العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

العلاقات المغربية الإيرانية: من القطيعة إلى الانفتاح

الكلمات المفتاحية

عبد العلي حامي الدين

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، "جامعة عبد المالك السعدي - كلية الحقوق – طنجة". أصدر العديد من الكتب، منها: "الدستور المغربي ورهان موازين القوى- الملكية. الأحزاب. الإسلاميون" من إصدارات "دفاتر وجهة نظر-مطبعة دار النجاح الجديدة". وله تحت الطبع "الإسلام والدولة في تاريخ المغرب" و"إرهاصات الدولة الدستورية الحديثة". حائز على جائزة "علال الفاسي الفكرية"، حول بحث تحت عنوان "إرهاصات بناء الدولة الدستورية الحديثة". قدم بعض الدراسات عن "الطبقة الوسطى في المغرب"، و"الخطاب السياسي عند الحركات الإسلامية في المغرب: قضية الشورى والديمقراطية نموذجا"، و الإسلام والديموقراطية: قراءة في أطروحات إسلامية معاصرة"، و"الأصل الدستوري وإشكالية الانتقال الديمقراطي". عضو المكتب التنفيذي "للجمعية المغربية للعلوم السياسية".

 شاهد فيديو كلمة د. عبد العلي 


عوامل التقارب وآفاق المستقبل

تمثل إيران واحدة من أهم دول الجوار الجغرافي للعالم العربي، وعلاقتها بالعرب قديمة، عرفت حقبا من الصراع والحروب، وأخرى ساد فيها التعاون والسلام.

إن بحث العلاقات العربية الإيرانية يطرح مجموعة من الإشكالات المنهجية الواقعية، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة واحدة تتيح لنا إمكانية الحديث عن اقتصاد إيراني، سياسة خارجية إيرانية ، ثقافة إيرانية ...إلخ، أما " العالم العربي" فهو مجموعة من الدول التي تعبر عن كيانات مشتتة لم تحقق بعد شرط الوحدة والتكامل لتمنحنا مشروعية الحديث عن اقتصاد عربي، أو سياسة خارجية عربية ..وإن كانت بعض الدول العربية استطاعت تحقيق بعض التكتلات الجهوية، غير أنها لم ترق بعد إلى المستوى المطلوب، ومن هنا أهمية التركيز على العلاقات العربية الإيرانية في إطار علاقات بينية ثنائية بين إيران وبين بعض الدول العربية بشكل منفرد، ومن ثم فإن هذه الورقة تتناول بالدراسة والتحليل لطبيعة العلاقات المغربية الإيرانية من القطيعة إلى الانفتاح وتدرس عوامل التقارب وآفاق التطوير في المستقبل.

وتجدر الإشارة أن موضوع العلاقات المغربية الإيرانية يعرف ندرة كبيرة على مستوى المراجع وعلى صعيد الكتابات والأبحاث الجامعية، وكذا المقالات والتحليلات الصحافية. وتعد هذه الدراسة محاولة ومساهمة أولية لمقاربة الموضوع من زاوية تحديد ملامح ومرتكزات هذه العلاقات واستشراف آفاق تطويرها.

مقدمة تاريخية

بالرغم من التباعد الجغرافي الكبير بين المغرب وإيران، فإن العلاقات المغربية الإيرانية ليست وليدة اليوم، بل لها جذور تاريخية تعود إلى فترة نهاية القرن السادس عشر الميلادي، عندما وصلت أخبار المغرب إلى الدولة "الصفوية" حول قوة دولة السعديين المتنامية خصوصا بعد انتصارها في معركة "وادي المخازن" ضد البرتغاليين عام 1578م وما ترتب عن ذلك من نتائج سياسية دولية، في منطقة شمال إفريقيا والغرب الإسلامي، وعلى رأسها ردع الإمبراطورية العثمانية، التي كان وجودها ممتدا إلى الجزائر دون أن تنجح في إخضاع المغرب لسلطتها. وهكذا بعث الشاه عباس الصفوي بسفارته إلى الأشراف السعديين ليساعدوه على إشغال الأتراك العثمانيين الذين كانوا في صراع معهم في العراق وأذربيجان.

لقد أدرك الصفويون أنه لن يتم لهم الأمر دون المؤازرة المغربية(1)، وهكذا كانت المراسلات لا تنقطع بين "أصفهان" و"مراكش" حول هذا الموضوع زمن السلطان المغربي "أحمد المنصور الذهبي".

واستمرت العلاقات بين الجانبين في الحقبة المعاصرة، وتميزت الروابط بين البلدين بمرورها بمجموعة من المراحل بدءا من التوافق السياسي زمن الشاه "رضا بهلوي" والملك الراحل الحسن الثاني، إلى القطيعة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لتعقبها مرحلة من الانفراج والانفتاح أثمرت مزيدا من التطبيع على صعيد العلاقات الثنائية.

أولا: التنسيق والتوافق قبيل الثورة

يعود قرار إقامة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإيران إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، بحيث لم تقتصر العلاقات على مستوى التمثيل الدبلوماسي، بل تعدتها إلى التنسيق السياسي والأمني بين البلدين، لاسيما وأنه في ظل هذه المرحلة كانت إيران في صراع مستميت ضد محاصرة المد القومي العربي والنفوذ السوفيتي من خلال مشاركتها في حلف بغداد.

وبعد هزيمة الدول العربية في يونيو1967 ووفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر عام 1970 وتراجع التيار القومي الثوري في المنطقة وبروز تيارات جديدة في الوطن العربي، انطلقت إيران من تصور وجود فراغ للقوة في ظل تراجع دور مصر الإقليمي(2)، يسمح لها ببناء علاقات مع دول عربية وإسلامية تتقاسم نفس الرؤى والمصالح،حتى وإن كانت في دائرة بعيدة عن النفوذ التقليدي الإيراني وهي دائرة المغرب العربي.

وعلى هذا الأساس، قامت العلاقات الإيرانية المغربية، مع استحضار البعد الشخصي في بناء هذه العلاقة بين الملك الراحل الحسن الثاني و الشاه "رضا بهلوي". وامتدت هذه العلاقات لتشمل تنسيق بعض العمليات الأمنية والإستراتجية في إفريقيا زمن الحرب الباردة، وفي هذا الصدد يروي الأستاذ "محمد حسنين هيكل" تفاصيل الاتفاقية السرية التي وقعها المغرب مع فرنسا باعتبارها صاحبة المقترح، إضافة إلى المملكة العربية السعودية وإيران ومصر في نهاية السبعينيات، يقول هيكل: ".....وكان ضمن هذه الوثائق التي اطلعت عليها بتصريح من آية الله الخميني- قائد الثورة الإسلامية في إيران- نص معاهدة تحمل عدة توقيعات أولها توقيع " ألكسندر ديمارنش"(رئيس المخابرات الفرنسية في تلك الفترة). ثم كانت هناك مع نص المعاهدة وثائق وأوراق أخرى تروي تفاصيل واحدة من أهم العمليات السرية في عصر الحرب الباردة، وكان مما يضيف إلى أهميتها أن هذه العملية سجلها اتفاق مكتوب وقع عليه الأطراف خلافا لكل المتعارف عليه في التجمع وراء عملية السرية ".(3)

وجاءت تلك المبادرة الفرنسية آنذاك نظرا لبعدها الاستراتيجي والتاريخي في إفريقيا ونظرا للعبء الكبير الذي كان يمكن أن يثقل كاهل فرنسا، لذا فكرت هذه الأخيرة في عدد من حلفائها، وبالتالي حظيت بقبول واستحسان من المغرب، واعتقد بإمكانية تحقيقها. وبعد اتصالات سرية مكثفة تم الاتفاق سنة 1975، في مدينة جدة السعودية، على تسمية هذه المجموعة بنادي "السافاري"(4).

 وتتلخص تلك المعاهدة في كون فرنسا تتولى تزويد المجهود المشترك بكل ما يلزمه من معدات فنية ووسائل تكنولوجية ومعلومات، وتقوم المملكة العربية السعودية بعملية التمويل، بينما إيران على عهد الشاه كانت شريكا بالعرض من التخطيط إلى التمويل. أما المغرب فكان مسؤولا عن تقديم مجموعات ميدانية وقوات خاصة، وقد وقع هذا الاتفاق كممثل عن الحسن الثاني الجينرال " أحمد الدليمي" رئيس الاستخبارات الخارجية المغربية آنذاك ونظيره الإيراني "نعمة الله ناصري " والسعودي "كمال أدهم". وكانت لمجموعة السفاري بعد ذلك عدد من العمليات التي شارك فيها المغرب كحرب شابا في الزائير 1977و1978 بعد تدهور الأوضاع في إقليم كاتنغا(5).

إلى جانب التنسيق السياسي والأمني الذي ميز العلاقات في هذه الفترة، حظيت العلاقات الثنائية برصيد لابأس به من المعاهدات والاتفاقيات في شتى الميادين(الاقتصادية والفلاحية والفنية) (انظر الجدول: 1)

الجدول 1: الإطار القانوني للعلاقات الإيرانية المغربية ( 1966-1974)

نوعية/ الاتفاقية/ تاريخ التوقيع/ اجتماعات اللجان المشتركة/ تاريخ الاجتماع
- اتفاقية الصداقة -21-06-1966 - محضر الاجتماع الأول للجنة المشتركة المغربية الإيرانية في مجال التعاون الاقتصادي -14-04-1969
- اتفاقية ثقافية -21-06- 1966
-اتفاقية لإلغاء التأشيرات -21-06-1966
-اتفاقية التعاون التقني والعلمي -21-06-1966
- اتفاقية تجارية -15-06-1966
- اتفاقية قرض لتمويل مشروع " تساوت" - يونيو 1967
- بروتكول تعاون في مجال التنمية القروية - 02-03- 1974
المصدر: وزارة الخارجية والتعاون المغربي

وبالرغم من التوافق، الذي ميز العلاقات البينية، إلا أنها شهدت خلافات حول بعض القضايا التي أثرت على مسارها في بعض الأحيان، منها تمسك الجانب المغربي بضرورة تسوية قضية الجزر الثلاث(أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) الإماراتية واعتبارها غير إيرانية، وهو ما كان يثير حفيظة شاه إيران. ومن جهة أخرى كان لرفض الشاه التنازل عن صفقة طائرات "الفانتوم" التي طلبها المغرب من الأمريكيين و التي راهنت الرباط للحصول عليها، أثر كبير في توتير العلاقات بين الطرفين(6).

ثانيا: القطيعة بعيد الثورة

قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، لم يدخر المغرب جهوده ومساعيه الدبلوماسية لحل الأزمة والخلاف بين الشاه وجماعة العلماء في - حوزة قم- ، وفي هذا الصدد يذكر الدكتور "عبد الهادي بوطالب" أنه أثناء اندلاع الشرارة الأولى للثورة في إيران، طلب الشاه من الملك الحسن الثاني القيام بالوساطة بينه وبين الخميني وقيادة الثورة، واختار العاهل الراحل مستشاره بوطالب للقيام بهذه الوساطة، وتوجه مبعوثا عنه للعراق لملاقاة الإمام الخميني، إلا أنه فوجئ بقرار السلطات العراقية بترحيل هذا الأخير خارج العراق. وعاد المبعوث المغربي دون إنجاز مهمته، وتم الاتفاق من جديد مع الشاه على توجيه محاولة الصلح نحو من يوجدون في إيران من المعارضين لنظام الشاه، وكان زعيمهم آنذاك هو آية الله العظمى "كاظم شريعتمداري" الذي التقاه بوطالب في مدينة قم وتباحث معه حول إمكانية نزع فتيل المواجهة مع نظام الشاه(7).

وبنجاح الثورة الإسلامية بالإطاحة بنظام الشاه عام 1979، دخلت الدولتان مرحلة القطيعة، واتخذ خلالها المغرب موقفا مناقضا للنظام الجديد هناك، ثم انقطعت العلاقة بين البلدين عام 1981، نتيجة إعلان المغرب عن قرار استضافة الشاه، وهكذا تأزمت العلاقة بين المغرب وإيران وشابها جفاء دام ستة عشر عاما.

خلال هذه الفترة، شكلت الإيديولوجيات أحد المؤثرات الهامة على عملية صنع السياسة الخارجية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتوجهات والقناعات الإيديولوجية للقيادات، فقد اعتبر الإمام الخميني بأن الحرب ظاهرة استثنائية في حياة الإنسانية، وقسم الحروب إلى ما أسماه بحروب " طاغوتية" وحروب "توحيدية".

 وقد عرف الأولى بأنها حروب تدفع إليها الأنانية والشهوات الدنيوية ورغبة القوى العظمى في السيطرة على الآخرين، في حين عرف الحروب " التوحيدية" بأنها إما حروب دفاعية للحفاظ على الاستقلال أو جهاد يقوده المؤمنون للتوسع ولإصلاح البشرية.

 وقد اعتبر الخميني إنشاء الحكومة الإسلامية في إيران مجرد خطوة أولى تجاه إنشاء الدولة الإسلامية العالمية، كما حث إيران بعد الثورة على دعم "المستضعفين " وحركات التحرير عبر العالم، وطالب حكومة إيران بأن يكون هدفها تحرير البشرية بأكملها.
ومن جهة أخرى، طالب المستضعفين المناضلين ضد هيمنة القوى الكبرى التي أسماها "بالشيطانية" في كافة أنحاء العالم بدعم إيران التي أصبحت بعد الثورة -في نظره- مركزا للمقاومة ضد القوى العظمى، وحذر من أنه إذا تعرضت إيران للهزيمة، فسيعني ذلك هزيمة المسلمين والمستضعفين في العالم بأسره (8).

ورفض الخميني الإقرار بالحدود الجغرافية فيما بين الدول، واعترف فقط بما أسماه بالحدود الإيديولوجية، وأكد أن خلاص البشرية يكمن في تطبيق قوانين الله ( الشريعة). وقد قسم الخميني العالم إلى معسكرين: مستكبرون ومستضعفون، حيث يهيمن المعسكر الأول على الثاني والذي يضم بجانب المسلمين شعوب العالم الثالث الأخرى، وتنبأ بأن ميزان القوى سيميل في نهاية الأمر لصالح المستضعفين إذا توحدوا للخلاص من سيطرة المستكبرين ولتحقيق السلام والأمن في العالم وتنفيذ وعد الله بالإمامة والحكم للمستضعفين في الأرض(9) .

ووفق ذلك لم تلق السياسة الإيرانية الجديدة الترحيب من الأنظمة العربية الحاكمة باستثناء سوريا، وفي عام 1980 أعلن "صدام حسين" حربه على الجمهورية الفتية مدعوما من الغرب، لتكون الحرب الأطول في تاريخ الحروب الحديثة بحيث استنزفت موارد البلدين، بالإضافة إلى الخسائر البشرية الكبيرة.

 وقد تميز الموقف العربي في ذلك الوقت بالجمود تجاه إيران الثورة (10)، وبدل الاستفادة من التطور الإيجابي في سياستها الخارجية ( دعم القضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل(11)). بدأت حملات التجييش ضدها واختلاق الخوف من التمدد الشيعي، واستحضار كل الحقب السوداء في التاريخ المشترك(12).

وفق هذا الأساس، عمل المغرب داخليا على التصدي لكل ما اعتبره محاولات إيرانية لتصدير الثورة إليه، بالموازاة مع ذلك عمد الموقف الإيراني في قضية الصحراء إلى دعم أطروحة الانفصاليين، ليزيد من عمق الهوة بين الدولتين. وفي أعقاب القمة العربية الثانية عشر في فاس 1982،أثناء نشوب الحرب العراقية الإيرانية، أبدى الملك الراحل "الحسن الثاني" استعداد المغرب إلى جانب باقي الدول العربية، تنفيذ التزاماته تجاه العراق بموجب معاهدة الدفاع المشتركة العربية في حالة عدم استجابة إيران واستمرارها في الحرب.

