العنوان هنا
تحليل سياسات 28 فبراير ، 2018

ترامب والقدس: قراءة من الدّاخل

الكلمات المفتاحية

محمد الشرقاوي

​أستاذ تسوية النزاعات في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقًا.

مقدمة

لا تتبلور القرارات الرّئاسية في البيت الأبيض في العدم أو تأتي بفعل نزوة سياسية قد تنتاب فجأة مزاج الرئيس في أيّ لحظة فتغدو إحدى ركائز السياسة الخارجية كما هو قرار الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، بل هي نتاج عملية مُمنهجة متنامية تتحرّك ضمن نسقيْن متكامليْن يُحدّدان جدلية صنع القرار: أوّلهما، سياق استباقي Proactive تستهله جماعات الضغط في واشنطن بالاستثمار ماديًا وسياسيًا وأيديولوجيًا في المرشّح بدايةً بحملته الانتخابية وحشد الرأي العام لمصلحته، ونهايةً بكبح جماح حظوظ خصومه المتنافسين معه في السباق الرئاسي. أما ثانيهما، فهو تفاعلي لاحق Reactive يستهدف التبشير الإعلامي بمدى التزام المرشح بوعوده الانتخابية وتركيب خطاب يُشيد بصدقيته بموازاة تطبيع المسار Trajectory لقراراته وتعزيز سردية أنها تخدم المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة.

إذًا، تشكل ازدواجية السّياق والمسار Context and Trajectory منهجية ضرورية في فهم كيف تحمّس دونالد ترامب لإعلان سياسته الجديدة إزاء القدس، ولماذا تحدّى معارضيه حتى من الجمهوريين في واشنطن وحلفاءه في شتّى العواصم بما فيها لندن وباريس وستوكهولم. ولم يكترث بالعزلة الدبلوماسية للولايات المتحدة خلال التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة. وشدد ترامب في خطابه عن حالة الاتحاد أمام جلسة مشتركة لمجلسَي النواب والشيوخ في واشنطن قائلًا "إنني أقدمت على إجراء كان قد حظي بتصويت بالإجماع في مجلس الشيوخ قبل سنوات، لقد اعترفتُ بالقدس عاصمة لإسرائيل". تدعو الحاجة أيضًا إلى تحليلٍ مُتَرَوٍّ لما رَمَتْ إليه زيارة نائب الرئيس مايك بنس إلى القدس وخطابه في الكنيست، حيث أكد أن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس سيتم في العام المقبل (2019).

سأركّز في هذه الورقة على الاعتبارات والعوامل التي أدّت إلى ما أسميه "دوغماتية القدس" لدى ترامب سواء في بعدها النفسي أو العقائدي أو الإستراتيجي أو السياسي، وتفكيك علاقته ليس مع قيادات جماعات الضغط أو اللوبي الإسرائيلي فحسب، بل أيضًا مع دور الحاضر ضمنيًا والغائب ظاهريًا وهو تأثير الجماعات المسيحية الأنغليكانية في اتجاهين: كيف يفهم المرشح ترامب والرئيس ترامب هذا الولاء والتأييد التاريخي من قبل هذه الأوساط المسيحية المؤيدة لليهود منذ قيام الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، وكيف يُسقط هؤلاء الأنغليكانيون تأويلاتهم واعتقاداتهم المتوارثة بشأن عودة المسيح على السياق العام الذي أوصل ترامب إلى البيت الأبيض، وهم يعتبرون فوزه بانتخابات الرئاسة "عملًا ربّانيًا" كما يقول نيل يانغ Neil J. Young مؤرّخ الأديان في جامعة كولومبيا[1].

تجادل هذه الورقة أنّ قرار ترامب بشأن القدس يجسّد تلاقي دوغماتيتيْن، إحداهما سياسية والأخرى دينية ضمن ما بدا أنه عملية صرف شيك دبلوماسي بقيمة القدس برمّتها لإسرائيل، وتجاهل مطالب الفلسطينيين بشأن القدس الشرقية، وتقويض أي مفاوضات حول وضعها النهائي أو حلّ الدولتين. وتسعى الورقة أيضا للردّ على سؤال مهمّ: هل يخدم قرار ترامب مصلحة الولايات المتحدة أوّلًا وإسرائيل ثانيًا؟ أم العكس ضمن السّجال المفتوح بفعل الخلاصات التي توصّل إليها جون ميرشايمر وستيفان والت في كتابهما الشهير عن اللوبي الإسرائيلي الصادر قبل عشر سنوات.

 

[1] Cristina Maza, “Trump will start the end of the World, claim Evangelicals who support him,” Newsweek, January 12, 2018, accessed on 28/2/2018, at: https://goo.gl/KCLbPY