العنوان هنا
دراسات 18 مارس ، 2019

سمير أمين: في نقد حلم انكسر

عصام الخفاجي

أكاديمي وباحث في العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي. درّس في جامعة أمستردام وجامعة نيويورك وجامعة يال.

تنظر هذه الدراسة إلى إرث سمير أمين الفكري، بوصفه أحد أعمدة مدرسة سُمّيت "مدرسة التبعية"، التي طغت على فهمنا لعلاقة تخلّف العالم الثالث بالعالم الرأسمالي المتقدّم. ثوّرت مدرسة التبعية فهمنا للعالم الثالث، وأسباب تخلّفه، رابطةً هذا التخلّف بآليات تطوّر الرأسمالية على مستوى العالم كلّه. تمثَّل إرث سمير أمين ومساهمته في تقديمه تحليلًا وتفسيًرا اقتصاديًّا صلدًا للكيفية التي تجعل تقدّم العالم الرأسمالي المتقدّم متلازمًا مع تخلّف العالم الثالث. تحتفي هذه الدراسة بإنجازات مدرسة التبعية، وتنقد قصورها، وتحاول تفسير أسباب انهيارها.

دُفن سمير أمين حيث يليق به، في مقبرة بير لاشيز Père Lachaise التي تضم رفات مناضلي كوميونة باريس 1870. هنا يرقد عشرات الثوريين ممن وقفوا أمام فرق الإعدام، بعد أن هُزمت ثورتهم التي أقامت لبضعة أشهر أول "سلطة نافية للسلطة" في التاريخ، سلطة تقضي على الدولة لتقيم محلّها سلطة الكوميونات، سلطة التجمّعات الطوعية للعمال والكادحين التي تتولّى إدارة شؤون المجتمع بالمساواة، سلطة لم يهزمها غير استدعاء الحاكم "الوطني" الإمبراطور لويس بونابرت (ابن أخ نابليون بونابرت) جيش الدولة الألمانية التي لم يمضِ على تأسيسها غير عقدين من الزمن، لكي تحتل بلده وتقضي على أولئك الحالمين الفوضويين.

أن يرقد مفكّر مناضل (ولعل أمين كان يفضّل أن أقدم صفة "المناضل" على "المفكّر") إلى جانب مناضلين ليست الرمزية الأهم هنا. عشرات من أحبّتي من شتى الجنسيات دُفنوا (أو أوصوا بدفنهم) هنا أو في مقبرة هايغايت Highgate في لندن، حيث يرقد كارل ماركس. رمزية رقود أمين في مقبرة بير لاشيز تكمن في كونه مناضلًا تشارك مع أبطال الكوميونة في حلم لم يكن مؤسّسًا على واقع. لا الشروط المادية - الاقتصادية ولا وعي البشر كانا مؤهّلين لإقامة مجتمع كهذا. كأن هايغايت وبير لاشيز رمزان لرفقة متصارعة. الثوري كارل ماركس حذّر ثوريي الكوميونة: لم تحن شروط الثورة بعد. لكنه، إذ ثار شيوعيو باريس، وقف بكل طاقته معهم.

وهكذا هي علاقتي بأمين. كانت تناوسًا بين رؤية هايغايت ورؤية بير لاشيز: حلم نتشارك فيه حول ضرورة تجاوز الرأسمالية، وحتمية تجاوزها، بصفتها منظومة علاقات استغلال. تبنّينا، أمين وأنا، منهج التفكير المادي التاريخي (الماركسي وفق التعبير الشائع)، اعتنقنا معًا رؤى رافضة الماركسية السوفياتية، انتمينا إلى تيّار لم تكن له الغلبة في أوساط اليسار، يرى أن نظم الاستبداد القومية (الناصرية والبعثية وغيرها) تبني نظم استغلال طبقي جديدة لا نظمًا اشتراكية، رفضنا التطويب السوفياتي لتلك النظم.

لكنّنا اختلفنا على كل ما عدا ذاك. إذًا سيسأل القارئ: وما عدا ذاك؟ "ما عدا ذاك" هو جسم هائل من التنوّع في صفوف اليسار، أنتج صراعات فكرية وسياسية حادة، لكنه أنتج أيضًا حراكًا فكريًّا شديد العمق أغنى الفكر الإنساني، وتأثر به معظم التيارات الغربية يمينًا ويسارًا، صراعات تبدأ من النظرية وتنتهي بالرؤى السياسية.

يبدأ الخلاف من رؤية التيار الفكري الذي انتمى إليه أمين لواقع العالم الرأسمالي وموقع بلدان العالم الثالث فيه، ليتفرع إلى تفسير إمكانات تطورها وآفاقه، وصولًا إلى التساؤل عن معنى الحديث عن سيطرة الرأسمالية وكيفية تجاوزها نحو نظام أكثر عدالة.

لوهلة من الزمن سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي بأعوام، بدت تلك الأسئلة ساذجة. كان ثمة إحساس خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته بأن تلك الأسئلة، ومن انهمكوا في محاولة الإجابة عنها، باتت تراثًا قد يُحتفى به، لكن مكانه هو كتب تاريخ الفكر، وعليه أن يغادر مسرح النقاشات النظرية والسياسية المعاصرة. إنه إحساس نتج من الشعور اليميني والليبرالي الظافر بأن عصر الاشتراكية والتفكير الاشتراكي قد انتهى، وأن التجارب السوفياتية والصينية وغيرها كانت لحظة عابرة في التاريخ. لا شك في أن كثيرًا من أسئلتنا باتت من مخلّفات الماضي حقًا، وهي إذ نتأملها من منظارنا المعاصر، لا منظار عقد الستينيات الثوري، ساذجة مثلما هي الأجوبة عنها.

لكن أسئلة اليسار الجوهرية ظلت قائمة، وعادت لتلهب حماس قطاعات واسعة من سكّان كوكبنا اليوم: من المسؤول عن الأزمات التي هزّت العالم منذ عام 2008، وعن اتساع الفجوة بين الدخول خلال ربع القرن الأخير؟ أين يكمن الخلل في نظامنا القائم؟ كيف نفسره؟ بل كيف نفسّر النظام القائم؟ ما الذي يستدعي التغيير فيه؟ كيف نغيّر؟ وما الذي نريد أن نقيم بديلًا منه؟ لم يكن يورغن هابرماس، إذًا، مخطئًا حين أعلن أن "شبح ماركس سيظل شاخصًا فوقنا" حتى بعد سقوط التجارب التي أرست مشروعيتها على فكره.


* هذه المراجعة منشورة في العدد 17 (شتاء 2019) من مجلة "عمران" (الصفحات 7-24)وهي مجلة فصلية محكمة متخصّصة في العلوم الاجتماعيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "عمران"  جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.