

وقدّم أحمد إدعلي عرضًا للدورين السعودي والإيراني في اليمن وأثرهما في الانتقال السياسي، وأوضح أن ما حوّل اليمن إلى ساحة للمواجهة الإقليمية هو خشية السعودية من نجاح تجربة ديمقراطية في فنائها الخلفي قد تعزز نفوذ منافستها الإقليمية إيران. لقد كانت تدخلات الدولتين سببًا في إجهاض الانتقال إلى الديمقراطية. ويظل طموح إيران والسعودية إلى الهيمنة والريادة في اليمن يصطدم بصعوبات، منها أن خريطة اليمن الاجتماعية والمذهبية لا تيسّر لإيران توسيع الولاءات وتشكيل أحلاف دائمة.

العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي بمصر

وقد خُصصت الجلسة الأخيرة، التي رأسها منير السعيداني، لدراسة تأثير العامل الخارجي في حالة الانتقال الديمقراطي في مصر. وطرح عماد حرب معالجته لمواقف القوى الإقليمية من الانتقال الديمقراطي في مصر، مستهلًا ذلك بتأكيد التأثير البالغ لبلدان الخليج والولايات المتحدة في مسارات التحول التي سارت فيها الحالة المصرية، وأن ضعف الدور الأميركي قد عزّز تدخلات الدول الإقليمية وسعيها إلى التأثير في الظروف الداخلية المصرية بما يحقق مصالحها الإستراتيجية. واعتمد تدخل الفاعلين الإقليميين في مصر على موارد مادية واسعة، وجهود داعمين محليين يعملون على تنفيذ الأجندات الإقليمية.

وقد سلط محمد المنشاوي في ورقته الضوء على العلاقات العسكرية المصرية - الأميركية وتأثيرها في الانتقال الديمقراطي في مصر، مؤكدًا أن تطورات الأوضاع السياسية في مصر بعد عام 2013 قد وفّرت الفرصة للولايات المتحدة للبدء في عملية تغيير فعلي في الجيش المصري. واستغلت سلوك النخبة العسكرية السلبي تجاه عملية التحول الديمقراطي الوليدة من أجل تحقيق هدف إستراتيجي هو تغيير عقيدة الجيش ونمط تسلحه لتوافق الإستراتيجية الأميركية. ورغم دوره في دعم الإستراتيجية الأميركية لمكافحة الإرهاب، فشل النظام المصري في إقناع الدوائر الأميركية بأهمية الدور المصري في خدمة عموم المصالح الإستراتيجية لواشنطن، خصوصًا وأنه عجز عن تأدية دور القائد الإقليمي في ملفات مثل ليبيا وسورية واليمن وفلسطين.

واختتمت أعمال المؤتمر بحلقة نقاشية أدارها مهدي مبروك لاستخلاص استنتاجات وآفاق ما دار في جلسات المؤتمر، كما تم فيها عرض موضوع الدورة الثامنة لمؤتمر قضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي في العام القادم 2019، والذي خصص لموضوع "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي".