العنوان هنا
تقييم حالة 25 نوفمبر ، 2020

حرب إقليم تيغراي: خلفيات الصراع وتداعياته المحتملة

صهيب محمود

كاتب وباحث، حاصل على الماجستير في العلوم الاجتماعية والإنسانية من معهد الدوحة للدراسات العليا، مهتم بالدراسات الأفريقية.

مقدمة

لم يكن إعلان الحكومة الفدرالية الإثيوبية، في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الحربَ على إقليم تيغراي في شمال البلاد مفاجئًا تمامًا. فمنذ وصول رئيس الوزراء، آبي أحمد، إلى السلطة في منتصف عام 2018، كانت كل الأوضاع تتجه نحو المواجهة بين السلطة الجديدة و"الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا" (EPRDF) التي قادت الائتلاف الذي حكم إثيوبيا سابقًا بقيادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" (TPLF)، والذي انسحب من الحكم تحت ضغط الشارع بعد 27 عامًا في السلطة.

وعلى الرغم من أنه كان من الصعب توقّع إعلان الحرب من جانب رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي حاز جائزة نوبل للسلام لعام 2019، عقب اتفاقية السلام التاريخية التي وقعها مع الجارة إرتيريا[1]، بعد عقدين من العداء العسكري - وهو ما اعتُبر في حينه خطوةً تُدخل منطقة القرن الأفريقي في عهد جديد من الاستقرار - فإن صراعات وانقسامات عميقة بدأت تشتعل في الداخل حول هذه الاتفاقية.

فقد مثلت اتفاقية السلام بين أسمرا وأديس أبابا في عام 2018 أحد أبعاد الصراع الدائر نحو سنتين بين الحكومة الفدرالية وإقليم تيغراي؛ إذ فُسّرت في حينه مبادرة آبي أحمد للسلام بأنها تهدف إلى إقصاء تيغراي من المشهد الإثيوبي، العدو التاريخي للنظام الإرتيري، وهو ما أسهم في تسعير الخلافات بين جبهة تحرير شعب تيغراي والحكومة الفدرالية.

وفاقم خلافات الطرفين إقدام آبي أحمد على حلّ الائتلاف الحاكم الذي كانت تقوده جبهة تيغراي، واستبداله بـحزب الازدهار، كما عمد إلى تطهير قادة الجبهة من السلطة العليا في البلاد؛ حيث أقال رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية المنتمين إلى جبهة تيغراي. إضافة إلى أن تأجيل الحكومة للانتخابات مرتين متتاليين، بسبب تفشّي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، شكّل نقطة تفجّر الصراع؛ حيث رأى إقليم تيغراي أن تُجرى الانتخابات في موعدها بشكل منفرد. وهو الأمر الذي رفضته الحكومة الفدرالية، وعدّته غير دستوري، وردّ الإقليم بسحب اعترافه بحكومة أديس أبابا. وبعدها، شنّت الحكومة الفدرالية حربًا مباشرة لأجل إخضاع الإقليم بالقوة.

خلفية عن صراع الحكم في إثيوبيا 

إن تفجّر صراع إقليم تيغراي والحكومة الفدرالية وإن بدا مرتبطًا بالوضع السياسي القائم حاليًا في البلاد، فإن له جذورًا تاريخية تعود إلى تشكّل الكيان السياسي لإثيوبيا الحديثة، ونماذج الحكم التي سادت منذ القرن والنصف الماضيين، بدءًا من حكم الملك مينلك الثاني، الذي أخضع بقية الشعوب والعرقيات بالقوّة تحت حكمه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بالتزامن مع فترة بداية الاستعمار الأوروبي للمنطقة. وقد استمر الحكم الإمبراطوري في إثيوبيا إلى أن جاء النظام الشيوعي بقيادة منغستو هيلا مريام، الذي قاد انقلابًا دمويًا ضد الملك هيلا سيلاسي في عام 1974، لكنه لم يستمر طويلًا؛ إذ قادت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عملًا مسلحًا ضده، واستولت على الحكم في عام 1991، بقيادة ملس زيناوي.

