العنوان هنا
مقالات 01 مايو ، 2012

هل سقطت فلسطين من حساب الثّورات العربيّة؟*

الكلمات المفتاحية

آلان غريش

عمل غريش منذ سنة 1995 حتّى سنة 2005 محرّرًا في الصّحيفة الفرنسيّة الشهريّة اليساريّة لوموند ديبلوماتيك (Le Monde Diplomatique) ، وتبوّأ سنة 2008 منصب مدير مساعد فيها. يرأس حاليّا الجمعيّة الفرنسية للصحفيّين المتخصّصين في شؤون المغرب والشّرق الأوسط، وهو عضو في مجلس إدارة معهد العالم العربيّ في باريس. ألّف وشارك في تأليف عدد من الكتب عن القضيّة الفلسطينيّة ومنظّمة التّحرير والشّرق الأوسط. تُرجمتْ كتبه ومقالاته من اللّغة الفرنسيّة إلى اللّغات الإنجليزيّة والفارسيّة والألمانيّة والعربيّة والهولنديّة واليابانيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والبرتغاليّة.

مع انطلاق التّظاهرات الأولى في تونس، عمّت أرجاءَ الوطن العربي كافّةً صدمةٌ عارمةٌ؛ وهي تُماثل في عمقها الصّدمتين اللّتين عرفتهما في أعقاب نكبتيْ عام 1948 وحزيران / يونيو 1967. وفي حين ركّزت هاتان الصّدمتان على فلسطين ومستقبلها؛ فإنّ الصّدمة الحاليّة قد تمحورت حول مشكلاتٍ داخليّةٍ. بل إن البعض يؤكّد أنّ الثّورات الرّاهنة لا صلة لها البتّة بفلسطين؛ فما مدى صحّة ذلك؟

ها نحن نشهد انتهاء حقبةٍ طويلةٍ من الرّكود والجمود. وها أنّ أخبار هروب الرئيس بن علي، والإطاحة بالرّئيس حسني مبارك، والحرب في ليبيا، ورحيل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح،  واندلاع التّظاهرات في البحرين وفي الأردن وفي المغرب وفي عمان وحتى في السّعودية؛ صار جميعها يتبوّأ مركزَ الصّدارة في نشرات الأخبار. ولم تسلمْ أيّ دولةٍ من الدّول الأعضاء في الجامعة العربيّة. وأُطيح بزعماءٍ كانوا يحكمون بلدانهم طوال عقودٍ خلت. ومن المؤكّد أنّ هذا الحراك لا يزال بعدُ في بداياته، كما أنّه من المرجّح أن يتطلّب الأمر أعوامًا أخرى لإسقاط نظام الحكم الذي استقرّ منذ الستّينيات. لكن، للمرة الأولى منذ تلك الفترة، استعادت الشّعوب العربيّة زمام السّيطرة على تاريخها؛ لتندثر الأسطورة القائلة باستكانة تلك الشّعوب، وبأنّها غير جديرةٍ بالدّيمقراطية.

وقد بدت فلسطين غائبةً نسبيًّا عن تلك الاضطرابات؛ إذ يؤكّد بعض المحلّلين الغربيّين أنّ تلك الثّورات غير مهتمّةٍ بالنّزاع مع إسرائيل، وغير آبهةٍ بفلسطين. وأنّ برنامجها لا يُعنى إلّا بالسّياسة الدّاخلية، وأنّها ليست مناهضةً لأميركا وللغرب. غير أنّ تلك، هي تحليلات خاطئة من دون شكّ، مثلما أثبتته حوادث عديدة؛ بدءًا بالهجوم على السّفارة الإسرائيليّة في القاهرة، وصولًا إلى استقبال الحكومة التّونسيّة الجديدة لإسماعيل هنيّة، رئيس وزراء حكومة حركة حماس. لكنّ تلك الملاحظات القليلة وحدها، لا تستطيع أن تجيب عن السّؤال الخاصّ بالموقع الذي تتبوّؤُه فلسطين في تلك الثّورات العربية. فللإجابة عن هذا السّؤال؛ لا بدّ من العودة قليلًا إلى تاريخ العلاقات التي ربطت القضيّة الفلسطينيّة بالعالم العربي.