خلال هذه الحقبة تميزت العلاقات بالقطيعة والتوتر بفعل تباعد تصورات البلدين إزاء القضايا الدولية والإقليمية وقضايا المصالح المشتركة، وهكذا شهدت الروابط بين البلدين المزيد من التأزم، من خلال تصعيد المواجهة الدبلوماسية بينهما، ففي عام 1986 عندما كان المغرب يرأس القمة الإسلامية، انعقد بفاس المؤتمر السادس عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية في شهر يناير من العام نفسه، وتقرر فيه أن يعقد الوزراء اجتماعهم التقليدي في نيويورك في شهر أكتوبر، حيث يشارك وزراء الخارجية في دورة الأمم المتحدة، ويكون الاجتماع مناسبة لاستعراض جدول الأعمال، وقبل الاجتماع بيوم واحد أجريت اتصالات بين الوفد السوري والوفد الإيراني، مدعومين بوفدين من ليبيا والجزائر، لإبعاد المغرب عن رئاسة الاجتماع، تمهيدا لاتخاذ قرار بفصله من المنظمة، نظرا لاستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "شمعون بيريز" في مدينة "إيفران" المغربية من قبل الملك الراحل "الحسن الثاني"، وهكذا تقدم كل من الجانب السوري والجانب الإيراني بطلبيهما أثناء الاجتماع بتعليق عضوية المغرب في منظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أن يقظة الدبلوماسية المغربية أثناء اللقاء حالت دون نجاح هذه المناورة الإيرانية(13) و نجحت في إجهاضها.

في نفس الوقت تواصلت الحملات الإعلامية بين البلدين إلى حدود توقف الحرب العراقية الإيرانية ووفاة الإمام الخميني، وإبداء النظام السياسي الإيراني الجديد لنوع من الانفتاح والتقارب مع الدول العربية مما سيفسح المجال لانفراج العلاقات بين الجانبين.

ثالثا: انفتاح العلاقات البينية ومقومات التقارب

شكل قرار إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1991، منعطفا مهما في مسار العلاقات الثنائية، بحيث دخلت الدولتين في مرحلة جديدة من الانفتاح بفعل مجموعة من العوامل الدولية و الإقليمية والمحلية، فقد كان لانهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة تداعيات واضحة على المصالح القومية الإيرانية دفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها من جديد سواء في منطقة الشرق الأوسط أوالعالم العربي و الإسلامي عموما(14) .

 فبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية المدمرة، وصعود التيار الإصلاحي، بدأ النقاش يدور في أوساط القيادات السياسية والنخب الإيرانية ويتمحور حول اتجاهين أساسين: اتجاه يذهب إلى القول بأن على إيران أن تقدم تجربة إسلامية ناجحة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهوما يتطلب انصرافها للاهتمام بقضاياها.

 واتجاه آخر لا يرفض بناء"نموذج ناجح"، ولكنه لا يريد التخلي عن شعارات الثورة، وعلى دور إيران الثوري في العالم، وسيتم التعبير عن هذين الاتجاهين لاحقا من خلال تياري الإصلاحيين والمحافظين(15). ، قبل أن تظهر خريطة سياسية جديدة أبرز معالمها هي ظهور تعددية سياسية حقيقية على حساب التقاطب الثنائي بين المحافظين والإصلاحيين، فقد انفرط عقد الإصلاحيين كما انفرط عقد المحافظين إلى أحزاب وقوى سياسية لها رؤاها وبرامجها المميزة(16).

هذه التفاعلات الجارية بين القوى السياسية لعبت دورا كبيرا في خلق ديناميكية سياسية داخلية، انعكست بشكل إيجابي على صورة إيران في الخارج وأضفت على النظام السياسي الإيراني حيوية مثيرة للمراقبين في الخارج، خصوصا مع حدة النقاشات التي وصلت إلى جوهر الجمهورية الإسلامية، وهو ولاية الفقيه.

كما لعبت حرب الخليج الثانية ونتائجها دورا محوريا في تخفيف مقولة " التهديد الإيراني" في نظر دول الجوار الإقليمي، وساهم وصول كل من الرئيسين "هاشمي رفسنجاني" والرئيس "خاتمي" إلى السلطة واتباعهما لسياسة الانفتاح نحو دول الجوار، في تعزيز العلاقات الإيرانية العربية والإسلامية.

في ظل هذا السياق، شهدت العلاقات المغربية الإيرانية مزيدا من الانفتاح السياسي، بحيث عرف الموقف الإيراني نوعا من التقدم بخصوص ملف قضية الصحراء، عندما جمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية اعترافها بحركة البوليساريو، ودعمت طهران هذا الموقف من خلال قرارات الأمم المتحدة، ويقابله إقرار المغرب فيما بعد بحق إيران في استعمال الطاقة النووية للأغراض السلمية.

لاشك أن الانفراج في العلاقات بين البلدين تحكمت فيها متغيرات جديدة في منطقة المغرب العربي، فتفعيل محور الرباط - طهران، جاء بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والجزائر عام 1993، بعد اتهام السلطات الجزائرية لطهران بالتدخل في الشؤون الداخلية عقب اندلاع المواجهات المسلحة بين الدولة والحركات الإسلامية المسلحة، بعدما كانت الجزائر تعتبر نقطة ارتكاز أساسية للحضور الإيراني في منطقة المغرب العربي والحليف المفضل لطهران، بفعل تقاسم القيم الثورية بين البلدين، إضافة إلى استمرار الجفاء في العلاقات بين ليبيا وإيران منذ واقعة اختفاء الإمام "موسى الصدر" سنة 1977، وإصرار الإيرانيين على جلاء الغموض في هذه القضية، قبل التجاوب مع مساعي ليبيا لتطبيع العلاقات.

كما كان للتنسيق الوثيق والحميم بين طهران ونظام الخرطوم في السودان انعكاساته على العلاقات السودانية التونسية والتي شهدت أزمة حادة أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وأبانت عن مخاوف وهواجس من النزعة الإيرانية المعلنة لتصدير الثورة الإسلامية، من هنا بدأت تظهر بعض التعديلات على السياسة الخارجية الإيرانية، مع تفوق جناح "هاشمي رافسنجاني" على جناح المتشددين، وهو ما أتاح فرصة تقييم الموقف الإيراني من الأوضاع في المغرب العربي ومراجعة التأييد الواضح الذي كانت تظهره طهران للحركات الإسلامية المحلية، وتجسيدا لذلك سعى الإيرانيون إلى توسيع العلاقات الدبلوماسية العادية مع دول المغرب العربي إلى علاقات أكثر تقدما، بعدما تعرضت علاقاتهم مع دول المشرق العربي إلى أزمات لم تكن تنتهي هنا، إلا لتتأجج هناك. ومن تم تدشين سياسة انفتاح واسعة على الحكومات المغاربية.

وعليه فعلى الصعيد السياسي سجل حراك دبلوماسي بين الرباط وطهران، عكسته الزيارات المتبادلة، على مستوى عالي( انظر الجدول:2)، بداية من وزير الخارجية الإيراني الأسبق "علي أكبر ولايتي " عام 1997 وبعده الزيارة الرسمية الشهيرة التي قام بها الوزير الأول المغربي السابق " عبد الرحمن اليوسفي" في عام 2001 إلى إيران، والتي اعتبرت من طرف المراقبين من أهم مؤشرات الانفتاح في السياسة الخارجية المغربية في عهد الملك "محمد السادس"، والذي أرسى مقاربة جديدة لتنويع العلاقات الدولية للمغرب، وقد أسفرت هذه الزيارات عن توقيع المزيد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، وبعده زيارة وزير الخارجية الإيراني السابق "كمال خرازي" عام 2004، وفي الأخير زيارة وزير الخارجية الحالي "منوشهر متكي" في عام 2007 وتوقيعه مع نظيره المغربي على مذكرة تفاهم تشمل إقامة آليات للمشاورة السياسية بين البلدين على مستوى وزراء الخارجية.

ويقابل ذلك زيارات للرسميين المغاربة آخرها زيارة وزير الخارجية المغربي الأسبق" محمد بن عيسى" لطهران ولقائه الرئيس الإيراني "أحمدي نجاد". كما تميزت السنوات الأخيرة بتدشين بعض الزيارات بين بعض الأحزاب السياسية المغربية ونظيرتها الإيرانية.(17)

الجدول 2: الزيارات الرسمية المتبادلة بين المغرب وإيران ( 1997-2007)

السنة/ حجم الزيارة الرسمية
1997زيارة رسمية لوزير الخارجية الإيراني الأسبق "علي أكبر ولاياتي" للمغرب
2000 زيارة رئيس البرلمان الإيراني السابق "مهدي كروبي" للمغرب
2001 زيارة رسمية للوزير الأول السابق "عبد الرحمن اليوسفي" للديار الإيرانية
2002 زيارة وزير الخارجية المغربي السابق "محمد بن عيسى" لإيران
2004 زيارة وزير الخارجية الإيراني السابق "كمال خرازي" للمغرب
2006 زيارة وزير الخارجية المغربي السابق "محمد بن عيسى" لإيران
2007 زيارة وزير الخارجية الحالي" منوشهرمتكي" للمغرب
2007 زيارة رئيس مجلس النواب المغربي السابق "عبد الواحد الراضي" لإيران
المصدر: وزارة الاتصال المغربية - مصلحة التوثيق-

ومن جانب آخر، تعززت العلاقات الثنائية بين الطرفين بتفعيل الإطار القانوني الذي مس هذه المرة عددا من القطاعات (التجارة، تشجيع الاستثمارات، الصناعة، النقل الجوي...). أما اجتماعات اللجان المشتركة بين البلدين، فإن آخر اجتماع يعود إلى عام2004 بحيث تباحث الطرفان إمكانية إحداث مجلس أعمال مغربي إيراني وإطلاق مشاريع مشتركة في المجال الصناعي وباقي القطاعات الإنتاجية بالنظر للمؤهلات التي يتوفر عليها المغرب باعتباره بوابة نحو أوروبا ( انظر الجدول: 3)، كما سبق لهذه الاجتماعات أن تباحثت وتدارست إمكانيات ومقترحات لتعزيز التبادل الاقتصادي، لكي تكون في مستوى تطور العلاقات السياسية (18).

الجدول3: الإطار القانوني للعلاقات الإيرانية المغربية( 1995-2007):

نوعية الاتفاقية/ تاريخ التوقيع/ اجتماع اللجان المشتركة/ تاريخ الاجتماع

- اتفاقية تجارية - 30- 07-1995 - محضر اللجنة المشتركة للعلاقات التجارية والتعاون الاقتصادي -30-07-1995
- مذكرة تفاهم بين المركز الإيراني لإنعاش الصادرات ونظيره المغربي -25-05-1995
- برنامج للتبادل الثقافي والفني لسنوات 1995- 1996- 1997 - 18-07-1995
- اتفاقية للنقل الجوي - 27-02-1997 - محضر لاجتماع اللجنة المشتركة للعلاقات التجارية و التعاون الاقتصادي - 27-02-1997
- بروتوكول اتفاق حول إنعاش وتنمية الصناعة التقليدية -27-02-1997 - محضر للتعاون الثقافي - 16-11-1998
- مذكرة تعاون في مجال الصحة البيطرية -27-02-1997 - محضر اجتماع اللجنة المشتركة - 08-11-2000
- برنامج عمل لسنة 1997بين المركز المغربي لإنعاش الصادرات ونظيره المغربي -27-02-1997 - محضر اللجنة المشتركة في مجال التنمية الاجتماعية - 24-12-2002
- مذكرة تفاهم في مجال الاتصال -27-02-1997 - محضر اجتماع اللجنة المشتركةللتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي -06-01-2004
- اتفاقية التعاون التجاري - 21-01-2001
- مذكرة تفاهم للتبادل الثقافي والتقني - 21-01-2001
- اتفاقية لتشجيع وحماية الاستثمارات بين الطرفين - 21-01-2001
- مذكرة تفاهم في مجال التنمية الاجتماعية - 29-06-2001
- مذكرة تفاهم بين وزارتي خارجيتي البلدين - فبراير 2007
المصدر: وزارة الخارجية والتعاون المغربي

وعلى المستوى التجاري شهدت المبادلات التجارية نموا مطردا منذ 2003، بحيث بلغت قيمة المبادلات التجارية 0.7 مليون درهم وانتقلت إلى 2.74 مليون درهم، لترتفع إلى ما يزيد عن 8 مليون درهم في سنة 2006، وسجل الميزان التجاري عجزا لصالح إيران بفعل ارتفاع حجم الواردات الإيرانية التي يأتي على رأسها النفط في مقابل انخفاض قيمة الصادرات المغربية والمكونة أساسا من مادة الفوسفاط ( أنظر الجدول4).

الجدول 4: تطور المبادلات التجارية المغربية الإيرانية( مليون درهم):

السنوات: 2003/ 2004/ 2005 /2006

الواردات 0.4 2.4 5 8.3
الصادرات 0.3 0,34 0,36 0,45
الحجم الإجمالي 0.7 2.74 5.36 8.75
الرصيد 0.1- 2.06- 4,64- 7.85-
المصدر : مكتب الصرف - المغرب-

أما في المجال الثقافي، فإن الروابط بدأت تشهد نوعا من الانفتاح النسبي، فعلى صعيد الحقل الديني، شارك عدد من علماء الدين الإيرانيين مثل " محمد علي التسخيري" في الأنشطة والدروس الحسنية التي تعقد منذ أيام الملك "الحسن الثاني" في شهر رمضان والتي لازال الملك "محمد السادس" يترأسها، كما أن للسفارة الإيرانية في المغرب نشاطا متواصلا من خلال البوابة الثقافية والفكرية لكسب المزيد من الحضور، ويظهر ذلك من خلال:

  • إقامة المعارض الفنية، كما هو الشأن بالنسبة لمعرض الفنون الإيرانية القرآنية في مدينة "تطوان" شمال المغرب عام 2004 بإشراف السفارة الإيرانية.
  • معارض اللوحات الفنية والجمالية القرآنية داخل السفارة الإيرانية في الرباط عام 2006.
  • المعرض الدولي للكتاب الذي شهد حضورا إيرانيا مكثفا على مستوى دور النشر الإيرانية والشخصيات الفكرية والكتب ذات المرجعية الشيعية(19).
  • اتفاقيات التعاون العلمي بين الجامعات المغربية ونظيراتها في إيران، واستقدام أساتذة إيرانيين لتدريس اللغة الفارسية.
  • تنظيم أسبوع السينما الإيرانية بالرباط .
  • دعم السفارة الإيرانية بالمنح المالية لعدد من الطلبة المغاربة الذين تشجعهم على الالتحاق بالجامعات الإيرانية.

1- عوامل التقارب: بالرغم من التباعد الجغرافي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة المغربية، إلا أن عوامل الالتقاء والتقارب بين البلدين تظل متاحة ومتوفرة، فالمغرب يحتل موقعا استراتيجيا متميزا في إفريقيا و الغرب الإسلامي إلى جانب قربه من أوروبا ، بينما تتمتع إيران بموقع جيوبوليتيكي مهم في آسيا الإسلامية وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا، الأمر الذي يحتم على الطرفين الاستفادة من هذه الإمكانات الموجودة من أجل تطوير التعامل بين البلدين واستغلال جميع هذه الفرص، لاسيما وأن الروابط بين البلدين تسير نحو الأفضل.

فالجانب الإيراني يمكن أن يراهن على المغرب كشريك محوري في منطقة المغرب العربي والعالم الإسلامي، لاسيما وأن المغرب كان من الدعاة الأوائل لانضمام إيران إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، عندما احتضن أول مؤتمر في الرباط سنة 1969بعد إقدام الصهاينة على إحراق المسجد الأقصى(20) ، بالإضافة إلى انسجام المقومات الحضارية والثقافية بين البلدين، بحيث يتميز الشعب المغربي بحبه الشديد لآل البيت، إضافة إلى أن الأسرة الملكية الحاكمة في المغرب تعود جذورها لشجرة الإمام الحسن حفيد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسليل آل البيت الكرام.

تظل هذه العناصر كفيلة بإضفاء مزيد من التنسيق وتحقيق نوع من التقارب الدبلوماسي والسياسي في القضايا التي تهم العالم العربي والإسلامي وعلى رأسها قضية القدس الشريف، كما أن الانفتاح على المغرب من شأنه أن يخفف من حدة الاحتقان والتوتر الذي تعاني منه الجمهورية الإسلامية الإيرانية في علاقاتها مع الدول العربية في المشرق العربي، خصوصا مع الطرف المصري، فالعلاقات ما تزال تتسم بالحذر، ويعتبر الإيرانيون أن القيادة المصرية تنظر إلى العلاقات مع إيران من "مدخل أمني"، أي تشترط حل الهواجس أو الخلافات الأمنية قبل إقامة علاقات سياسية ودبلوماسية كاملة، وتعتبر طهران أن المدخل الأمني يعبر- على الأقل - عن عدم جدية مصرية أو يشير إلى خلل في الرؤية الإستراتجية(21) ، إلى جانب احتدام المنافسة على الأدوار، بعد تداعيات احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق.

أما الجانب المغربي، فمن منطلق تشبثه بهويته العربية والإسلامية، فإنه يحرص على بناء علاقة متينة مع دول إسلامية شقيقة، ومن هنا تأتي أهمية تعميق العلاقات مع الجانب الإيراني، على خلفية تطلع طهران للعب أدوار إقليمية مهمة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي لأن الجمهورية الإسلامية في إيران استفادت من ثغرات الموقف الدولي والهزائم الأمريكية خلال السنوات الأخيرة وعززت بنيتها الاقتصادية والعلمية والسياسية(22) ، كما أن عودة المغرب إلى التفاعل من جديد مع شؤون المشرق العربي يمكن أن يمر عبر البوابة الإيرانية بعد سنوات من انكفاء الرباط عن المنطقة.

ومن جهة أخرى بإمكان المغرب أن يبني تجربة جديدة في مجال تعاون جنوب - جنوب مع الشقيقة إيران من خلال الاستفادة من الخبرة الإيرانية الفنية في مجال الصيد البحري وترميم الآثار والمواقع الأثرية وكذا التعاون في مجال الترجمة للأعمال الأدبية والتاريخية والسينمائية من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية.

2- نحو رؤية إستراتجية جديدة لتطوير العلاقات المغربية الإيرانية: لا شك أن هناك توجها عربيا عاما بالانفتاح تجاه إيران قوبل بخطوات إيجابية خطتها إيران على الأرض تجاه العالم العربي، وقد ترجم ذلك من خلال اتفاقات أمنية واقتصادية وثقافية بين عدد كبير من الدول العربية وإيران، والتي تصب جميعها في خانة الالتقاء المشترك في مواجهة التحديات المشتركة والمستجدات الراهنة. وهناك العديد من المحددات الجغرافية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تجعل من التقارب الإيراني- المغربي واقعا حقيقيا، لاسيما في ظل الواقع الإقليمي العربي الجديد..

إن البعد الجغرافي لمنطقة المغرب العربي عن الخليج العربي وعن عمق العالم العربي والإسلامي جعل الطبقة السياسية في المغرب في منأى عن جميع التخوفات التي تحكم العديد من الأنظمة العربية في الخليج اتجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خصوصا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وبروز الدور الإيراني في العراق الذي أصبح من أهم الأوراق للتأثير ليس فقط على السياسات الأمريكية في العراق وفي المنطقة ككل، ولكن على مواقف العديد من الدول العربية خاصة الخليجية منها، نتيجة لتأثير هذا الدور على الصعود السياسي القوي للشيعة في العراق وداخل بعض الدول العربية الخليجية، فضلا عن الدعم المباشر لحزب الله في لبنان الذي يشكل رقما صعبا في المعادلة الإقليمية في إطار الصراع مع إسرائيل.

فبعد مرور عقدين من الزمن على الثورة الإسلامية في إيران تبدد الإحساس بالتهديد الذي تمثله الجمهورية الإسلامية الإيرانية ب"احتضانها " للحركات الإسلامية الثورية واعتمادها لمنطق "تصدير الثورة"، وأصبحت الدولة في المغرب تشعر بنجاحها الكبير في خلق الإجماع حول النظام الملكي وحول الملك الذي يعتبر في نفس الوقت أميرا للمؤمنين(23)، وحول المذهب المالكي السني (24). وقد ساهم في خلق هذا الارتياح غياب "شيعة" بالمعنى المذهبي للكلمة، واعتماد الحكم المغربي على شرعية دينية معززة بالانتساب لآل البيت، وشيوع ثقافة التقدير والإجلال لآل البيت وللإمام علي كرم الله وجهه.

وفي هذا السياق يمكن اعتبار مذكرة التفاهم بشأن إقامة آلية للمشاورات السياسية (25) الموقعة بين وزارة الشؤون الخارجية والتعاون للملكة المغربية ووزارة الشؤون الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمثابة اتفاق إطار لتطوير العلاقات السياسية بين البلدين في اتجاه أكثر فعالية وأكثر مردودية بالنظر للإمكانيات المتوفرة والتي تفسح المجال أمام العديد من فرص التعاون والاعتماد المتبادل بين البلدين، وبالنظر أيضا للتحولات المتسارعة على صعيد النظام الدولي والإقليمي، والتي يمكن أن تكون لها انعكاسات مهمة في اتجاه تعزيز العلاقات بين البلدين.

لقد نصت ديباجة المذكرة على رغبة كلا البلدين في تعميق وتعزيز العلاقات الودية بينهما وتوطيد التعاون المتعدد الأوجه بين بلديهما، كما شددا على أهمية المشاورات المنتظمة وتبادل وجهات النظر بين البلدين على مستويات مختلفة تخص العلاقات الثنائية والقضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك، وذلك إيمانا منهما بتشييد عالم أفضل أساسه الالتزام الجدي بمقتضيات ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، كما نصت المذكرة على أن البلدين بصفتهما بلدين مسلمين صديقين سيعملان على أن تكون العلاقات بينهما قائمة على أسس الأخوة والمساواة والتعاون والثقة والاحترام المتبادل لحق السيادة والحفاظ على وحدة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين...

إن مواد هذه المذكرة تفتح آفاقا جيدة لرسم استراتيجية جديدة لتطوير العلاقات المغربية الإيرانية، وفي هذا الإطار تقترح هذه الورقة بعض المجالات التي يمكن أن تكون محلا لتنسيق المواقف والتشاور واعتماد آليات التعاون والاعتماد المتبادل بصددها، من قبيل مواجهة تحديات العولمة والملف النووي الإيراني والاهتمام بالشأن الإفريقي وتطوير فكرة التقريب بين المذاهب وتعزيز نظرية حوار الحضارات والحرص على وحدة أراضي البلدين.

- تنسيق المواقف على مستوى الملف النووي

لقد عرف انتشار القدرات النووية السلمية في المنطقة المغاربية تطورات هامة في الآونة الأخيرة، فقد أعلنت ليبيا في الأول من فبراير 2007 عن تفاهمات مع فرنسا للتنقيب عن اليورانيوم واستخراجه، كما وقعت مع الولايات المتحدة في مارس 2007 اتفاقية تعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية تهدف إلى إنشاء محطة نووية لإنتاج الكهرباء وتحلية المياه،ونص مشروع الاتفاقية على فتح باب الدراسة في مجال الطاقة النووية في الجامعات الأمريكية أمام الطلبة الليبيين وعلى إقامة مشاريع بحثية وتقنية مشتركة في المجالات ذات العلاقة وإنشاء مركز إقليمي للطب النووي وتبادل الخبرة التقنية.

كما تملك الجزائر احتياطات هائلة من اليورانيوم، وقد أعلنت في يناير 2007 أنها بصدد الإعداد لمشروعين علميين، يتعلق أحدهما بإنتاج الكهرباء النووية والثانية بتحلية مياه البحر بواسطة الطاقة النووية، وتم إجراء دراسات المشروعين بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2006.

كما بدأت تونس بعض الخطوات العملية لإنشاء محطة مزدوجة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه، تعمل بالطاقة النووية في منطقة غنوش، الواقعة في خليج قابس... أما بالنسبة للمغرب فهناك اقتناع متزايد بضرورة دخول النادي النووي السلمي، فالمغرب لا يتمتع باحتياطات وفيرة من البترول والغاز الطبيعي، ويقدر الخبراء المغاربة تكلفة إقامة محطة نووية بالمغرب بأكثر من ثلاثة مليارات دولار (بحلول 2017)، وهو ما يتفق مع دراسات الجدول التي أعدها المكتب الوطني للكهرباء بالمغرب.(26)

إن هذه التطورات تضفي مشروعية كبيرة على البحث العلمي النووي للأغراض السلمية، ومن شأنها تعزيز القدرة التفاوضية للدول العربية والإسلامية في اتجاه الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية ودفعها إلى التمييز بين ما هو مدني وما هو عسكري في الطاقة النووية(27).