حكم زيناوي البلاد تحت ائتلاف تقوده جبهته، يُسمى الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا[2]. وعلى الرغم من أن البلاد شهدت ظفرة اقتصادية في فترة رئاسته، فإن حكمه اتسم بالقمع الشديد، ولم تتردد أجهزته الأمنية في الزجّ بالمعارضة والصحافيين والحقوقيين في السجون. وكانت الحريات السياسية منعدمة في البلاد؛ حيث يفوز الحزب الحاكم بكل المقاعد في البرلمان في كل فترة انتخابية. وراكمت هذه التجربة استياءً شعبيًا ضد الجبهة الديمقراطية الثورية، لكن مع وفاة زيناوي في عام 2012، بدأ الائتلاف بالتصدّع؛ ما أدخل البلاد في انقسامات إثنية وعرقية جديدة.

ولم يفلح خلفه، هيلي مريام ديسالين، في استعادة صدقية الحزب الحاكم، واندلعت في فترته موجة اضطرابات شعبية في أنحاء البلاد، ولا سيما بين شباب الأورومو، أكبر مجموعة عرقية في البلاد؛ ما أجبر حكومته على التنحي عن السلطة، ليترشّح بعدها آبي أحمد من المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو من داخل الائتلاف الحاكم. وحين وصل آبي أحمد إلى السلطة في عام 2018، عمد إلى استهداف قادة التيغراي، وتطهيرهم من مؤسسات الدولة وملاحقتهم بتهم الفساد، واعتقل الكثير منهم أو أجبروا على الفرار من العاصمة[3]. وهو ما اعتبرته جبهة تحرير شعب تيغراي تهديدًا وجوديًا لها، لكنها ظلّت مسيطرة على قاعدتها الرئيسة في إقليم تيغراي حيث يتمركز جناحها المسلح. وبادر آبي أحمد، في إطار محاولته تحجيم دور الجبهة، إلى تطبيع العلاقات مع إرتيريا، وذلك بإعادة بلدة بادمي الحدودية الواقعة في إقليم تيغراي من دون إشراك الإقليم في مفاوضات السلام؛ وهو ما فُسّر في حينه بأنه عملية تقويض لسلطة النخب الحاكمة في الإقليم وإضعافها.

الفدرالية الإثنية مقابل مشروع "الاندماج الوطني"

أتى آبي أحمد بمشروع جديد مختلف عن النظام السياسي القائم على الفدرالية الإثنية التي أسّس لها زيناوي، وتحدث مرارًا بأن هذا النظام يُضعف الدولة ويخلق انقسامات ومشكلات عنصرية، واعتبرها قنبلة موقوتة تهدّد بزوال إثيوبيا. وبدلًا من ذلك، ركز على ضرورة الاندماج الوطني، وإيجاد هوية وطنية جامعة لكل الإثيوبيين، كما يسميها في الكتاب الذي أطلقه في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، MEDAMER، وهي كلمة تعني "التآزر". ويمثل الكتاب رؤية آبي أحمد لعلاج مشكلة الاندماج الوطني الإثيوبي[4]. لكن بعض المجموعات العرقية، مثل القوميين الأورومو والتيغراي، أظهروا تخوّفهم من هذا المشروع، ورأوا أنه يعزز حكم المركز على حساب الأقاليم، ويسعى إلى إلغاء الفدرالية الإثنية.

وفي أواخر عام 2019، وفي خطوة فاجأت المراقبين، حلّ آبي أحمد الائتلاف الذي أوصله إلى السلطة: الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، ودمج الكيانات الأربعة المكوّنة لها في حزب واحد، أطلق عليه اسم حزب الازدهار. وعلى الفور، اعترضت عليه الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ورفضت الاندماج في هذا الكيان، وقطعت العلاقات مع حكومة آبي أحمد، وانسحبت من ائتلاف الحكومة للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود. ومنذ ذلك الحين، تصاعد الخلاف وتبادل التّهم بين الجانبين. ففي تموز/ يوليو 2018، وجّه مسؤولون من الحكومة الفدرالية إلى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي اتهامات بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء في مظاهرات حاشدة في أديس أبابا[5]؛ حين ألقيت قنبلة يدوية بالقرب من المنصة، حيث كان آبي أحمد يخاطب حشدًا جماهيريًا؛ ما خلف خمسة قتلى وأكثر من 140 جريحًا[6] .

إلى جانب ذلك، اعتبرت نخب تيغراي صداقة آبي أحمد مع الرئيس الإرتيري، أسياس أفورقي، تهديدًا موجهًا إليها؛ نظرًا إلى طبيعة العداء التاريخي بين الجبهة والنظام الإرتيري، وهو إرث يعود إلى حرب 1998-2000 بين إرتيريا وإثيوبيا، وخلف مئة ألف قتيل. ويتهم مسؤولو جبهة تحرير تيغراي أفورقي وآبي أحمد بالتآمر لزعزعة استقرار تيغراي. وفي شباط/ فبراير، اتهم أحد المسؤولين في تيغراي إرتيريا بالتدخل في الشؤون الداخلية لإثيوبيا، ووصل إلى حد التهديد "بقطع أيدي [أفورقي] إذا لم يتوقف عن التدخل"[7]. في حين دوّنت السفارة الإرتيرية في إثيوبيا منشورًا على فيسبوك تسخر فيه من قادة جبهة التيغراي[8]. وردّ عليه غيتاتشو رضا، المسؤول في حزب جبهة تحرير شعب تيغراي، بأن حزبه سينتصر على حكومتَي أديس أبابا وأسمرة، ووصفهما بـ "الإرهابيين"[9]. وفي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2020، ظهر بثّ تلفزيوني لآبي أحمد وهو يتجوّل مع نظيره الإرتيري في منشآت قاعدة القوات الجوية الإثيوبية؛ الأمر الذي وسّع الهوة بين الطرفين.

تأجيل الانتخابات: حلقة تفجّر الصراع

في حزيران/ يونيو 2020، أجّل البرلمان الإثيوبي الانتخابات الوطنية التي كان مقررًا إجراؤها في آب/ أغسطس 2020؛ بسبب جائحة فيروس كورونا، وكانت هذه المرة الثانية التي يجري تأجيلها بسبب تفشّي جائحة كورنا (فقد كانت مقررة أيضًا في أيار/ مايو 2020). واتهمت المعارضة رئيس الوزراء باستخدام الوباء ذريعةً لتمديد ولايته بصفة غير قانونية. وشجبت جبهة تحرير شعب تيغراي القرار، ووصفته بأنه "غير دستوري"[10]، وأعلنت أنها ستجري من جانب واحد انتخاباتها الإقليمية في الوقت المقرّر.[11]

وفي تحدّ واضح للحكومة الفدرالية، أقدم الإقليم على إجراء انتخاباته الإقليمية في 9 أيلول/ سبتمبر، لكن حكومة إثيوبيا المركزية رفضت السماح للجنة الانتخابات المركزية بالإشراف عليها، ورفضت كذلك الاعتراف بنتائجها. وسخر آبي أحمد من فوز "الجبهة" على المعارضة ووصفها بأنها "خالية من المعنى"[12]، وأوقف عنهم التمويل المالي، ومنعت حكومته التحويلات البنكية بين إقليم تيغراي وبقية الأقاليم في إثيوبيا.[13]

ومن جانبها، ردت حكومة إقليم تيغراي بأنها ستعتبر حكم آبي أحمد غير شرعي اعتبارًا من 5 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو تاريخ انتهاء فترة آبي أحمد إذا لم يحصل على التمديد. وفي 30 تشرين الأول/ أكتوبر، عيّن آبي أحمد العميد جمال محمد في منصب نائب قائد القيادة الشمالية في قاعدتها في ميكيلي، عاصمة إقليم تيغراي. لكن العميد لم يتمكن من الوصول إلى مكتبه؛ فقد اعترضه مسؤولون حكوميون إقليميون في تيغراي عند وصوله، وطلبوا منه العودة إلى أديس أبابا. وأوضح غيتاتشو رضا، مستشار رئيس ولاية تيغراي، لاحقًا في تغريدة أنه طُلب من الضابط العودة، لأن "أي قرار بعد الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر من الحكومة الفدرالية لن يسري على تيغراي"[14]. ولم تكتفِ حكومة تيغراي بذلك، بل استدعت ممثليها في الهيئات المنتخبة وفي مجلس الوزراء على المستوى الفدرالي. وفي رد فعل على تلك التطورات، قرّر البرلمان الإثيوبي تصنيف جبهة تحرير شعب تيغراي حركة إرهابية[15]. وأصدرت الجبهة بيانًا قالت فيه إن آبي أحمد وأسياس أفورقي يستعدان لشن حرب عليها، مؤكدة استعدادها لخوضها لتكون "حرب شعب تيغراي". وأرسل رئيس إقليم تيغراي رسالة مفتوحة موجهة إلى رؤساء عشرات الدول، يحذر فيها من مخاطر تدهور الأوضاع في البلاد، ويناشد المجتمع الدولي أن يساعد في نزع فتيل الأزمة عبر حوارٍ شامل. وأكد فيه أنه "ليس هناك أيّ كيان شرعي لإدارة دفة الحكم في البلاد بعد انتهاء فترة حكومة آبي أحمد"[16].

