العنوان هنا
دراسات 10 فبراير ، 2020

عن السياسة والسياسي والنظرية: تأملات في السجال بين المنهج والنظرية في وظيفة العلوم السياسية

عبد الوهاب الأفندي

رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا، نائب الرئيس للشؤون الأكاديمية. شغل سابقًا منصب عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية (2017-2020)، ورئيس برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية (2015-2017) في المعهد. أسس في عام 1998 برنامج الإسلام والديمقراطية في مركز دراسات الديمقراطية في جامعة وستمنستر بلندن، وعمل منسقًا له حتى عام 2015. عمل قبل ذلك طيارًا، وتولى مواقع دبلوماسية وصحافية في بريطانيا.

التحق أستاذًا/ باحثًا زائرًا في معهد كريستيان ميكلسن في بيرغن في النرويج (1995، 2003)، وجامعة نورثويسترن بشيكاغو (2002)، وجامعتي أكسفورد (1990) وكامبريدج (2010-2012)، والمعهد الدولي للفكر والحضارة الإسلامية بماليزيا (2008). حاضر في العديد من الجامعات في خمس قارات، بما في ذلك معظم الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا.

من آخر مؤلفاته: المثقف العربي والأمراض العربية: تأملات في المحنة المعاصرة (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2022)؛ ما بعد الثورات العربية: إعادة الاتزان إلى نظرية الانتقال الديمقراطي (بالإنجليزية، محرر بالاشتراك مع خليل العناني، عن دار نشر جامعة إدنبرة، 2021. والترجمة العربية قيد الإصدار عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)؛

Genocidal Nightmares: Narratives of Insecurity and the Logic of Mass Atrocities (Bloomsbury, 2015); After the Arab Revolutions: Decentring Democratic Transition Theory , co-edited with Khalil Al Anani (Edinburgh University Press, 2021). 


ملخص

تعرض الدراسة لإشكالات التسييس البنيوي في المعالجات السياسية، وخطر تحوّل السجالات المنهجية إلى مواجهات سياسية، وهو وضع تكرر في السجال المستمر بين دعاة العلموية وخصومهم. وبيّنت الدراسة أن لزوم البعد السياسي، و/ أو التوابع السياسية لكل تناول "علمي" للسياسة، لا يعني بالضرورة القبول بالتسييس الفج. فمن الممكن الاعتراف بالمحتوى السياسي للمعالجة من دون الانزلاق نحو التسييس. من هذا المنطلق، لا يمكن انتقاد التسييس الكامن أو البنيوي، كما في نقد إدوارد سعيد الاستشراق والمركزية الغربية، أن يقارن بالتسييس الفج لأنصار إسرائيل في معركتهم لإخضاع دراسات الشرق الأوسط الأميركية لمصالح إسرائيل واليمين المتطرف. ومن المنطلق نفسه، تتناول الدراسة نقديًا الرأي الذي يسم "دراسات المناطق" في العلوم السياسية بالفقر النظري والدونية العلمية، وتميل إلى دعم الرأي القائل إن ما يُسمّى "معالجات نظرية" هي بدورها "دراسات مناطق" تتخذ من الغرب مبتدأ وخبر التجارب السياسية، وتسعى لتعميم تجاربه على شكل "نظريات" ذات صلاحية كونية.

مقدمة

تواجه دراسة السياسة تحديات ذات طبيعة بنيوية، تشترك في بعضها مع باقي العلوم الاجتماعية، وتنفرد ببعضها الآخر؛ إذ تواجه العلوم الاجتماعية ما وُصف بأنه "أزمة هوية" بسبب طبيعتها التفاعلية، وتداخلها مع موضوعها، في الوقت نفسه الذي يتطلّب طموحها "العلمي" وجودًا موضوعيًا مستقلًا عن هذا الموضوع. وهذا يتطلب مراجعات مستمرة لموضوع هذه العلوم، وإعادة صياغة توجهات، بل هوية، هذه العلوم، في أثناء تفاعلها مع التحديات المعرفية والعملية التي يطرحها التأثر المتبادل بينها وبين موضوع الدراسة. لكن تنفرد العلوم السياسية، بحسب بعض الدارسين، بأنها لم تنجح في إيجاد مسافة كافية بينها وبين موضوعها، كما فعلت تخصصات أخرى أعادت توصيف موضوع دراستها بصورة كرّست استقلاله، مثل "الثقافة" (الأنثروبولوجيا) أو "المجتمع" (علم الاجتماع) أو "الاقتصاد" (علم الاقتصاد). في المقابل، نجد "السياسة" باعتبارها مجالَ دراسة، تطرح تحدّيًا مزدوجًا للتخصص. فمن جهة، هناك فهم مقصود عند البعض وضمني عند الغالبية، بأن لدراسة السياسة في حد ذاتها بعدًا سياسيًا وسعيًا للتأثير في السياسة. لكن من جهة أخرى، يرى التخصص ضرورة عزل نفسه عن الساحة السياسية، والتمترس في أبراج الأكاديمية حتى ينسب إلى نفسه استقلالية و"سلطة علمية". وتعني هذه "الاعتزالية" أن التخصص يفقد تأثيره العملي بسبب هذا التنزه المقصود عن المجال السياسي، لكن من دون أن يدرك مقام "العلم"، تحديدًا لأنه يبقى عملًا سياسيًا بقصد أو من دون قصد، إن نجح في أن يكون ذا تأثير.

يقود هذا إلى سجال آخر لا يزال محتدمًا داخل التخصص بشأن دعوى "العلمية" المرتبطة باسمه، التي يتمسك بها البعض بصورة متشددة تقترب من التنطع. وتجلّى ذلك في الولايات المتحدة، بدءًا من مطلع الخمسينيات في ظهور المدرسة السلوكية Behavioralism التي انتقدت الطابع الوصفي والتاريخي للدراسات السياسية، وتركيزها على المؤسسات، ونادت بأسلوب أكثر علمية في تناول السياسة. واستلهمت هذه المدرسة التوجهات السلوكية في العلوم البيولوجية وعلم النفس، وركّزت على دراسة السلوك الإنساني في الأفراد والجماعات، مفترضةً وجود قوانين تحكم هذا السلوك وتفسّره، ويمكن استخلاصها عبر دراسات علمية متجردة (تفصل بوضوح بين القيم والواقع التجريبي). وينبغي أن تعتمد هذه الدراسات الدقة في تسجيل الوقائع، مستخدمة المنهج الكمي ما أمكن، مع استصحاب فرضية وحدة العلوم، حيث تتكامل نتائج البحث في السياسة مع ما كشفت عنه العلوم الأخرى. لكن، واجهت سيادة المدرسة السلوكية ردة فعل مضادّة في منتصف الستينيات، بقيادة مجموعة سمّت نفسها "التجمع من أجل علوم سياسية جديدة" The Caucus for a New Political Science، أعلنت تمرّدها على ما وصفته بالتنطع و"العلموية" Scientism. ومثّلت هذه الحركة ثورةً مزدوجةً؛ إذ كانت من جهة ثورة منهجية ضد ما وصفته بأنه نهج علموي عقيم، صرَف النظرَ عن الدراسة الحقيقية للسياسة، وتخفّى خلف التقنيات من مواجهة القضايا السياسية. أما من جهة أخرى، فكانت ثورة سياسية "تقدمية" ضد ما وصفته بالتوجهات المحافظة، والخالية من كل توجه نقدي تجاه السياسات الرسمية السائدة، ومراكز الهيمنة القابضة. وهناك ترابط بين المشكلتين؛ حيث يرى الناقدون أن مزعم النأي عن الأحكام الأخلاقية اتُّخذ في الواقع ستارًا لإخفاء تحيّزات قيمية وسياسية تدعم مشروعية الأيديولوجيات المهيمنة والنظم القائمة والسياسات الرسمية. ويدخل في ذلك اعتبار الديمقراطية الأميركية النموذج المثالي الواجب احتذاؤه، والخالي من كل عيب.

* هذه الدراسة منشورة في العدد 41 (تشرين الثاني/ نوفمبر 2019) من دورية "سياسات عربية" (الصفحات 7-21)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.

** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.