تبحث هذه الدراسة التدخل الإسرائيلي في السودان والعلاقات الوثقى التي أقامتها إسرائيل مع نخب وشرائح سودانية مهمة في شمال السودان وفي جنوبه أيضاً، خلال ثلاث مراحل محددة من تاريخ السودان بداية بمرحلة الاستقلال (1954 - 1958)، ثم مرحلة التمرد في جنوب السودان منذ أواسط ستينيات القرن الماضي وحتى العام 1972، وأخيرا مرحلة تطوير العلاقات بين إسرائيل ونظام الرئيس السوداني جعفر النميري منذ أواخر السبعينيات وحتى سقوطه في العام 1985.
مقدمة
مازالت الأغلبية العظمى من الملفّات المتعلّقة بالعلاقات الإسرائيليّة - السّودانية في طيّ الكتمان ومغلقة في الأرشيفات الإسرائيلية، لأهميتها وخطورتها وعدم مرور الوقت الكافي للكشف عنها. وقد فُتح عددٌ قليل من الملفّات التي تطرّقت إلى هذه العلاقات في خمسينيات القرن الماضي. وتستند هذه الدراسة إلى هذه الملفّات التي فتحت لجمهور الباحثين والمحفوظة في أرشيف الدّولة في إسرائيل، وكذلك إلى عدد من الكتب التاريخيّة وكتب المذكّرات التي تناولت هذا الموضوع.
عند قيام إسرائيل، كان دافيد بن غوريون الذي رسَم نظرية الأمن الإسرائيلي وبلورَها يخشى بشدّة ظهور "كمال أتاتورك" عربي يوحّد العرب في مواجهة إسرائيل. وفي أعقاب ثورة 23 تموز/يوليو 1952 في مصر، وتحوّل مطلب الوحدة العربية من فكرة نخبويّة إلى مشروع شامل يحظى بتأييد عارم من الشّعوب العربية، بدا لبن غوريون أنّ ما يخشاه قد ظهر فعلاً، فوجّه جلّ جهده لإفشال هذا المشروع وإسقاطه. واعتقد بن غوريون أنّ الخطر على إسرائيل يكمن في قلب الوطن العربي، أي في "دول الطوق" وخاصّةً مصر لضرب هذا المشروع العربي وحاضنته مصر، ورئيسها عبد الناصر قائد المشروع ورمزه، سعى بن غوريون للبحث عن "شقوق" في الجسد العربي وعن مصالحَ آنيّة وضيّقة مع نخب عربيّة، وعن "مصالح مشتركة" مع أقليّاتٍ عرقيّة أو طائفيّة في الوطن العربي. كما سعى لإقامة تحالف مع دول "الحزام" أو دول "الأطراف" أو "المحيط" الواقعة في أطراف الوطن العربي، ضدّ دول القلب المحاذية لفلسطين. وضمّت دول "الحزام" في الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي كلاً من تركيا وإيران وإثيوبيا وأيضاً السودان واليمن..