إعلان الخيار العسكري وانعكاساته

في هذه الأجواء المشحونة، أعلنت الحكومة الفدرالية، في صباح الأربعاء 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أن مسلحين تابعين لتيغراي هاجموا "القطاع الشمالي" التابع للجيش الإثيوبي، وهي وحدة عسكرية ضخمة مجهزة بطائرات ودبابات، وتمكنوا من الاستيلاء عليها، كما هاجموا أيضًا، بحسب الحكومة الفدرالية، "اللواء الخامس-مدرعات". واتهم آبي أحمد جبهة تحرير شعب تيغراي بارتكاب الخيانة الوطنية، بهجومها على قواعد عسكرية إثيوبية في بلدتي ميكيلي ودانشا؛ ما أسفر عن مقتل وإصابة جنود متمركزين في القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي، وهي واحدة من أربع قيادات إقليمية، في ميكيلي، التي تبعد أكثر من 700 كيلومتر شمال العاصمة أديس أبابا. وعلى الرغم من أن الكثيرين يشككون في هذه الرواية، ورأوا فيها محاولة لإيجاد مسوغات عملية لشن حرب عسكرية ضد الإقليم، فقد بدأت الطائرات الإثيوبية بشنّ عدة غارات على مواقع في تيغراي، في حين بدأت في الميدان اشتباكات تستخدم فيها مدفعيات ثقيلة، تستهدف فيها الحكومة تدمير مستودعات أسلحة تسيطر عليها الجبهة.

وبهذا، برّر آبي أحمد إعطاء الأوامر بشنّ هجوم عسكري ضد الإقليم للرد على هذه الهجمات المزعومة؛ باعتبارها تمردًا يجب إخماده، لتبدأ منذ ذلك الوقت معارك ضارية ما زالت تدور رحاها. ويراهن آبي أحمد على الحسم السريع في هذه المعركة؛ لأن ارتدادات عدم الحسم السريع ستكون عواقبها وخيمة على حكمه. لكنّ الحسم غير وارد؛ لأن الجبهة تمتلك صواريخ ومعدات عسكرية تمكنّها من الاستمرار في الحرب إلى أمد طويل، أو نقل المعركة إلى ساحات أخرى في الأقاليم المجاورة، أو حتى خارج حدود إثيوبيا. كما تُعدّ الجبهة الأفضل تسليحًا من كل القوى الإثيوبية المعارضة، ويقودها محاربون قدامى خاضوا العديد من المعارك ضد النظام الماركسي، وشاركوا في الحرب ضد إرتيريا بين عامي 1998 و2000. ويقال إن الضباط التيغراي، الذين فُصلوا من الجيش الاتحادي في عملية التطهير التي قام بها آبي أحمد، عادوا إلى إقليمهم ليدربوا المجنّدين الجدد.

كما أن كون الإقليم القاعدة الرئيسة لأقوى وحدات الجيش الإثيوبي "القيادة الشمالية"، التي يتجاوز عدد الجنود فيها نصف تعداد الجيش برمته، يصعّب الحسم السريع ما لم يتحدّد ولاء تلك القيادة في المعركة، خاصة أن حكومة إقليم تيغراي أعلنت أن القيادة الشمالية "ستقف إلى جانب شعب تيغراي والحكومة الإقليمية"، بحسب وكالة فرانس برس[17]؛ ما يعني احتمالية وقوع انشقاقات داخل الجيش في حال استمرار الصراع.

