عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الفترة 13-15 أيلول / سبتمبر 2014 - في الأردن - الدورة الثالثة من المؤتمر السنوي العلمي في قضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي تحت عنوان "المسألة الطائفية وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير".
في محاضرة تأسيسية لموضوع المؤتمر، تحدث الدكتور عزمي بشارة عن مفهوم الطائفية وتحولاته التاريخية وصولا إلى نشأة الطائفية السياسية في منطقة المشرق العربي، وأوضح أن بروزها بمعناها المعاصرِ وليد استغلال الاستعمار للمنظومةِ الاجتماعيةِ القائمةِ، ثم طريقةِ تأسيسه لقواعد بناء الدولة التي ستَرِثُها الدولةُ الوطنيةُ المستقلّةُ بعد ذلك. وأبرز أن الطائفيّةَ السياسية التي تستثمر التَبعيّة لدِينٍ أَوْ لمَذهبٍ ديني لتحويلِ أتباعِ هذا الدينِ إلى جماعةٍ تُحافظُ على نفسِها في وجهِ كل ما تراه تهديدا لها، ثمّ تحويلها إلى قوّةٍ سياسيّةٍ لها مطالبُ من الدّولة، هي ظاهرةٌ ترافقت مع نشوء الدّولةِ الحديثة.
وقال إنّ الطائفيّةَ السياسيّةَ رَفَعَتْ رأسَها في بلادِنا وازدَهرَتْ معَ فَشلِ مَسارَي الدّولةِ الوطنيّةِ الحديثةِ القائمة على المُواطنة، والديمقراطيّة؛ مؤكدًا أن الاستبداد الذي استَخدمَ الأيديولوجيةَ السياسيةَ القوميةَ لخِدمةِ سَيطرتِه ونُظُمِه السياسيةِ، وفَرَضَها على العربِ وغيرِ العربِ، أجَّجَ الطائفيةَ، ومَنَعَ تكوُّنَ المواطَنةِ بوصفِها انتماءً للدولة لا يحتاج إلى الطائفةِ أو العشيرةِ أو الولاءِ للسُّلطانِ من أجل تكريسه.
وتطرق الدكتور عزمي بشارة إلى نماذج للطائفية السياسية في واقع المشرق العربي مستغربا أن الدولةَ اللبنانيةَ أَعادتْ إنتاجَ الطائفيةِ بعدَ الاستقلالِ بديناميةٍ مؤسسيّةٍ أَقْوى ممَّا كانَتْ عليْهِ في مرحلةِ الانتداب. وفي المقابل فإن مراجعة تاريخِ العراق تظهر أنَّه ليس له تاريخٌ في الطائفيّةِ السياسيّةِ، وأنَّ تحويلَ الطائفيّةِ الاجتماعيّة إلى طائفيّةٍ سياسيّةٍ هو مِنْ نتائجِ التدخُّلِ الأميركي في العراق وضَرْبِ الدّولة، والتدخُّلِ الإيراني، وجرَى بعدَ الاحتلال تبنِّي نظامٍ ديمقراطي مِنْ حيثُ الشّكْل، في حين يجري تنظيم السكّانِ سياسيًّا على أساسٍ طائفيٍّ، وتتعامل الدولة معَهم على الأساسِ نفسِه، ما جعَلَ الديمقراطيةَ أداةً في تطيِيفِ الدولةِ وأجهزةِ القمْعِ مع تهميشِ الطوائفِ الأخرى. وهذا بالطبعِ أَسوَأُ مِن النظامِ الطائفي.
ويرى بشارة أن تاريخ المشرقِ العربي يثبت أنَّ التديّنَ السياسي إذَا وقعَ في مجتمعاتٍ متعدّدةِ الطوائفِ وتُعانِي أصلًا مِنْ عدمِ استقرارٍ في هُويّتِها الوطنيةِ أو القوميةِ، فإنَّه يَؤُولُ بالضرورةِ إلى طائفيةٍ سياسيةٍ، ويَستخدِمُ الطائفيّةَ في التحشيدِ خلْفَه.