تاريخ طويل


مع نشوب الحرب العالميّة الأولى، واحتلال القوّات البريطانيّة للقدس، وصدور إعلان بلفور في 2 تشرين ثاني / نوفمبر 1917؛ بدا مستقبل فلسطين مهدّدًا. ففي البداية، بعد أن ساور القلقُ عددًا من الزّعماء الفلسطينيّين بشأن الهجرة اليهوديّة ومستقبل أراضيهم؛ قصدوا فيصل الأوّل، أحد أبناء الشّريف الحسين بن علي أمير مكة وقائد الثّورة العربية الكبرى ضدّ الإمبراطوريّة العثمانيّة، وكان فيصل قد استقرّ في الحكم في دمشق. وكانت النّخب العربيّة في فلسطين، وهي تكتشف بذهول الوعدَ الذي قطعته لندن بإنشاء "وطنٍ قوميٍّ لليهود" في فلسطين؛ تبحث عن الحماية من المشروع الصّهيوني. وبدت لها الدّولةُ المستقلّةُ في دمشق إطارًا مناسبًا لذلك. لكنّ دخول القوّات الفرنسيّة دمشق، في 25 تموز / يوليو 1920، وهروب فيصل؛ قد حملا الفلسطينيّين على صرف النّظر عن مشروع "سورية الكبرى". وقد ساهم إقرار الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1922، وترسيم الحدود؛ في حصر الحركة الفلسطينيّة داخل تلك الحدود، وتقييدها بأهداف "محلّية".

وهكذا طوّرت الحركة الفلسطينيّة مقاومتها للندن وللصّهيونيّة ضمن هذا السياق. وهي لم تلتمس من  البلدان العربيّة والإسلاميّة إلّا دعمًا خارجيًّا. غير أنّ الثّورة العربيّة الكبرى اندلعت في فلسطين عام 1936؛ بعد أن كان قد أشعلها إضرابٌ عامٌّ، استمرّ ستّة أشهرٍ. لمّا قلقت المملكة المتّحدة من هذه التّعبئة؛ دفعت بحلفائها العرب إلى التدخّل، ولاسيّما مصر والسّعوديّة وشرق الأردن. فتوصّلت الدّول الثّلاث بالفعل إلى تعليق الإضراب، لكنّها لم تكن غير هدنة قصيرة. إذ لم تعْدل لندن عن سياستها الدّاعمة للهجرة اليهوديّة، وبدأت بعدها انتفاضةٌ فعليّةٌ لم تُخمدْ إلّا في عام 1939؛ بعد أن حصدتْ آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين. هذا إضافةً إلى أنّها تسبّبت في انقساماتٍ داخليّةٍ شقّت صفوف الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي فقدت معظم كوادرها، كما فقدت استقلالها السّياسي. وهكذا أصبحت القضيّة الفلسطينيّة قضيّةً عربيّةً.

ومن ناحيةٍ أخرى، أدّى اهتمام الرّأي العامّ العربي المتنامي بفلسطين، بالتّزامن مع رغبة بريطانيا في إشراك حلفائها العرب، إلى "تعريب" النّزاع. غير أنّه كان تعريبًا قادته حكوماتٌ تابعةٌ للندن. وقد أسفر نشوب حرب عاميْ 1948-1949، وعدم إقامة دولة عربيّة ولو على جزءٍ من فلسطين، إضافةً إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيّين؛ عن تعزيز تلك التّبعيّة التي لحقت بالفلسطينيّين وبمنظّماتهم.

تسبّبت الهزيمة العربيّة في موجةٍ أولى من الاضطرابات. وفي غضون عشرة أعوام، شهدت المنطقة سقوط النّظام القديم. فقد أدّى صعود القوميّة العربيّة إلى زعزعة الأنظمة المتحالفة مع الغرب. وتسلّم جمال عبد الناصر و"الضبّاط الأحرار" مقاليد الحكم في القاهرة، في 23 تموز / يوليو 1952. كما أسقط عبد الكريم قاسم النظامَ الملكيّ في بغداد في 14 تموز / يوليو 1958. أمّا الكارثة النّاجمة عن حملة السّويس في 1956؛ فبدّدت أحلامَ الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي في استعادة مصر. وجعل إنشاءُ الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بين مصر وسورية عام 1958 الوحدةَ العربيةَ تبدو قريبة المنال.        