وثمة عاملان مهمان يمكن أن يؤثّرا في مستقبل الصراع خلال الفترة المقبلة:

  • احتمالية تمدّد الحرب في أقاليم مجاورة أخرى: قد يؤدي القتال في تيغراي إلى انزلاق إقليم أمهرة المجاور في الحرب مع إقليم تيغراي، خاصة في ظل النزاع الحدودي طويل الأمد بين الإقليمين، وتحالف الأقاليم الفدرالية الأخرى (بما فيها إقليم الأمهرة) مع الحكومة المركزية في حربها ضد التيغراي؛ بسبب إرث سنوات حكم التيغراي في البلاد الحافل بالانتهاكات الحقوقية والإنسانية. وقد جدّ بالفعل انفجاران في مدينتين بإقليم أمهرة. كما استهدفت جبهة التيغراي بالصواريخ مطار بحر دار في العاصمة الإقليمية لأمهرة، لكونه القاعدة الجوية التي تنطلق منها الطائرات العسكرية التي تقصف إقليم تيغراي؛ ما يثير مخاوف حقيقية من أن القتال قد يؤدي إلى تحوّل الحرب بين الأقاليم الفدرالية، ومن ثمّ يطرح سيناريو الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة. أما إذا استطاعت العمليات العسكرية الفدرالية محاصرة جبهة تحرير شعب تيغراي، وإرغماها على تسليم سلاحها في وقت وجيز، فقد تتغير المعادلة، وهو ما يبدو غير وارد.
  • دور تأثير الجيران: ترددت أخبار تفيد بتورّط إرتيريا في الحرب ضد الأقليم، على الرغم من نفي وزير الخارجية الإرتيري، عثمان صالح محمد، صحة ذلك بقوله: "لسنا طرفًا في الصراع"[18]، فإن الجبهة تؤكد أن إرتيريا تشارك في قصف الإقليم، ولذلك استهدفت مطار أسمرا بثلاثة صواريخ، وستكون ردة فعل إرتيريا مؤثرة في مجريات الصراع[19]. وفي حال استعصى على آبي أحمد الحسم السريع، فقد يضطر إلى دخول مفاوضات سلام مع الجبهة. وأبدى الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، استعداد بلاده لاستضافة مفاوضات لحل الأزمة لتجنب وقوع خسائر كارثية[20].

التداعيات المحتملة على إثيوبيا وعلى المنطقة

لا شك في أن أزمة داخلية كبيرة متفجرة في إثيوبيا لن تكون مقتصرة على داخل حدودها، بل سوف يكون لها امتداد في الخارج؛ نظرًا إلى مركزية إثيوبيا في دول القرن الأفريقي والمنطقة عمومًا. فهي الدولة الثانية من ناحية عدد السكان في أفريقيا (110 ملايين نسمة)، كما تعدّ واحدة من أكبر الدول المساهمة بقوات في بعثات حفظ السلام في القارة، حيث يوجد جنودها في السودان وجنوب السودان والصومال[21]. وبالفعل، بدأت إثيوبيا بسحب 3000 جندي من قواتها العاملة فى الصومال، وأعادت نشرهم في المناطق الشمالية للمساعدة في هجوم تيغراي[22]. ومن المحتمل أن تترك هذه الخطوة آثارًا سلبية على استقرار الصومال، خاصة أنه مقبل على فترة انتخابات رئاسية وبرلمانية؛ إذ من الممكن أن تستفيد حركة الشباب من هذا الفراغ لتكثيف نشاطها العسكري. وفي السياق نفسه، أعلنت أديس أبابا عن اعتقال خلية إرهابية مكونة من 14 عنصرًا تابعًا لـ "حركة الشباب الجهادية"[23].

في الداخل الإثيوبي، لم يكن قرار التدخل العسكري في إقليم تيغراي هو الوحيد، بل ترتب عليه الكثير من القرارات الداخلية بالبلاد. وكان ضمن تلك القرارات: إعلان حالة الطوارئ بإقليم تيغراي لستة أشهر، ومنع تحليق الطيران المدني بالمنطقة، وإعادة أربعة جنرالات متقاعدين إلى الخدمة العسكرية بقوات الدفاع الإثيوبية. هذا إضافة إلى تعديلات أجراها آبي أحمد، في الحكومة والجيش، شملت الخارجية ورئيس هيئة أركان الجيش، ومدير الأمن والمخابرات العامة والشرطة. كما شملت التغييرات قادة إقليم تيغراي، حيث عيّن رئيس الوزراء، آبي أحمد، مولو نيجا حاكمًا جديدًا لإقليم تيغراي[24].

على المستوى الإنساني، خلّف هذا الصراع مئات القتلى في خلال مواجهات الأسبوعين الأولين، ونزوح عشرات الآلاف من إقليم تيغراي في اتجاه السودان[25]، حيث يواجهون أوضاعًا إنسانية صعبة. وقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة أنها تعمل مع الخرطوم لإيوائهم في الحدود السودانية، ويتوقع أن يصل النازحون إلى مئتي ألف نازح في الأسبوع المقبل؛ ما ينذر بكارثة إنسانية حقيقية، خاصة إذا استجاب السودان لضغوطات إغلاق حدوده مع إثيوبيا[26].

على المستوى الإقليمي، تحاول مصر تسجيل نقاط ضد أديس أبابا في ملف المفاوضات بين الطرفين، في هذه الأوضاع التي تمرّ بها إثيوبيا. وقد أعلنت القاهرة عن مناورة عسكرية جوية مشتركة مع السودان في قاعدة موري الجوية شمال السودان[27]، ويأتي تنظيم المناورة بعد شهر من تصريحات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التي قال فيها إن مصر يمكن أن "تفجر" سد النهضة، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حوله، وهو ما فسره البعض بأنه ضوء أخضر من واشنطن لمصر للتحرك عسكريًا ضد سد النهضة.

خاتمة

كانت حركة التيغراي تسعى تاريخيًا إلى الانفصال، وقد ضمّنت في دستور 1994 البند 38 الذي ينصّ على الحق بالانفصال، لكنها تراجعت عن هذا المطلب عند وصولها إلى سدة الحكم في مطلع التسعينيات. وفسّر الكثيريون هذا البند بأنه محاولة لخروج آمن في حال لم تستطع الاستمرار في حكم كل إثيوبيا. وفي حال هزيمة الجبهة عسكريًا في هذا الصراع، فقد يسعى الإقليم إلى تفعيل ذلك البند لتحقيق هدف الانفصال. ويمكن قراءة استهداف إرتيريا بأنه محاولة من الجبهة لإيجاد نظام بديل في أسمرا، يوفر للدولة الجديدة منفذًا بحريًا في حال الانفصال.

أما الحكومة الفدرالية، فتحاول استنساخ تجربتها مع الرئيس السابق للإقليم الصومالي - الإثيوبي المحسوب على "جبهة تحرير شعب تيغراي"، عبدي محمود عمر؛ فعندما أعلن الأخير التمرد في آب/ أغسطس 2018 وهدّد بالانفصال، أخضعته الحكومة المركزية بالقوات الفدرالية، واستسلم سريعًا للجيش الفدرالي، وتجري حاليًا محاكمته في أديس أبابا بسبب انتهاكاته الفظيعة لحقوق الانسان في فترة حكمه في الإقليم 2005-2018. لكنّ الفروق بين الإقليمين متفاوتة من ناحية ميزان القوى؛ ما يستبعد تكرارها في إقليم تيغراي.

عمومًا، في ظل صعوبة الحسم العسكري، فإن إيجاد حلول سياسية تجنّب البلاد صراعًا طويل الأمد هو الخيار الوحيد لإنقاذ إثيوبيا من التدهور إلى حرب أهلية شاملة، وهو سيناريو مدمّر لمنطقة القرن الأفريقي بأكملها في حال تحقّقه، أو خيار انفصال الإقليم، الذي يعني بلقنة إثيوبيا والمنطقة المجاورة. ويبقى خيار الجلوس إلى طاولة المفاوضات رهينًا بمدى الضغوط التي تمارس على الطرفين من الخارج، لإيجاد تسوية معينة للقضايا الخلافية، التي من بينها نموذج الحكم الملائم، وإشراك المعارضة التيغراوية في قيادة الإقليم، وتحديد فترة الانتخابات الوطنية العامة، فضلًا عن ضرورة إدراك الطرفين أن الحسم العسكري لن يتم من دون تكلفة باهظة للمنطقة كلها.


[1] Simon Allison, “Abiy Ahmed is a Worthy Nobel Peace Prize Winner,” Mail Guardian, 11/10/2019. accessed on 13/10/2020, at: https://bit.ly/2UnPDZF

[2] كانت جبهة تحرير شعب تيغراي، إبان رئاسة ملس زيناوي، منظومة ثورية سياسية ماركسية لينينية، حيث اعتمد على نموذج الفدرالية الإثنية، عبر تحالف باسم "الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا"، ويضم إلى جانب "جبهة تحرير شعب تيغراي"، "المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو"، و"حركة أمهرا الوطنية الديمقراطية"، و"حركة شعب جنوب إثيوبيا الديمقراطية". لكن جبهة زيناوي، أي جبهة تحرير شعب تيغراي، كانت هي الحاكمة الأساسية، واستمرت تحكم باسم تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية، وهيمنت على مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية.

[3] “Powerful Ethiopian Party Accuses Government of Ethnic Crackdown,” Reuters, 20/11/2018, accessed on 13/11/2020, at: https://reut.rs/32Ijd0q

[4] Linda Yohannes “Abiy’s Homespun Balancing Act: Medemer Reviewed,” Ethiopia Insigh, 26/1/2020. accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/32QHRMn

[5] “Ethiopia Attack: Five Charged for Trying to Kill PM Abiy Ahmed,” BBC, 28/9/2018, accessed on 13/11/2020, at: https://bbc.in/2IGTE9b

[6] Ibid

[7] “Experts React: Understanding the Conflict in Tigray,” Atlantic Council, 11/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/3nvgwY1

[8] Embassy of the State of Eritrea in Addis Ababa, Facebook, 31/10/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/32RnAq2

[9] Getachew K Reda, Twitter, 3/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/2HamC0s

[10] “What to Know about Ethiopia's Tigray Conflict,” NPR, 13/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://n.pr/3lG9CP5

[11] “Ethiopia Postpones August Election Due to Coronavirus,” Reuters, 31/3/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://reut.rs/3lG2fHe

[12] “Ethiopia's Tigray Region Holds Vote in Defiance of Federal Government,” France 24, 9/9/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/38Q06pc

[13] “What to Know.”

[14] “Ethiopia’s Tigray Blocks General’s Appointment in Blow to Abiy,” Aljzeera, 30/10/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/2UxfmyD

[15] Aryn Baker, “How Abiy Ahmed, Nobel Prize Laureate, Lost Control of Ethiopia’s Peace,” Time, 13/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/3pBrfSE

[16] “Ethiopia: TPLF President Debretsion Gebremichael Letter to the International Community,” MinBane, 26/10/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/38SzlQL

[17] Declan Walsh & Simon Marks, “Ethiopia Escalates Fight Against Its Powerful Tigray Region,” The New York Times, 18/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://nyti.ms/3pC3gmn

[18] Giulia Paravicini, “Rockets Fired at Eritrean Capital from Ethiopia, Diplomats Say,” Reuters, 14/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://reut.rs/3f5ue0z

[19] Ibid.

[20] “Tigray Crisis: Museveni Meets Ethiopian Delegation in Gulu,” Daily Monitor, 16/11/2020, accessed on 16/11/2020, at: https://bit.ly/3fcOLR2

[21] Salem Solomon, “Ethiopia’s Instability Threatens to Engulf Region,” VOA, 11/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/2UsaIlA

[22] Simon Marks, “Ethiopia Withdraws Thousands of Troops from Neighboring Somalia,” Bloomberg, 13/11/2020, accessed on 13/11/2020, at: https://bloom.bg/35ufOnv

[23] Samuel Gebre, “Ethiopia Arrests al-Shabaab and ISIS Suspects Planning Attacks,” Bloomberg, 14/11/2020, accessed on 16/11/2020, at: https://bloom.bg/2UA3Hz3

[24] “Ethiopia Appoints New Tigray Leader, Amnesty Reports ‘Massacre’,” Aljazeera, 13/112020, accessed on 13/11/2020, at: https://bit.ly/32Nc52W

[25] Simon Marks, “Thousands Flee Ethiopia Fighting That’s Left Hundreds Dead,” Bloomberg, 11/11/2020, accessed on 16/11/2020, at: https://bloom.bg/3ptO9Lx

[26] “Sudan Partially Closes Border with Ethiopia: Agency,” Reuters, 7/11/2020, accessed on 16/11/2020, at: https://reut.rs/2IuzS0G

[27] "بعد أسبوعين من زيارة وفد عسكري مصري رفيع للخرطوم... انطلاق تدريبات جوية مشتركة مصرية سودانية"، الجزيرة نت، 14/11/2020، شوهد في 16/11/2020، في: https://bit.ly/2IF048M