وفي هذا السياق يمكن للمغرب أن يعرض على واشنطن إمكانية القيام بدور الوسيط بين طهران وواشنطن لتأمين استئناف المحادثات بينهما، والعمل على تخفيف حدة الضغط الدولي على إيران(28) ، وبالتالي عقد اتفاقية سلمية لتسوية الأزمة النووية. إن علاقة الرباط الوثيقة مع واشنطن يمكن لطهران أن تجعلها مدخلا جديدا لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة أو قناة لتلك العلاقات في ظل التوتر الحالي بسبب الملف النووي (29).

- التنسيق المغربي الإيراني في الشأن الإفريقي

بدأ الاهتمام الإيراني بالقارة الإفريقية خلال عقد الستينات من القرن الماضي، بشكل متزامن مع حصول أغلب الدول الإفريقية على الاستقلال غير أن انشغال إيران بشؤونها الداخلية عقب قيام الثورة الإسلامية واندلاع الحرب العراقية الإيرانية، أصاب دورها الإفريقي بنوع من التراجع، وبقدوم الرئيس خاتمي إلى السلطة، اتجهت إيران إلى تنشيط سياستها الخارجية في إفريقيا في إطار انفتاح نظام خاتمي على العالم بطريقة براغماتية متحررة إلى حد ما من القيود الإيديولوجية(30) .

أما المغرب فإن حضوره في إفريقيا له امتداد تاريخي وروحي وسياسي، ويتوفر على خبرة وتجربة لابأس بها في مجال التعاون التقني مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، وبالتالي فإن تنسيق الجهود في هذا المجال في إطار تكريس آلية جديدة للتعاون الثلاثي ( إفريقيا، المغرب، إيران) من شأنه أن يكثف الروابط الوثيقة بالقارة السمراء، عبر تأكيد قدرات كل من إيران والمغرب كشريكين تنمويين مع إفريقيا لاسيما في مجال إعادة إعمار عدد من الدول الإفريقية التي دمرتها الحروب الأهلية، والإسهام في تنشيط عدد من البرامج التنموية والثقافية، والعمل على إظهار التضامن المغربي الإيراني مع القضايا الإفريقية من خلال الدفع بالتعاون جنوب - جنوب . خصوصا إذا استوعبنا العمق الإسلامي للقارة الإفريقية التي يشكل فيها الإسلام ديانة الأغلبية من السكان في معظم الدول الإفريقية(31) .

- الإسهام في رسم استراتيجية مواجهة تحديات العولمة

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال نظام الثنائية القطبية، برزت العولمة بشعاراتها الاقتصادية المتمثلة في حرية السوق ورفع الحمائية الجمركية وإطلاق الحرية لحركة التبادل التجاري، والتفاعلات المالية والاقتصادية بلا حدود ولا قيود، كما أكد ذلك إنشاء منظمة التجارة العالمية ...

ولما كانت الدول الإسلامية تنتمي إلى الدول المتوسطة والصغيرة وهي الدول التي تتأثر تقليديا بتحولات البيئة الدولية فإنه كان من المنطقي أن تشعر تلك الدول بآثار العولمة وبالحاجة إلى تحديد مدلولاتها العميقة وآثارها على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري بشكل عام، وضرورة رسم استراتجيات محكمة للتعامل معها، من هنا تبرز أهمية التنسيق الإيراني المغربي في مجال تحديد القضايا المثارة في أجندة العالم الإسلامي حول العولمة، والإسهام في بلورة رافد مهم يمكن أن يشكل سدا منيعا أمام سيل العولمة الغربية الجارف.

إن السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وجهت سلبيات العولمة الاقتصادية باستراتيجية مضادة، ذلك أن العولمة في الوقت الراهن تعمل لصالح دول الشمال المتقدمة على حساب دول الجنوب الفقيرة، وفي هذا الإطار لابد من إعادة التفاوض حول معاهدة منظمة التجارة العالمية وتعديل المواد التي تتضمن أحكاما مجحفة بالدول النامية والتي من شأنها أن تلحق أضرارا بالغة الخطورة بالاقتصاديات الناشئة لهذه الدول.

- التعاون الثقافي وتعزيز فكرة الحوار بين الحضارات

بعد مرور عقدين من الزمن على الثورة الإسلامية في إيران، تراجعت لغة الخوف من تصدير الثورة، وتبدد الإحساس بالتهديد الإيراني والتخوف من المد الشيعي، وقد كان لمبادرة رئيس الجمهورية الإيرانية الإسلامية السابق محمد خاتمي الرامية إلى إطلاق حملة ثقافية عالمية لحوار الحضارات، دورا كبيرا في إشاعة مناخ ثقافي إيجابي في أوساط المثقفين، كما استقطبت دعم العديد من رجالات السياسة في الغرب وفي العالم الإسلامي، ومن المعروف أن الجمعية العامة للأمم المتحدة وافقت على مبادرته بالإجماع، وأصدرت قرارا تاريخيا باعتبار عام 2001 هو عام حوار الحضارات، وهو ما اعتبر انتصارا معنويا على أطروحة "صراع الحضارات" وما يرتبط بها من تنظير للحروب الثقافية في القرن الحادي والعشرين بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية، غير أن أحداث 11 سبتمبر أعادت الاهتمام بأطروحات صراع الحضارات من جديد، سواء في الغرب الذي برزت فيه بعض الخطابات العنصرية القديمة على لسان بعض الرؤساء الغربيين، والتي نحت نحو إعادة إحياء الصفحات القديمة للتاريخ الاستعماري أو في الخطاب الإسلامي المتشدد الذي صاغه تنظيم القاعدة وزعم فيه أن هناك حربا دينية قائمة بالفعل بين الغرب والعالم الإسلامي (فسطاط الخير وفسطاط الشر)، وهو ما يدعو كلا البلدين إلى العمل من أجل تصحيح صورة الإسلام ووضع سياسة ثقافية للتعريف بقواعد الإسلام وقيمه السمحة وتوثيق الصلة مع مؤسسات المجتمع المدني في المجتمعات الغربية وفي أوساط المثقفين لإبراز وجهات نظر إسلامية تعبر عن نضج الفكر الإسلامي واستيعابه للكثير من مفاهيم الحداثة المعاصرة في سياق منظوره الحضاري والإنساني.

- تطوير فكرة التقريب بين المذاهب والإسهام في حل إشكالية العلاقة بين السنة والشيعة

أصبح موضوع العلاقة بين السنة والشيعة يحمل الكثير من الدلالات السياسية بعدما كان محصورا في بعض الخلافات الفقهية والعقدية الموجودة بين السنة والشيعة.

لقد تجلت البداية الملموسة لخطورة الحساسية المذهبية بين السنة والشيعة بعد الغزو الأمريكي للعراق ونجاحه في الاستعانة قبل الاحتلال وبعده بعديد من الرموز السياسية والدينية الشيعية ودفعها إلى مقدمة المشهد العراقي في ظل تحجيم مقصود السنة في العراق، وقد زاد من هذه الحساسية المذهبية بين الطائفتين، قيام بول بريمر الحاكم الأمريكي المدني للعراق بتشكيل مجلس الحكم العراقي في 12 يوليوز 2003 والذي اعتبر أعلى هيئة في البلاد وحظيت فيه الطائفة الشيعية بثلاثة عشر مقعدا من مقاعده الخمسة والعشرين، بينما حصلت الطائفة السنية العربية على خمسة مقاعد فقط، وقد جاءت العديد من القرارات والإجراءات المتتابعة في نفس الاتجاه، وهو ما جعل الطائفة السنية العربية في العراق تشعر بضياع حقوقها في العراق نتيجة الانحياز الواضح للطائفة الشيعية، وهو ما يمثل السبب الأول لاندلاع العديد من الصراعات الدموية بين الطرفين، ساهم في تغذيتها شعور بعض الشيعة بأن معاناتهم من ظلم النظام السابق أججها وجود رئيس"سني المذهب" على رأسه، ومن ثم فإن حملات الاضطهاد ضدهم كانت "اضطهادا سنيا"...

وبغض النظر عن صحة هذه القراءة أو خطئها فإن توتر العلاقة بين السنة والشيعة في العراق ألقى بظلاله على العلاقات العربية الإيرانية ولم يبق حبيس الظروف العراقية، وهكذا خرج الملك عبد الله الثاني ملك الأردن أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية بتصريحات لجريدة الواشنطن بوست في 8 ديسمبر 2004 أعرب فيها عن تخوفاته من قيام ما أسماه بـ"الهلال الشيعي" في منطقتي الشرق الأوسط والخليج والذي سيخضع للنفوذ الإيراني، وفي يوم 8 أبريل 2006 أدلى الرئيس المصري حسني مبارك بحديث طويل لإحدى الفضائيات العربية(32) ، قال فيه بأن إيران لها بالتأكيد تأثير عميق على الشيعة في العراق، وأضاف أنه إذا كان الشيعة يمثلون غالبية السكان في العراق فإن هناك شيعة في كل الدول المجاورة له وأن أغلبهم ولاؤهم لإيران وليس لدولهم، وأوضح أيضا بأن العراق يشهد حربا أهلية تقريبا بين الشيعة والسنة ومختلف الأعراق والمذاهب والطوائف بما أدى إلى تدميره تقريبا، وأضاف بأن انسحاب الأمريكيين الآن سيسمح باشتعال الحرب أكثر بين العراقيين ، وسيسمح بدخول قوى كثيرة وفي مقدمتهم إيران.

إن هذه التصريحات وغيرها وما تلاها من أحداث وتطورات أخرى عراقية ودولية ومهمة حولتها من ظاهرة عراقية داخلية إلى ظاهرة إقليمية ذات أبعاد دولية. لقد أصبحت إيران تمثل الآن قطبا للمذهب الشيعي في العالم بينما يعتبر المغرب نموذجا للإسلام المعتدل السني القائم على المذهب المالكي والبعيد كل البعد عن الخلافات المذهبية(33) ، وفي هذا السياق من المفيد أن تنخرط المملكة المغربية في مبادرة للتعايش والاعتراف المتبادل بالاختلاف وتضييق دائرة الخلاف المذهبي بين الطائفتين والحيلولة دون الانعكاسات السياسية للخلاف السني الشيعي ، خصوصا أن الملابسات المعقدة للأوضاع في العراق تشير إلى احتمالات قوية لوجود أطراف خارجية تعمل على إشعال وتوسيع دائرة الصراع المذهبي والطائفي، فقد أكدت العديد من التقارير الصحافية والأمنية المنشورة حول العراق تحت الاحتلال أنه بات ساحة مفتوحة لعدد كبير من أجهزة المخابرات الأجنبية وهو ما يجعل العديد من العمليات الدموية الحاصلة اليوم في العراق يلفها الغموض والتعقيد.

- الحفاظ على وحدة الأراضي ومواجهة خطر التجزئة

لقد نصت مذكرة التفاهم بين المغرب وإيران على أن البلدين بصفتهما بلدين مسلمين صديقين سيعملان على أن تكون العلاقات بينهما قائمة على أسس الأخوة والمساواة والتعاون والثقة والاحترام المتبادل لحق السيادة والحفاظ على وحدة الأراضي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين. وفي هذا السياق، فإن احتلال المغرب لمكانة هامة في خريطة السياسة الخارجية الإيرانية في منطقة المغرب العربي، يظل رهانا أساسيا للتوجه الإيراني. وينبغي أن تحكم العلاقات المغربية الإيرانية رؤية إستراتجية، تستجيب لخدمة المصالح العليا للبلدين وفي مقدمتها الانتباه إلى مشاريع التجزئة التي تستهدف منطقة المغرب العربي.

إن العلاقات بين البلدين عليها أن تنتقل من مستوى الارتهان بتقلبات العلاقات بين طهران والجزائر(34) . خاصة عندما تربط السلطات الجزائرية تأييدها للبرنامج النووي الإيراني بتبني طهران للموقف الجزائري من قضية الصحراء والضغط على هذه الأخيرة لتجديد اعترافها بجبهة البوليساريو بعد أن جمدت اعترافها به منذ أربع سنوات تقريبا، فالطرف الإيراني مطالب بإدراك العمق الوطني لقضية الصحراء عند المغاربة ( ملكا وشعبا)، في حين تفضل الجزائر منذ اندلاع نزاع الصحراء عام 1975، توظيف هذا الملف محليا وإقليميا بما يحقق أجندة صناع السياسة في الجزائر سياسيا واقتصاديا.

- تطوير التعاون العلمي والثقافي

إن تطوير العلاقات المغربية الإيرانية يمر عبر تعزيز علاقات التنسيق والتعاون على المستوى الثقافي والعلمي خصوصا وأن كلا البلدين يتوفران على إمكانيات علمية وثقافية وسياحية هائلة وفي هذا الإطار يمكن التفكير في :

- توفير سبل التعارف بين الباحثين والجامعيين المغاربة والإيرانيين، وبعث الاهتمام لدى مراكز البحث في طهران بأهمية العناية بمنطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا أي الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط بدلالاتها التاريخية والجيوستراتيجية، وخلق الاهتمام لدى الجامعات المغربية بضرورة الانفتاح على بلاد فارس أو الوجه الآخر للحضارة الإسلامية بما تزخر به من فنون وآداب ، وتشجيع جهود الترجمة المتبادلة للإنتاجات الأدبية والثقافية للبلدين.

- مراجعة مناهج التعليم في اتجاه تركيز مفهوم الانتماء للأمة الإسلامية الواحدة مع تعدد أعراقها ومذاهبها وخلفياتها الفكرية والثقافية، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة أن الكتاب المدرسي المغربي لا يقدم أية صورة عن إيران، ورغم أن هذا الغياب لا يبدو مقصودا أو متعمدا إلا أنه لا يسهم في تحقيق التقارب المنشود، إذ ليس في كتب التاريخ والجغرافيا ما يشير إلى صورة محددة لإيران المعاصرة، فهي دولة ما وراء الحدود ليس لها علاقات أو مشاكل مباشرة مع المغرب وما حصل فيها من تحولات غائب هو الآخر، بينما يحضر إلى جانب التركيز على المغرب كوطن في تاريخه وحاضره،التعريف بالدول الأوروبية بتاريخها الحضاري والاستعماري،ربما لأن المغرب وهواجسه على تماس مباشر مع أوروبا أكثر منها مع أي بلد آخر..(35)

- إبراز الوجه الثقافي والحضاري للبلدين من خلال تنظيم المهرجانات الثقافية والفنية والإبداعية في كلا البلدين، وتشجيع تعلم اللغة العربية بالنسبة للإيرانيين، وتعليم اللغة الفارسية بالنسبة للمغاربة، وذلك لتيسير عملية التثاقف والاطلاع على ما عند الآخر من كنوز ثقافية ومعرفية...

إن هذه المجالات لا يمكن أن ترى النور على أرض الواقع دون إرادة سياسية قوية لدى صانع القرار في كلا البلدين، ودون ترسيم آليات للتنسيق المنتظم والمستمر.

لقد نصت مذكرة التفاهم المذكورة سابقا، في مادتها الرابعة أن المشاورات بين البلدين تجرى كلما دعت الضرورة لذلك على الأقل مرة واحدة في السنة، بالتناوب في الرباط وطهران على مستوى وزراء الخارجية في كلا البلدين أو من ينوب عنهما من كبار المسؤولين في كلتا الوزارتين، ونحن نعتقد أن حجم العلاقات المتوقعة بين البلدين ينبغي أن يرقى تنسيقه إلى مستوى لجنة عليا مغربية إيرانية برئاسة رئيسي حكومتي البلدين، وعقدها بشكل منتظم لبحث سبل تطوير العلاقات المغربية الإيرانية على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري، مع تأسيس جمعية للصداقة المغربية الإيرانية وتفعيل لجنة الصداقة البرلمانية التي تأسست في الولاية التشريعية السابقة بمناسبة زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني آنذاك السيد ناطق نوري إلى الرباط.