ولا يزال الفلسطينيّون -أكانوا في الشّتات أو يعيشون في ظل المملكة الهاشمية- مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالأرض التي هُجّروا منها، ومتمسّكين بالعروبة الأصيلة التي نمت بفعل التّهميش الاجتماعي والسّياسي الذي يعيشونه. فمن ناحيةٍ، هم ليسوا محلّ ترحيب في أيّ مكانٍ في العالم العربي. وهم لا يتمتّعون بالحقوق نفسها التي يتمتّع بها السكّان الأصليّون من ناحية أخرى؛ حتّى عندما يُمنحون جنسيّة البلد، كما هو الحال في الأردن.
في أثناء تلك الفترة -الممتدّة بين عاميْ 1949 و1967- ظهر جيلٌ جديدٌ من القادة الفلسطينيّين. وقد كان صدى الأحداث التي جرت في مصر وفي العراق هائلًا بين الفلسطينيّين؛ أولئك الذين التحقوا بحماسٍ بركب المدّ الثّوري الذي اجتاح القوميّة العربيّة، التي كانت -بدورها- جزءًا من حركة عدم الانحياز المناهضة للإمبرياليّة. وكانت النّاصريّة أحد أهمّ أشكال تلك العروبة (وإن لم تكن شكلها الوحيد). منذ ذلك الحين، صار شعار الفلسطينيّين هو: "تحرير فلسطين يمرّ بالوحدة العربية".

وعلى الرّغم من ذلك؛ بقيت فلسطين أداةً في أيدي الحكّام العرب، وورقةَ مساومةٍ في صراعهم من أجل الهيمنة. وأدّى هذا التّنافس، ولاسيّما بين عبد النّاصر وقاسم، إلى إطلاق الدّيناميّة المُفضية إلى إنشاء منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وفي أيلول / سبتمبر عام 1963، اختارت الجامعة العربيّة أحمد الشّقيري مندوبًا لفلسطين في مجلسها؛ وذلك في انتظار أن يصبح الشّعب الفلسطينيّ قادرًا على انتخاب ممثّليه. وفي أثناء القمّة الأولى التي عقدها رؤساء الدّول العربيّة في القاهرة، بدعوةٍ من عبد النّاصر، ما بين 13 و17 كانون الثّاني / يناير 1964؛ جرى تكليف أحمد الشّقيري بإجراء مشاوراتٍ لإرساء أسس كيانٍ فلسطينيٍّ. وانعقد المؤتمر الوطني الفلسطينيّ الأوّل بين 28 أيار / مايو و2 حزيران / يونيو من السّنة ذاتها، وشهد ولادة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة.

وتبنّتْ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة الميثاق القومي الفلسطيني، الذي يؤكّد في مادّته الأولى عند تعريفه بفلسطين؛ على أنّها "جزءٌ لا يتجزّأ من الوطن العربي الكبير، والشّعب الفلسطيني جزءٌ من الأمّة العربيّة"، في حين لم يذكر الميثاق أنّ "الشّعب العربيّ الفلسطيني، هو صاحب الحقّ الشّرعي في وطنه"، لكن يظلّ هذا الوطن "جزءًا لا يتجزّأ من الوطن العربيّ الكبير".

وفي الوقت الذي اعتنقت فيه أغلبيّة الفلسطينيّين تلك الرّؤية؛ بدأت مجموعةٌ صغيرةٌ -عُرفتْ بحركة فتح، في نهاية عام 1959- في تعميم وجهة نظرٍ مغايرةٍ. فقد رأت أنّ تحرير فلسطين هو مسألةٌ فلسطينيّةٌ بالأساس، ولا يمكن أن يُعهد بها إلى الدّول العربيّة. ويمكن للأنظمة العربيّة تقديم المساعدة وتوفير الحماية في أحسن الأحوال. وكانت تلك الأفكار -التي دافعت عنها مجلّة "فلسطيننا"- تتعارض والوحدة العربيّة السّائدة وقتئذٍ. وتعزّزت تلك الأفكار نتيجة فشل الوحدة المصريّة السّورية في 1961، ونجاح الثّورة الجزائريّة في 1962؛ تلك التي اتّخذها قادة "فتحٍ" نموذجًا يُحتذى. وكانت بعض كتاباتهم عنيفةً في نقدها للأنظمة العربيّة؛ إذ كتب أحد محرّري صحيفة "فلسطيننا" مخاطبًا الأنظمة العربيّة: "إنّ كلّ ما نطلبه هو أن تحوطوا فلسطين بحزامٍ دفاعيٍّ، وأن تتفرّجوا على المعركة بيننا وبين الصّهاينة"، أو "إنّ كلّ ما نطلبه، هو أن تكفّوا أيديكم عن فلسطين". وكانت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، غير المعروفة بعدُ في ذلك الوقت، لا تتمتّع بثقة أغلبيّة العواصم العربيّة، وغالبًا ما كانت تُنتقد بوصفها تحمل طابعًا قُطْريًّا. بل إنها وُصفتْ -بعد شنّها عمليّاتها العسكريّة الأولى (في مطلع عام 1965)- بأنّها عميلةٌ في حلف بغداد، الذي عُرف في ما بعد باسم "الحلف المركزي" CENTO Central Treaty Organization؛ وهو ذلك الحلف الذي ضمّ باكستان وإيران وتركيا وبريطانيا، برعاية الولايات المتّحدة.

وقد ساهمت حرب عام 1967، والهزيمة النّكراء التي مُنيت بها مصر وسورية والأردنّ في وجه إسرائيل؛ في توجيه ضربةٍ قويّة للقوميّة العربيّة الثّوريّة، والتسبّب بموجةٍ ثانيةٍ من التّغيرات في العالم العربي. ففي المعسكر الفلسطيني، تعزّزت مواقف أولئك الذين راهنوا على استقلاليّة الشّعب الفلسطيني وعلى سيادته في اتّخاذ قراره. واستمرّ الفراغ السّياسي النّاجم عن اتّساع الانهيار العربي عدّة أشهرٍ؛ متيحًا لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة -وفي مقدمتها حركة فتح- فرصةَ تصدُّرِ واجهة المشهد الإقليمي، والاستقرار في الأردن.

وقد سبّب ارتباط منظّمة التّحرير الفلسطينيّة الوثيق بالدّول العربيّة، معاناةً لها. فُأجرِيتْ مفاوضاتٌ من أجل انضمام المنظّمات الفدائيّة إليها. وفي تمّوز / يوليو 1968، انعقد المؤتمر الرّابع للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي فازت حركة فتحٍ فيه بالأغلبيّة. وبناءً على ذلك، عُدّل الميثاق (الذي بات الميثاق الوطني الفلسطيني) والنظام الأساسي لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وتصدّر الكفاح المسلّح مجموعة القرارات الصّادرة عن المؤتمر. هذا، وتؤكّد المادّة التّاسعة من الميثاق المعدَّل، على أنّ "الشّعب العربي الفلسطيني يؤكّد [...] على حقّه في تقرير مصيره، وفي السّيادة على وطنه. وابتداءً من المادّة الأولى، جرى تعريف فلسطين على أنّها: "وطن الشّعب العربيّ الفلسطينيّ"، ذاك الذي كرّر الميثاقُ التّأكيد على دوره. ويتّضح ذلك في تعريف منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، كما ورد في الميثاق. إذ ذكرت المادّة السّادسة والعشرون، أنّ "منظّمة التّحرير الفلسطينيّة الممثّلة لقوى الثّورة الفلسطينيّة، مسؤولةٌ عن حركة الشّعب العربيّ الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه، وتحريره والعودة إليه، وممارسة حقّ تقرير مصيره." 

ولقد بدت إستراتيجيّة الفدائيّين مماثلةً لتلك التي سادت وقتئذٍ في العالم الثّالث، من فيتنام إلى أميركا اللّاتينيّة، مرورًا بإفريقيا الجنوبيّة؛ إذ هي إستراتيجيّة ثورةٍ وطنيّةٍ واجتماعيّةٍ تحملها البندقيّة. فهل كانت قد أزفت ساعةُ الثّورة العربيّة التي تكون فيها فلسطين رأس الحربة؟ لم يكن الأمر كذلك؛ إذ لم تتحرّك "فتح" أبدًا وفقًا لأيّ منطقٍ "ثوريٍّ" كان، ولم تفكّر في الكفاح المسلّح قطّ. فلا وجود لفكرٍ إستراتيجيٍّ فلسطينيٍّ، ولا لنصٍّ عسكريٍّ نظريٍّ. لقد سعت المقاومة الفلسطينيّة قبل كل شيء إلى تحقيق بناء "إطار الدّولة" الضّروري، الذي يمكّن الشعور الوطني من النّهوض. ووجدت المقاومة الفلسطينيّة هذا الإطار ماثلًا في منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وكان قائد الجناح اليساري لحركة فتح، ناجي علوش، محقًّا حين لام قيادة الحركة على تخلّيها عن الثّورة، وعلى تحويل منظّمة التّحرير الفلسطينيّة إلى "دولةٍ في المنفى". ويكتب يزيد صايغ[1] معلّقًا على ذلك الأمر: "كان الجيل الذي سيطر على منظّمة التّحرير الفلسطينيّة عاميْ 1968 و1969 يشبه بصورةٍ لافتةٍ تلك "النّخب الجديدة"، التي تبوّأت الحكم في مصر وفي سورية وفي الجزائر وفي العراق، بين عاميْ 1952 و1968".

وقد تولّت كوادر حركة فتحٍ -التي كانت تُعدّ أقوى المنظّمات الفدائيّة- عددًا من المناصب القياديّة. ودمجت الحركةُ بعضَ مؤسّساتها الخاصّة (مثل مؤسّسة الشّهيد، والهلال الأحمر) في منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وأنشأت من ناحيةٍ أخرى عددًا من البنى؛ وذلك لتوفير الوظائف في صفوف قواعدها (كنوعٍ من أنواع المحسوبيّة) أو في المنظّمات الأخرى، ضامنةً بذلك ولاء عشرات الآلاف من الموظّفين. و"لم يكن ذلك أبدًا أمرًا مستَغرَبًا" في ما يخصّ الدّول المستقلّة حديثًا، لكن تكمن فرادة تلك السّياسة في الحالة الفلسطينيّة، في "أنّها كانت تنمو داخل إطار حركة تحرّرٍ"، لا تسيطر على أيّ جزءٍ من أراضيها. ومثّل تدفّق المساعدات الماليّة من دول الخليج، أو من غيرها من الدّول العربيّة (ذلك الدّخل السّياسي الفعلي)؛ عنصرًا حاسمًا في بناء شبه الدّولة تلك، وفي جعل إدارتها تعتمد على المحسوبيّة.

وقد حدّد خيارُ الدّولة هذا، قوّةَ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، وضبط حدودَها في آنٍ واحدٍ. إذ باتت منظّمة التّحرير -في السبعينيّات- الإطارَ المرجعيَّ لكلِّ المنظّمات الفلسطينيّة، وبصورةٍ أوسع، لكلّ فلسطينيّي الشّتات في العالم. هكذا كان بإمكانها الادّعاء بأنّها "الممثّل الوحيد للشّعب الفلسطيني"، ولكنْ بالمعنى الذي تمثّل فيه الدّولة مواطنيها. غير أنها أخذت تفقد طابعها "الثّوري"، وراحت تقبل بالوضع العربيّ الرّاهن، النّاشئ عن هزيمة 1967.        

من جانبٍ آخر، وعلى الرّغم من تمتّع منظّمة التّحرير بنوعٍ من التعدّديّة؛ فإنّها عانت من العيوب نفسها التي شكت منها الدّول العربيّة المجاورة، والتي استوحت منها المنظّمةُ تجربتَها. وذلك كغياب الرّقابة على القادة، والعجز عن النّقد الذّاتي، والبيروقراطيّة المفرطة، والقيم الموروثة، والتفرّد في السّلطة، وغيرها من العيوب. وقد تخوّفت المنظّمة من أيّ مبادرةٍ مستقلّة قد يطلقها المجتمع. وبقيت مرتابةً بشدّةٍ من جميع الحركات في الضفّة الغربيّة وفي غزّة، اللّتين عجزت عن السيطرة عليهما جزئيًّا. ولقد قبلت المنظّمات الفلسطينيّة كلّها -بما فيها اليساريّة- بمنطق الدّولة هذا والمحسوبيّة؛ إذ دأبت على التّفاوض مع عرفات بشأن توزيع المناصب والموارد. وهكذا فقدت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة أيّ دورٍ كان يمكن أن تؤديه كمحفّزٍ ثوريٍّ في الوطن العربي. وبناء على ذلك، استقرّ دور منظّمة التّحرير في اللّعبة السّياسيّة العربيّة؛ لتقف بذلك في صفّ عاصمةٍ ضدّ أخرى، مندون أن تقطع علاقتها فعليًّا بأيّ طرفٍ كان. وإذ واجهت منظمة التّحريرِ الدّولةَ الأردنيّة واللّبنانيةَ والسّوريةَ تباعًا؛ عجزتْ عن تطوير إستراتيجيّةٍ للكفاح المسلّح، فانخرطت في المسار الدّبلوماسي، الذي تُوِّج بتوقيع اتّفاقيّة أوسلو.

غير أنّ ظاهرة البيروقراطيّة التي أصابت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة (أصابت منظّماتها كافّة، بما فيها تلك التي تُعرف بأنّها يساريّة)؛ لم تخفِّف من الأهميّة التي تحظى بها القضيّة الفلسطينيّة لدى الشّعوب العربيّة. إنّها تُعدّ رمز النّظام الاستعماريّ القديم، وهي مرادفةٌ أيضًا لمبدأ "ازدواجيّة المعايير"، ذاك الذي تنتهجه السّياسات الغربيّة. وعلى الرّغم من القيود التي فرضتها الأنظمة العربيّة على شعوبها أثناء الانتفاضة الثّانية، وفي إثر الغزو الإسرائيلي لغزّة في كانون الأوّل / ديسمبر 2008- كانون الثّاني / يناير 2009؛ استطاعت الشعوب أن تعبّر بقوّةٍ عن تضامنها مع الفلسطينيّين.


الثّورات العربيّة


غير أنّ موجةً ثوريّةً ثالثةً قد اجتاحت العالم العربيّ مؤخّرًا بعد الموجة الأولى في الخمسينيّات.  فالموجة الثّانية التي أصابتها في الستّينيّات؛ لم تتسبّب بها فلسطين بشكلٍ مباشرٍ. هذا وإن كان يتبادر للمرء أنّ مشهد السّحق المتواصل للفلسطينيّين، ذاك الذي يُعاد بثّه على الفضائيات؛ قد ساهم في شعور الشّعوب العربيّة بالمهانة، واضطلع بدورٍ في شحذ إرادتهم لاستعادة كرامتهم.

وقد أصابت تلك الموجة السّلطتين الفلسطينيّتين في رام الله وفي غزة. وعلى الرغم من ذلك؛ حظرت سلطتا فتح وحماس التّظاهر، بهدف التّضامن مع الشّعب المصري في كفاحه ضدّ حسني مبارك. وفي إثر ذلك، قمعت السّلطتان -بشدّةٍ- حركة 15 آذار / مارس، التي حاولت أن تترجم مطالب الكرامة، ومكافحة الفساد، ووضع حدّ للاستبداد؛ وذلك في محاولة منها لنقلها إلى الوضع الفلسطيني. فكانت أولى نتائج الثّورات العربيّة، الطعن في السّلطات الفلسطينيّة العاجزة. ولا تعود أزمة تلك السّلطات إلى استبدادها فحسب؛ وإنّما أيضًا إلى عجزها عن صوغ إستراتيجياتٍ، بعد فشل إستراتيجيات التفاوض التي جرّبتها فتح في اتّفاقية أوسلو فشلًا ذريعًا في التّفاوض. أمّا إستراتيجيّة "حماس" القائمة على "الكفاح المسلّح"؛ فقد فقدت مصداقيّتها، إذ شرعت المنظّمة الإسلاميّة -منذ كانون الثّاني / يناير 2009،  في بذل كلّ ما في وسعها لضمان السّلام مع إسرائيل.