ويرى الدكتور عزمي أن ظهور نموذج الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) هو نتيجة لقاء شديد الانفجار بين السلفيّةِ الجهاديةِ والطائفية. والأخطر أنَّ هؤلاء تكفيريّونَ وليسُوا طائفيِّينَ فحَسْب، ويمثِّلون نُكوصًا إلى مرحلةِ ما قبلَ الطائفيةِ التي نَعرِفُها إلى مرحلةِ الحروبِ الدينية. هذا إضافةً إلى أنَّهم لا ينتَمونَ لأَيِّ حدودٍ معروفةٍ لطائفةٍ، بل يمثِّلونَ إِحياءً كارثيًّا مشوّهًا لمَفهومِ الأمّةِ والخِلافةِ، ما قبْلَ الدولة، وما قَبْلَ حتّى الطائفيةِ المعترِضةِ على الدولة. ولا يُمكنُ أَنْ تنتهيَ هذه الردَّةُ الكبرى عن التمدُّنِ العربي إلّا بِمَأْساة. لكنه يرى أن "داعش" أوصلت الأمور إلى نهايَتِها القُصْوَى الكارثيَّةِ، وهو ما سيفرض بعدَها مُراجعات علَنيّة لأُمورٍ كثيرةٍ كان مَسكوتًا عَنْها في تاريخِنا.
قدم الدكتور برهان غليون محاضرة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر عنوانها "الطائفية في الصراعات الوطنية والإقليمية"، أكد فيها أن شبح الطائفية يخيم اليوم على كل شيء: على شعور الناس بهويتهم وعلى السياسة، وعلى الدين نفسه. وأوضح أن الطائفية السياسية برزت عندما فشل مشروع الدولة الوطنية وحين أصبحت الدولة وسيلة للسلب والظلم والقهر، ولم تقدم تلك الدولة الحديثة للمواطن شيئًا غير الذل والقهر وتجريده من أي حماية، فأصبح الناس يبحثون عما يؤمن لهم أمنهم وحمايتهم ومكانتهم. وشدد على أن الطائفية السياسية ليست صنيعة العامّة ولا شغلهم الشاغل إنما هي صنيعة السياسيين الذين يستغلونها. وأوضح أن الطائفية عابرة لحدود الدول الوطنية في العديد من الحالات، ورأى أن الخطاب الطائفي تتعدد أصواته ومصادره في منطقة المشرق العربي، غير أن النظام الإيراني حاليا هو صاحب أسوأ خطاب طائفي.
من جانبه، أبرز الدكتور أحمد بيضون في محاضرة بعنوان: " للطائفية تاريخ: في شروط تشكّل الطوائف بما هي وحدات سياسية" سياقات وآليات تحول الانتماء إلى جماعة مذهبية أو اجتماعية إلى تعصب طائفي جرى استغلاله سياسيا.
وشهد اليوم الثاني من المؤتمر تقديم محاضرتين رئيستين لكل من الدكتور وجيه كوثراني والدكتور طارق متري. تحدث الدكتور وجيه كوثراني في موضوع "الميثاقية الطوائفية وأزمة بناء الدولة: دروس من المخبر اللبناني"، وقال إن من أهم النتائج التي ترتبت على خمس وثلاثين سنة من التجربة التاريخية الموزعة على ثلاثة فصول: فصل الحرب الأهلية، وفصل الوصاية السورية، وفصل اغتيال الرئيس الحريري وسلاح حزب الله، أنّ الطوائف اللبنانية أصبحت تؤمن أن الطائفة تحتاج إلى من يحميها، والحماية تتم عن طريق تعزيز دور ممثليها في مواقع سلطات الدولة وبالتالي تصبح الحماية إحدى أهم مهمّات التمثيل السياسي الشعبي. وأكد على ضرورة تطوير الصيغة الميثاقية وصيغة الديمقراطية التوافقية في لبنان، لكي لا تصبح هذه الأخيرة ديمقراطية طوائف، وللتخفيف أو الحد من الحمولة الطائفية للميثاق، والعمل من أجل تطوير قانون الانتخاب باتجاه تمثيل وطني، لا طائفي، أي تمثيل المواطنين.
اختتمت أعمال المؤتمر بجلسة نقاش عام، وسبقتها في اليوم الأخير جلسة هي السابعة في سلسلة جلسات المؤتمر وسارت على مسارين اثنين، أولهما عن "المواطنة مقابل الطائفية" وثانيهما عن "المسألة الطائفية في بلاد الشام".
وتلا هذه الجلسة عرض قدّمه فريق البحث في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في الجزائر عن مشروع بحثي حول المسألة الطائفية في "غرداية"، وهي مدينة في جنوب الجزائر تشهد منذ أشهر نزاعا وأحداث شغب على خلفية تصادم بين مكونين اجتماعيين في المنطقة يتمايزان من الناحية المذهبية (مالكية/إباضية) واللغوية (عرب/ميزابيين – أمازيغ) وحتى من ناحية النمط العمراني.
المؤتمر السنوي لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي