العنوان هنا
تقدير موقف 28 نوفمبر ، 2012

احتجاجات الأردن: "انتفاضة أسعار" تبرز احتقانًا سياسيًّا

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

شهد الأردن احتجاجاتٍ واسعةً، تفجّرت في أعقاب قرار الحكومة رفع الدعم عن أسعار المشتقّات النفطيّة والغاز في 13/11/2012. عمّت هذه الاحتجاجات البلاد على مدار أكثر من أسبوع، ومازالت تداعياتها مستمرّة، وبخاصّة في ضوء الدعوة إلى تظاهراتٍ عامّة يوميًّا تقريبًا. وهي تختلف نوعيًّا عن الحراك الإصلاحيّ الذي انطلق في الأردن مع بداية عام 2011، وعن الاحتجاجات المطلبيّة التي شهدتها البلاد عَبْر العامين الماضييْن.

ظهر هذا الاختلاف من خلال إطلاق الناشطين والسياسيّين وكُتّاب الرّأي اسم "هبّة تشرين" أو "انتفاضة تشرين"، على ما جرى خلال الأيام الأربعة الأولى من رفع الأسعار، في محاكاةٍ لهبّة انتفاضة نيسان / أبريل سنة 1989 التي تفجّرت في أعقاب رفع أسعار المحروقات، وقادت بدورها إلى انفتاحٍ سياسيٍّ في الأردن؛ وإعادة الحياة النيابيّة؛ وإلغاء الأحكام العرفيّة.

إنّ ادّعاء أنّ ما جرى في الأردن خلال الأيّام التي تلت تحرير أسعار المحروقات (الذي نتج عنه زيادة أسعارها بنسب ما بين 20% و57%) يُعزى فقط للنتيجة المباشرة لهذا القرار- على أهمّيته وأثره في حياة المواطنين من ذوي الدّخل المحدود أو المتوسّط في بداية فصل الشتاء - هو تحليلٌ غير صائب وأحاديّ الجانب، فمعظم التّظاهرات التي اندلعت نتيجةً لهذا القرار، سرعان ما عكست شعاراتٍ ومطالبَ سياسيّةً بامتياز. والحوار الذي جرى في الفضاء العامّ ووجهات النظر التي تناولت مجمل الأوضاع، وأسباب هذه الاحتجاجات، كلّها تشير إلى أنّ هذه الاحتجاجات العفويّة - وإن كان سببها الرّئيس هو رفع الأسعار - مرتبطةٌ بحالة احتقانٍ سياسيٍّ يشهدها الأردن، قبيْل الربيع العربيّ. وبدلًا من أنْ يكون الربيع العربيّ بمنزلة الفرصة موضوعيًّا وتاريخيًّا للخروج من حالة الاحتقان هذه، أصبحت سياسات النظام الحاكم عنصرًا يكرّس هذا الاحتقان، فشعارات التّظاهرات، إضافةً إلى شعار العودة عن رفع الأسعار، كانت تعكس أنّ المواطنين ضاقوا ذرعًا بإعادة إنتاج سياساتٍ طالبوا بتغييرها على مدى عاميْن من الحراك. لم يعد المواطنون قادرين على تحمّل المزيد من وعود النظام بإجراء إصلاحاتٍ سياسيّة عميقة لا ترى النور. وكانت هذه التّظاهرات بمنزلة رفضٍ لفهْم النّظام للإصلاح. لم يجادل الأردنيّون مفردات الخطاب الرسميِّ، كما عبّر عنه رئيس الوزراء، بأنّ الوضع الاقتصاديّ مأزوم، وأنّ الموازنة سجّلت عجزًا قياسيًّا في ظلّ عدم وجود مساعدات خارجيّة كبرى (3.5 مليار دولار) تحمل أعباء هذا العجز. والرأي السائد لدى المحتجّين أنّ من أدار البلاد خلال السنوات الماضية وأوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن، يجب أن يتحمّل ذلك العجز. فهبّة تشرين، كما يحبُّ ناشطو الأردن تسميتها، تحوّلت إلى احتجاجٍ مباشرٍ على سياسات الحكم وأساليب إدارة البلاد، خاصّةً في ظلِّ عدم تغيير أساليب إدارة الحكم، على الرّغم من مرور نحو عامين على انطلاق الحراك الإصلاحيّ في الأردن.


الحراك الإصلاحيّ ما قبل الاحتجاجات الأخيرة

طالب الحراك الإصلاحيّ الذي انطلق في الأردن مع بداية عام 2011 بإعادة النظر جذريًّا في كيفيّة إدارة الدولة الأردنيّة؛ وبإجراء إصلاحات دستوريّة وسياسيّة عميقة تقود إلى تشكيل حكومات برلمانيّة من خلال قانون انتخابٍ حديث يتجاوز قانون الصوت الواحد الذي ساهم في ترجيح كفّة المرشّحين التقليديّين والعشائريّين على حساب مرشّحي البرامج السياسيّة، وقلّص القيمة التمثيليّة لمجلس النوّاب وفعاليّته الرقابيّة والتشريعيّة. كما يُطالب الحراك برفع يدِ الأجهزة الأمنيّة عن الحياة السياسيّة والعامّة في البلاد؛ وإطلاق الحُرّيات المدنيّة والسياسيّة؛ وتحقيق العدالة بين المواطنين؛ ومحاربة الفساد من خلال تقديم الفاسدين للمحاكمة. تكثّفت هذه الأهداف في شعارٍ مركزيّ للحراك "الشعب يريد إصلاح النظام" في محاكاةٍ لشعار شعوبٍ عربيّة أخرى "الشعب يريد إسقاط النظام". أي أنّ الحراك الإصلاحيّ الذي تأسّس جرّاء تراكم انتقاداتٍ لكيفيّة إدارة الدولة، وجاء بوصفه نتيجة مباشرة للتأثّر بالثورات العربيّة من ناحية، وبقدرته على إيجاد قائمة من العوامل المشتركة بين ظروف إدارة الحكم في الأردن وإدارة الحكم في بلدان الربيع العربيّ من ناحيةٍ أخرى، قد حدّد هدفه بالحفاظ على نظام الحكم، ولكن بإجراء إصلاحات عميقة تعمل على تغيير محتواه وآليّاته، بتوسيع صلاحيّات ممثّلي الشعب الأردنيّ المنتخبين؛ وجعل السلطة التنفيذيّة منتخبة؛ وإنهاء الأساليب الفرديّة في الحكم. إنّ هذا الحراك الإصلاحيّ الذي اتّسم بطبيعة نخبويّة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011، بمعنى أنّ من قام على تنظيمه هو قوى سياسيّة (أحزاب موجودة أو تلك المجموعات الشبابيّة التي نشأت حديثًا بالترافق مع الثورات العربيّة)، كان على وشك التحوّل إلى حراكٍ شعبيّ في إطار الدعوة إلى اعتصامٍ مفتوح في 24 آذار/ مارس 2011.

وحال أسلوب تعامل الدولة معه في 25 آذار/ مارس سنة 2011 - باقتحام الاعتصام المفتوح في دوار الداخلية - دون تحوّله إلى حراكٍ ذي امتدادٍ شعبيّ وذي طبيعة متواصلة، كما هي الحال في بلدانٍ عربيّة أخرى. إلا أنّ المهمّ هو جوهر إستراتيجيّة النظام السياسيّ في التعامل مع الحراك خلال شهر آذار / مارس، للحيلولة دون انتقاله إلى حراكٍ شعبيّ، والذي كان عبْر استغلال الانقسامات العموديّة في المجتمع الأردنيّ وتعميقها، سواء أكانت هذه الانقسامات على أسس بلد الأصل، أم الانتماءات الجهويّة والعشائريّة. الأمر الذي وضع الفاعلين في الحراك في موقعٍ دفاعيّ وتبريريّ لأكثر من أشهر عدّة، مؤكّدين أنّ هذا الحراك لا يهدف إلى إسقاط نظام الحكم بل يسعى لإصلاحه، وهو ليس جزءًا من مؤامرة لإحدى فئات المجتمع أو إحدى القوى السياسيّة على فئاتٍ أخرى، بهدف الحصول على مكتسباتٍ سياسيّة أكبر.

إنّ الواقع الموضوعيّ للمجتمع الأردنيّ وسياسات الدولة المتراكمة، إضافةً إلى ضعف القوى السياسيّة والمدنيّة انعكس على الحراك الإصلاحيّ. فقد أنتج الحراك مجموعةً واسعة ومتعدّدة من الحراكات المناطقيّة والجهويّة، بل إنّ بعضها قد نشأ في حدود العشيرة التي يغيب عنها التنسيق الدائم. وهذا في حدّ ذاته جعل الحراك في الأردن، يحملُ - في بعض مظاهره - أجندةً مزدوجة: واحدة منها وطنيّة تتحدّث عن الإصلاح السياسيّ بصفةٍ عامّةٍ؛ والأخرى ذات طبيعةٍ مناطقيّة تركّز على تحقيق مجموعةٍ من المكتسبات لمنطقةٍ محدّدةٍ في البلاد أو مكوِّنٍ محدّدٍ من مكوّنات المجتمع الأردنيّ. ويسمح واقعٌ كهذا لأيّ دولة منظّمة بأن تناور بين تلبية جزءٍ من المطلبيّ الجهويّ، والتصلّب في الجانب السياسيّ.

عزّز هذا التشظّي في الحراك الإصلاحيّ، وانتقال صيغته من الوطنيّة إلى المناطقيّة ببرنامجٍ مزدوج يتضمّن تناقضًا في الأهداف؛ سيطرةَ رؤيةٍ أمنيّةٍ / محافظةٍ داخل النظام السياسيّ في التّعامل معه، مؤدّاها أنّ هذا الحراك لن يتطوّر ليكون حراكًا وطنيًّا عامًّا في ظلّ تركّزه في مناطقَ ذات كثافة سكانيّة، شرق أردنيّة، مقابل هدوءٍ أو ضعفٍ في المناطق ذات الكثافة الأردنيّة من أصولٍ فلسطينيّة. وعليه، ليس النظام السياسيّ في دائرة الخطر، ولا يحتاج تحقيق تطلّعاتِ الحراك الإصلاحيّ إلى تقديم تنازلاتٍ تغيّر من قواعد اللعبة السياسيّة. لذلك قدّم صيف 2011 مؤشّراتٍ واضحةً على تراجع النظام السياسيّ عن وعوده التي أطلقها بإجراء مراجعةٍ كاملةٍ لإدارته وآليّاته لصالح تمرير برنامجٍ إصلاحيّ سياسيّ[1] برؤيته الخاصّة يتضمّن تعديلاتٍ دستوريةً، وتعديلاتٍ على منظومة العمل السياسيّ والمدنيّ ومحاربة الفساد بما لا يؤدّي إلى تغييرٍ جدّي في أسلوب حكمه. أي أنّ صيغة النظام أصبحت تركّز على الشكل والإجراءات دون المحتوى. وعليه، فقد جاءت التعديلات الدستوريّة دون المستوى الذي طالبت به القوى السياسيّة المنظّمة. ثمّ جاء إقرار قانون الانتخاب لمجلس النوّاب بعد مرور أكثر من 18 شهرًا من نقاشه، ليكون قانونًا يُعيد إنتاج قانون الصّوت الواحد في إطار دوائرَ انتخابيّة صغيرة، تكرّس النفوذ السياسيّ للأطر الاجتماعيّة التقليديّة، وغير الطوعيّة، من عشائرَ أو شبه عشائر (روابط بلد الأصل)، وغيرها على حساب القوى البرامجيّة. بل إنّ تعامل الدولة مع ملفّ الفساد قد رسّخ انطباعًا بأنّ الدولة غير جادّة في محاكمة المتورّطين في قضايا الفساد. وما ساهم في الإبقاء على رصيدٍ من الشرعيّة والثقة في النظام السياسيّ، أنّ مجمل تعامله مع فعاليّات الحراك الإصلاحيّ السياسيّ لم يتّسم بالعنف أو الدمويّة. وأصبح لهذا العامل قيمة إضافيّة في ظلّ مقارنات المواطنين سلوك نظامهم السياسيّ مع سلوك أنظمةٍ مجاورةٍ مع شعوبها، والنظام السوريّ بالذّات.


احتجاجات تشرين الثاني
/ نوفمبر

تبرز أهمّية الاحتجاجات الأخيرة التي جاءت في أعقاب رفع الأسعار، في كونها مختلفة عن سمات الحراك الإصلاحيّ وتظاهراته. لقد اتّسمت هذه الاحتجاجات بالوطنيّة؛ أي امتدادها الجغرافيّ على مناطق المملكة كافّة، إذ شارك فيها المواطنون في جميع المحافظات: في المدن، والأرياف، والمخيّمات. وزاد عدد التّظاهرات التي انطلقت عفويّةً ليلة الإعلان عن رفع الأسعار، على مئةٍ وعشرين تظاهرة ومسيرة، واحتلّ المتظاهرون الميادين والساحات الرئيسة في المدن الأردنيّة.

وجذبت هذه الاحتجاجات فئاتٍ شعبيّةً لم يُعرف عنها المشاركة في الحراك الإصلاحيّ على مدار العامين، إذ استقطبت فئاتٍ عمريّةً متعدّدةً ومتباينةً، وشهدت دخول فئاتٍ عمريّة جديدة إلى جسم التظاهرات، مثل: الفئات العمريّة الأصغر سِنًّا، وبخاصّة من عمرهم أقلّ من عشرين عامًا، وأظهرت حضورًا واضحًا لطلبة المدارس الثانويّة.

وأدّت هذه الاحتجاجات أيضًا، إلى عدول بعض الأحزاب السياسيّة اليساريّة عن المشاركة في الانتخابات النيابيّة المقبلة (كانون الثاني / يناير سنة 2013)، فاتّسعت جبهة المقاطعين، بل قام بعض المواطنين بإحراق بطاقاتهم الانتخابيّة تعبيرًا عن رفضهم المشاركة في العمليّة السياسيّة في ظلّ الشروط الحاليّة. وأصدرت القوى السياسيّة بياناتٍ طالبت فيها الحكومة بالتراجع عن رفع الأسعار، وتعديل قانون الانتخاب، وتشكيل حكومة إنقاذ وطنيّ، ومحاكمة الفاسدين، وهي الشّعارات التي رفعتها غالبيّة التّظاهرات. وشاركت النقابات المهنيّة في دعم هذه الاحتجاجات من خلال الإضراب الجزئيّ لنقابة المحامين والمهندسين. إلّا أنّ الإضراب الذي كان له أثرٌ فعليٌّ في الشارع هو إضراب نقابة المعلّمين لمدّة ثلاثة أيام وشمل 70% من المدارس الأردنيّة بحسب تقديرات النّقابة. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ نقابة المعلّمين قد علّقت إضرابها ابتداءً من يوم الثلاثاء (20/11/2012)، ولم تعلن إلى الآن نهاية الإضراب رسميًّا.

اختلفت شعارات هذه الاحتجاجات وهتافاتها وأغانيها عن تلك التي سادت خلال الحراك الإصلاحيّ الذي شهده الأردن. كان الشعار المركزيّ للتظاهرات، خلال الأيّام الأربعة الأولى، هو شعار الربيع العربيّ "الشعب يريد إسقاط النظام"، قبل أنْ تقوم القوى السياسيّة المعارضة بجهدٍ مكثّفٍ لضبطه، والعودة به إلى ما كان عليه في أثناء الحراك الإصلاحيّ: "الشعب يريد إصلاح النظام". بل إنّ الشّعارات التي كانت موجّهةً ضدّ الحكومة، أو الجهاز الأمنيّ، أو الشخصيات السياسيّة، أو مؤسّسات النظام السياسيّ، كانت محدودةً مقارنةً بتلك الموجّهة ضدّ شخص الملك وسياساته. ما يمثّل تحوّلًا من نقد الحكومة والمستشارين والبطانة غير الصّالحة، إلى نقد الملك شخصيًّا.

ولعلّ هذا - في حدّ ذاته - يُمثّل تغيّرًا نوعيًّا في رؤية المواطنين للنظام السياسيّ، وأساليب التّعامل معه، فعلى مدار عقودٍ عدّة كانت الحكومة ومؤسّسات النظام السياسيّ تمثّل منطقةً وسيطةً عازلةً بين الملك والمواطنين، تتحمّل التذمّر الشعبيّ من سياساتٍ داخليّةٍ أو خارجيّة يُقدم عليها النظام السياسيّ وتحاول امتصاصه، وتُبقي الملك بمعزلٍ عن كلّ انتقاد. تجعل هذه المنطقة العازلة الملك في منزلةٍ أقرب إلى منزلة "الحَكم"، فهو يتدخّل في الوقت الملائم بتغيير الحكومة، أو إجراء تغييرات على المناصب السياسيّة يكون لها أثرٌ في استعادة النّظام السياسيّ حيويّته، وبعض شرعيّته، وأدواته السياسيّة. إلّا أنّ الاحتجاجات الأخيرة تجاوزت هذا التّقليد. بل إنّ محاولات رئيس الوزراء تحمّل مسؤوليّة القرارات الأخيرة وحده، كانت محدودة الأثر في الشارع.

والمُتتبّع لمقاربة النظام السياسيّ في التعامل مع الاحتجاجات في البداية، يجد أنّ النظام السياسيّ لم يتفاجَأ، بحدوث تظاهراتٍ واحتجاجاتٍ على رفع الأسعار، وإنّما تفاجأ بمدى اتّساعها وتعدّد فاعليّتها، إضافةً إلى أعداد المشاركين فيها وتنوّع مشاربهم. كما أنّ سقف الشعارات واستهداف الملك بصورةٍ مباشرة، كانا مصدريْن آخرين للمفاجأة. لذلك، باستثناء حديث رئيس الوزراء المُسجّل للتلفزيون الرسميّ، والذي أعلن فيه عن رفع الأسعار مساء يوم 13/11/2012، ومقابلته مع الجزيرة اللذين أكّد فيهما عدم التّراجع عن قرار رفع الأسعار، وشرحَ الظّروف الاقتصاديّة الخانقة، غابت الدولة الأردنيّة ورموزها عن الإعلام والفضاء العامّ لأكثر من 36 ساعة متتالية. ما كرّس شعورًا عامًّا بأنّ أركان النظام في حالة ذهولٍ ممّا يجري.

وجدت الأجهزة الأمنيّة نفسها شبه عاجزةٍ عن التعامل مع هذه الرقعة الواسعة من التّظاهرات، ما دفعها إلى استخدام العنف في تفريق المتظاهرين، وشنّ حملات اعتقالٍ واسعة بين صفوف المحتجّين والنّشطاء، كان بعضهم أحداثًا، ولا يزال أكثر من 200 ناشط رهن الاعتقال. كما أنّ الإغراق في التّظاهرات المناطقيّة والمحليّة الذي كان يُمثّل مصدر ضعفٍ للحراك الإصلاحي، أصبح مصدرَ قوّةٍ في هذه الاحتجاجات في ظلّ التحاق المواطنين على اختلاف أصولهم بالحراكات الاحتجاجيّة، وبخاصّة في المدن الرئيسة. إضافةً إلى ذوبان البرامج والمطالب المناطقيّة والجهويّة لصالح مطالب وطنيّة جامعة، الأمر الذي مثّل سقوط رهانات أركان النظام أنّ مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات المجتمع سيكون غير مشارك في هذه الاحتجاجات، وساهم في تعميق مفاجأة مؤسّسات الحكم وإرهاقها في التصدّي لهذه الاحتجاجات. وعلى الرّغم من عدم وضوح إستراتيجيّة الدولة في التّعامل مع هذه الاحتجاجات، إلاّ أنّها التجأت من أجل معالجة هذا الأمر إلى ثلاثة أساليبَ استُخدمت بالتوازي مع بعضها بعضًا، ودون أن تكون لها شموليّة الاستخدام في جميع مناطق الأردن؛ الأسلوب الأوّل، الانسحاب الأمنيّ من بعض المناطق سواء كان ذلك لتجنّب الاحتكاك مع المتظاهرين أو لأسبابٍ أخرى غير واضحة. وتمثّل الأسلوب الثاني في قيام قياداتٍ أمنيّة ومحليّة في الدولة الأردنيّة بحثّ فئاتٍ للخروج في مسيرات "ولاء وانتماء" أصبحت تُعرف بظاهرة "البلطجة" أو "الزعران". أمّا الأسلوب الثالث، فيتراوح بين احتواء التّظاهرات والتّعامل معها بعنف.

ترافقت هذه الأساليب الثلاثة مع الخطاب الرسميّ الذي ركّز على أنّه ليس ضدّ الاحتجاجات السلميّة، وإنّما ضدّ أحداث الشّغب، كما ركّز هذا الخطاب على أنّ هناك جهاتٍ أجنبيّةً تقف وراء عددٍ من هذه التظاهرات، وجرت الإشارة إلى أنّ مشاركين رئيسين في هذه التظاهرات هم من جنسيّات غير أردنيّة. بالطبع، حمّل الخطاب الرسميّ الإخوان المسلمين، وقوى سياسيّة أخرى، مسؤوليّة استغلال الظرف لتنظيم موجة الاحتجاجات من أجل تحقيق مكتسباتٍ سياسيّة فئويّة، إضافةً إلى إفشال الانتخابات النيابيّة المقبلة التي أعلنوا سابقًا عن مقاطعتها. ولم يؤثّر هذا الخطاب في انحسار الاحتجاجات، وبخاصّة في أيّامها الأربعة الأولى.

دشّنت هذه الاحتجاجات مجموعة من المفردات الجديدة في الحياة السياسيّة الأردنيّة. فنطاقها الذي شمل مختلف مناطق المملكة، وشهد انخراط المكوّنات الرئيسة للمجتمع الأردنيّ كافّة، يعكس أنّ المواطنين كانوا قادرين فعليًّا على تخطّي الانقسامات العموديّة في إطار الدفاع عن أوضاعهم الاقتصاديّة خصوصًا ومصالحهم عمومًا. وعليه، فإنّ نجاح الرّهان على الانقسامات وتغذية الهويّات الفرعيّة، لتحصين نظام الحكم، وضمان استقراره، لم يعد مضمونًا. كما أظهرت هذه الاحتجاجات أنّ فاعليّة الأسلوب الأمنيّ محدودةٌ وغير قادرةٍ على ضبط الشارع أو تجميد النقاش العامّ بشأن نظام الحكم.

أظهرت هذه الاحتجاجات تعامل مؤسّسات النظام السياسيّ مع الأزمة بأساليبَ تقليديّة، وأثبتت عدم فاعليّة خطابها الإعلاميّ، وبخاصّة ذلك الذي أشار إلى وجود "مدسوسين"، والقول إنّ بعض التّظاهرات تخدم أجنداتٍ خارجيّة. وعكست موجة الاحتجاجات الأخيرة تقليدية القوى السياسيّة المعارضة، وعدم قدرتها على احتواء غضب الشارع الأردنيّ، والعمل على تحويله إلى قوى ذات برامج سياسيّة واضحة المعالم.

على الرّغم من أنّ معظم التظاهرات رفعت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهذا لا يعني أنّ الشارع الأردنيّ تحوّل إلى مرحلة المواجهة المفتوحة مع النظام، فما زالت المؤشّرات تُظهر أنّ هذا الشعار هو شعارٌ تفاوضيّ، هدفه الضّغط على النظام من أجل إنجاز إصلاحاتٍ سياسيّة كبرى، سواء على الصعيد الدستوريّ، أو على صعيد تشريعات العمل السياسيّ.

مازال في جعبة النظام السياسيّ عدّة خيارات يستخدمها في إطار عمله على احتواء أزمة الاحتجاجات هذه، خاصّة أنّ النظام لم يدخل حتّى خلال الاحتجاجات الأخيرة في مواجهاتٍ دمويّةٍ مع المواطنين؛ من هذه الخيارات، إجراء انقلابٍ أبيضَ داخل النظام السياسيّ، بتغيير القيادات الرئيسة لمفاصل الدولة، وبتشكيل حكومةٍ جديدة تحظى بتوافقٍ وطنيّ، وتغيير قانون الانتخابات النيابيّ لضمان مشاركة القوى والأحزاب السياسيّة. مثل هذه الإجراءات تكون بدايةً لاستعادة الثقة بين المواطنين والنظام السياسيّ، على أنْ تترافق مع طرح برنامجٍ إصلاحيّ سياسيّ واقتصاديّ يقنع المواطنين بأنّهم سيستفيدون منه.

ومن خيارات النظام - بالطبع - إجراء صفقةٍ مع الإخوان المسلمين، أكثر التنظيمات تأثيرًا في الشارع الأردنيّ، يقنعهم خلالها بعدم مساندة التّظاهرات والاحتجاجات. تحتاج هذه الصّفقة إلى تنازلاتٍ عدّة من جانب نظام الحكم؛ أهمّها تغيير قانون الانتخابات، إضافةً إلى تغيير عقليّة مُترسّخة في أركان النّظام حاليًّا تمانع مشاركة الإخوان وترفضها. ولكن، تثبت التجربة الأردنيّة أنّ مثل هذه الصّفقات تنتج تحالفات استخدامية لا تعمّر طويلًا، وتنتهي حال زوال الأسباب التي دعت إليها.

بإمكان النظام أن يستمرّ في الاعتماد على أساليبَ تقليديّة في إدارة البلاد، جوهرها استمالة ولاءات بعض الفئات الاجتماعيّة، وقيادات في المجتمعات المحلّية، من خلال تقديم خدماتٍ ووظائفَ في القطاع العامّ. ويصبح مثل هذه الخيار متاحًا وممكنًا في ظلّ تقديم مساعداتٍ خارجيّة ضخمة للأردن.

من خلال مراقبة سلوك النظام السياسيّ الأردنيّ في العامين الماضيين، وقراءة ردود فعله تجاه موجة الاحتجاجات وتعامله معها، لا يبدو أنّه مُقبلٌ على إجراء تغييرات سياسيّة جذريّة، يقدّمها للمواطنين، لتدشين مرحلةٍ جديدة في الحياة السياسيّة الأردنيّة. ما يعني أنّ حالة الاحتقان السياسيّ ستبقى تراوح مكانها. وعليه، فإنّ انحسار هذه الموجة من الاحتجاجات لا يضمن - على الإطلاق - توقّف اندلاع احتجاجاتٍ مشابهة مجدّدًا في الأردن.

قد يكون خروج الناس ضدّ خطواتٍ تمسّ حياتهم اليومية، هو سبب اتّساع موجة الاحتجاجات هذه المرّة ما أدّى إلى انضمام فئاتٍ اجتماعيّة تجنّبت المشاركة في الحراك الاحتجاجيّ السياسيّ من عام 2011. ولكن، لا يعني ذلك أنّ الإجراءات الاقتصاديّة وحدها تكفي لمعالجة الموجة الأخيرة.


 

[1] على سبيل المثال جرى تشكيل لجنة الحوار الوطني بمبادرة من الحكومة للتوافق على قانونَي الانتخاب والأحزاب في آذار / مارس سنة 2011 وشكّل الملك عبد الله لجنة مراجعة الدستور في نيسان / أبريل سنة 2011.