لكنّ الثّورات العربيّة غيّرت أمرًا أساسيًّا؛ متجاوزةً في ذلك التّداعيات المباشرة. فللمرّة الأولى منذ السّبعينيّات، لم يعد بالإمكان تحليل الجغرافيا السّياسية للمنطقة، من دون أن تؤخذ في الاعتبار -ولو جزئيًّا- تطلّعات الشّعوب والبلدان التي استعادت التحكّم في مصيرها.

وطوال عقودٍ؛ تمكّنت الولايات المتّحدة من توفير الدّعم غير المشروط لإسرائيل من دون الاضطرار إلى دفع ثمن دعمها هذا، في ماعدا أنّها كانت لا تحظى بشعبيّةٍ لدى "الشارع العربي"، الذي كان محلّ سخريتها، طالما بقي الحكّام العرب حلفاءها الأوفياء. وقد سبق أن سمعنا في آذار / مارس 2010، تصريح الجنرال ديفيد بترايوس David Petraeus -الذي كان وقتئذٍ قائد القوّات المركزيّة الأميركيّة  CENTCOM Central Command- إذ أكّد: "أنّ الغضب العربي بشأن القضيّة الفلسطينيّة، يحدّ من نفوذ الشّراكة الأميركيّة مع حكومات تلك المنطقة وشعوبها، ويُخفّف من عمق علاقاتنا معها، ويضعف شرعيّة الأنظمة المعتدلة في العالم العربي"[2].

وذلك ما نراه ماثلًا أيضًا في الجدل الدّائر في مصر حول اتّفاقيات كامب ديفيد والسّلام بين مصر وإسرائيل. فبحسب ما كتبه ستيفن أ.كوك Steven A. Cook من مجلس العلاقات الخارجيّة Council on Foreign Relations في نيويورك، "يرى عددٌ من المصريّين أنّ تلك الاتّفاقيّات تعيق قدرة القاهرة على التّدخل؛ في حين تسمح لإسرائيل وللولايات المتّحدة بالدّفاع عن مصالحها الإقليميّة من دون أيّ عقبة. وإذ تحرّرت إسرائيل من خطر الحرب مع مصر؛ تمكّنت من ملء مستوطناتها في الضفّة الغربيّة وغزّة بمئات الآلاف من الإسرائيليّين، وغَزَتْ لبنان مرّتين (في 1982 وفي 2006)، وأعلنت القدس عاصمةً لدولتها، وقصفت كلًّا من العراق وسورية"[3].

ومن الآن فصاعدًا، يتحتّم على أيّ حكومةٍ مُقبلةٍ في القاهرة أن تضع الرّأيَ العامّ المصريّ في اعتبارها، ولو جزئيًّا. ولن يستطيع أيّ رئيسٍ قادمٍ الخضوع لإسرائيل والولايات المتّحدة، مثلما خضع لهما مبارك. لكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ الدّيمقراطيّة توفّر الشّروط الملائمة لتفكيرٍ أكثر عموميّة في ما يتعلّق بالصّراعات في الوطن العربي، وبأشكالها وأهدافها، وبالعلاقات بين الدّيمقراطيّة والتّحرّر الوطني. ولا يساور الشّكُّ أحدًا في أنّ فلسطين ستكون في قلب ذلك التّجديد وتلك التساؤلات التي يشهدها العالم العربي؛ وذلك بفضل ما بلغتْه من موقعٍ يضعها في قلب التّعبئة العالميّة المناهضة لنظامٍ دوليٍّ جائرٍ، وذلك وفقًا لما حاولتُ أن أبيّنه في دفّتيْ هذا الكتاب.


 

*  مقدّمة كتاب علامَ يطلق اسم فلسطين De quoi la Palestine est-elle le nom?  للكاتب الفرنسي ألان غريشAlain Gresh ؛ وهو يصدر قريبًا باللّغة العربيّة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد خصّ المؤلف الطّبعة العربيّة للكتاب بالمقدّمة المذكورة أعلاه.

[1]  Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State. The Palestinian National Movement, 1949-1993, Clarendon Press, Oxford, 1997.

[2]  تصريح أمام مجلس الشّيوخ الأميركي، في 16 آذار/ مارس 2010

[3] Steven A. Cook, « The U.S.-Egyptian breakup », Foreign Affairs  website, February 2011.