العنوان هنا
تحليل سياسات 22 يونيو ، 2020

عن إمكانية التنبؤ زمن جائحة كورونا: تأملات من علم التعقّد

محمد حمشي

باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة - قطر. عمل سابقًا أستاذًا في العلاقات الدولية، قسم العلوم السياسية في جامعة أم البواقي في الجزائر. حاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة باتنة في الجزائر. نشر العديد من الدراسات والأوراق البحثية باللغتين العربية والإنكليزية في عدد من المجلات العلمية المحكمة.

مقدمة

في عام 1995، تحدّث الراحل إيمانويل والرشتاين (1930-2019) عمّا سماه "الموت الأسود"، وهو كناية عن الطاعون، بوصفه أحد العوامل المحتملة للفوضى التي تعكس "التقلبات الطبيعية" في النظام-العالم المعاصر، وقد أشار إلى أن حدوث ذلك لن يُعدّ "ظاهرة جديدة"، وأن ما قد يبدو مختلفًا حينها لا يتعدى فقدان القدرة على الحد من اندفاعها، ومن ثمّ إعادة النظام-العالم إلى حالة التوازن. وأضاف: "تظل مسببات وباء الإيدز موضوع جدل واسع. لكن هذا سيظل غير مهم طالما أنه يمكن أن يكون قد أطلق مسارًا أدى فيه الإيدز إلى إحياء نوع جديد من السل القاتل سيغدو انتشاره مستقلًا تمامًا. فماذا سيحدث بعد ذلك؟ لا يعكس انتشار مثل هذا المرض اتجاه نمطٍ طويل الأمد للاقتصاد-العالم الرأسمالي فحسب، بل يساهم أيضًا في انهيار أبعد للدولتية Statism، وذلك عبر أعباء أخرى تضاف إلى كاهل أجهزة الدولة، وعبر تحفيز مناخ من التعصب المتبادل. وهذا الانهيار من شأنه أن يغذي، بدوره، انتشار أمراض جديدة".

هل كان والرشتاين يتنبأ، على نحو ما، بتفشي أوبئة "سارس" (2003) و"ميرس" (2012) و"إيبولا" (2014) و"كورونا" (2019-2020)؟ أحاجّ هنا بأنه لم يفعل ذلك، وأفترض أن ما فعله والرشتاين – الذي فاضت روحه في آب/ أغسطس 2019 قبل أسابيع فقط من تفشّي فيروس كورونا وتحوّله إلى جائحة عالمية – أمرٌ لا يخرج عن نطاق محاجّات علم التعقّد الذي كان والرشتاين نفسُه من أبرز معتنقيه، ومن رواد إقحامه في العلوم الاجتماعية.

تقدّم هذه الورقة بعض التأملات حول إمكانية التنبؤ بمستقبل النظام العالمي (أو النظام-العالم كما يسميه والرشتاين) بعد انحسار تفشّي جائحة فيروس كورونا. لماذا العودة إلى والرشتاين تحديدًا؟ أولًا، لأنه من بين القليلين الذين ناقشوا تفشّي الأوبئة بوصفها نتيجةً لتوسع الاقتصاد-العالم الرأسمالي وسببًا في اضطرابه. وثانيًا، لأنه كان من أبرز معتنقي علم التعقّد، ومن الرواد الذين تحمّسوا لإقحام فلسفته في العلوم الاجتماعية. وفي هذا السياق، يواجهنا والرشتاين بمفهوم التشعّب Bifurcation بوصفه نافيًا لإمكانية التنبؤ بمستقبلات الأنظمة المعقدة.

تنقسم هذه الورقة إلى خمسة محاور؛ يتابع المحور الأول فحص ما يخبرنا به والرشتاين حول تفشّي الأوبئة، أما المحوران الثاني والثالث فيناقشان المفاهيم الأساسية المستلهمة من علم التعقد ذات الصلة بإشكالية التنبؤ، في حين يراجع المحور الرابع مفهوم النظام – العالم، حجر الزاوية في فكر والرشتاين، بينما يستكمل المحور الخامس النقاش بشأن (لا) إمكانية التنبؤ بمستقبل الأنظمة المعقدة التي يُعد النظام-العالم الحديث أحد أبرز أشكالها.