خاتمة

إن محددات العلاقة بين دول العالم العربي لا تتحكم فيها محددات داخلية مستقلة عن العوامل الخارجية، خصوصا في ظل التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية للعديد من الأنظمة العربية للغرب، فهناك أطرافا دولية عملت منذ قيام الثورة الإسلامية على قطع الوشائج بين العرب وإيران، للاستفراد بكل منهما، بل إن الشأن الإيراني-العربي ليس شأنا ثنائيا ولكن الطرف الأجنبي موجود فيه ومؤثر، وينبغي الحذر من هذا الدور والعمل بذكاء لإحباط مخططاته(36).

إن الإخفاق في بناء استراتيجية للانفتاح على العالم الإسلامي راجع بدرجة أساسية إلى عوامل سياسية وإلى طغيان الحسابات السياسية لبعض الأنظمة ناقصة الشرعية على حساب تطلعات الشعوب وطموحاتها، وعدم الوعي بحجم المكاسب التي يمكن تحصيلها من الانفتاح بين الدول العربية وإيران.. خصوصا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية حققت تقدما هائلا في مجالات اقتصادية وصناعية وعلمية كبيرة يجدر بالعالم العربي الاستفادة منها.

ألم يقل الحديث النبوي الشريف في حق أهل فارس "لو كان العلم معلقا بالثريا، لتناوله قوم من أبناء فارس" (37)، هذا الحديث النبوي يحمل مبشرات روحية قوية تجعل أهل فارس يتطلعون إلى تحقيق هذه البشارة النبوية وتحصيل درجات مهمة في مجال التفوق العلمي والمعرفي والثقافي، وليس ذلك بعزيز إذا توفرت شروط النهضة الحضارية والتحرر من التبعية للآخر.

----------

  • (1). د. عبد الهادي التازي، الموجز في تاريخ العلاقات الدولية للمملكة المغربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1988، ص،95
  • (2). مبارك مبارك أحمد ، "جولة خاتمي العربية: نحو تفعيل العلاقات الإيرانية- العربية"، مجلة السياسة الدولية، عدد، 159، يناير 2005، ص، 172
  • (3). محمد حسنين هيكل، " الفرانكوفونية ..... وأخواتها" ، مجلة وجهات نظر، العدد الثامن والعشرون، مايو 2001، ص ، 11
  • (4). السفاري هو الوصف الذي يستعمل لرحلات السياحة للصيد أو مشاهدة الوحوش في غابات وأدغال إفريقيا.
  • (5). محمد حسنين هيكل، مرجع سابق، ص، 12-13
  • (6). راجع مذكرات  مستشار الملك الراحل الحسن الثاني، د. عبد الهادي بوطالب، نصف قرن في السياسة، منشورات الزمن، 2001، ص، 294
  • (7). للمزيد من التفاصيل راجع مذكرات مستشار الملك الحسن الثاني، مرجع سابق، ص، 287-289
  • (8). وليد محمود عبد الناصر، " الجذور الفكرية للسياسة الخارجية الإيرانية"، مجلة السياسة الدولية، عدد، 106، أكتوبر ، 1991، ص،136
  • (9). مرجع سابق، ص، 137
  • (10). في المغرب العربي ، تبنت الجزائر موقف تأييد الثورة في إيران، وتوثقت العلاقات ونمت بصورة ملحوظة وملموسة، ومثلت زيارة الرئيس الجزائري السابق " الشاذلي بن جديد" لإيران في عام 1982، في  أثناء الحرب بين العراق وإيران ، تحولا هاما في سياق ما قامت به الجزائر من تمثيل ورعاية المصالح الإيرانية في الولايات المتحدة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وطهران  في أبريل 1980، أحداث احتجاز موظفي السفارة الأمريكية  في إيران، وما قامت به الجزائر من دور الوسيط من اجل الإفراج عن 50 دبلوماسيا أمريكيا كرهائن في السفارة الأمريكية. كما كثفت الجزائر من مهام الوساطة الحميدة خلال الحرب بين العراق وإيران( 1980-1988) إلى حد انه في خلال إحدى هذه المهام قتل وزير خارجيتها " محمد الصديق بن يحيى" إثر تحطم طائرته في ظروف غامضة في ماي 1982، عند الحدود العراقية - التركية.
    وفي المقابل فضل الجانب المغربي التدخل في أزمة الرهائن، بطريقة غير مباشرة عبر دعم مساعي منظمة التحرير الفلسطينية  لدى السلطات الإيرانية عبر إقناع طهران، بأن حل هذه القضية من شأنه أن يعزز مكانة ايران على الصعيد الدولي.
  • (11). أقدمت القيادة الجديدة للثورة في إيران على إغلاق  مقر البعثة الإسرائيلية في طهران، وفتحت مكانها مقرا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعين السيد " هاني الحسن" ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في طهران 
  • (12). محمد خواجه، " المثلث العربي- الإيراني- التركي"، مجلة شؤون الأوسط، عدد، 109، 2005، ص، 169
  • (13). للمزيد من التفاصيل على هذه الحادثة الدبلوماسة، راجع ، محمد التازي، مذكرات سفير، الجزء الأول، مطابع الأنباء، ص، 381-387
  • (14). محمد الحيدري، "التحولات الجيوبوليتكية، الجغرافيا الجديدة للأمن الإيراني" ، مجلة شؤون الأوسط، عدد، 121،2006 ، ص ، 49
  • (15). محمد خواجه، مرجع سابق، ص، 164
  • (16). التقريرالاستراتيجي العربي-2006-2007. مركز الدراسات السياسية  و الاستراتيجية/الأهرام- إيران من الداخل-ص:171.
  • (17). تميز المؤتمر الأخير لحزب المشاركة الإيراني الذي يرأسه محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس الإيراني السابق و المحسوب على الاتجاه الإصلاحي، بحضور حزبين مغربيين يمثلان أهم القوى السياسية في المغرب، ويتعلق الأمر بكل من حزب العدالة والتنمية بقيادة أمينه العام د.سعد الدين العثماني وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة كاتبه الأول ذ.محمد اليازغي، وقد صرح مسؤول العلاقات الخارجية لحزب العدالة والتنمية محمد رضا بنخلدون أن هذه الزيارة اشتملت على لقاءات مع مسؤولين كبار في الجمهورية ومع العديد من مراكز الأبحاث في طهران ومع العديد من علماء الحوزات الدينية في إيران
  • (18). راجع حوار أحمدي وحيد، سفير إيران بالمغرب، جريدة  الوطن، عدد، 248، 2007
  • (19). نسجل تراجع هذا الحضور في السنتين الأخيرتين.
  • (20). محمد السماك، التحولات المشرقية في السياسة المغربية، دار النفائس،1993، ص،85
  • (21). غسان بن جدو ، " إيران إلى أين؟" مذكور في  خلدون النقيب وآخرون ، العرب وجوارهم ... إلى أين؟ مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص، 263-264
  • (22). علي فخر الدين، " إيران والوحدة الإسلامية" مجلة موازين، عدد، 10، فبراير 2007، ص، 15
  • (23). ينص الفصل 19 من الدستور المغربي أن " الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة "
  • (24). يصر الخطاب الرسمي المغربي على أن المغاربة تجمعهم وحدة المذهب المالكي و العقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد...
  • (25). تم توقيع هذه الاتفاقية بالرباط بتاريخ 5 فبراير 2007 بين وزير الشؤون  الخارجية والتعاون المغربي آنذاك محمد بنعيسى ووزير الشؤون الخارجية الإيراني منوشهر متكي
  • (26). التقرير الاستراتيجي العربي- مرجع سابق-ص: 135
  • (27). voir :Yann Richard , « la question nucléaire vue par les iraniens », in  ou va l'Iran ? , Actes du 17 Mais 2006. Fondation pour la recherche Stratégique -Denis Bouchard , L' Iran : puissance énergétique (ré)émergente), Note de l'Ifri Septembre 2007, p , 18 
  • (28). نشير إلى أن إيران طلبت رسميا الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية منذ عام 2001 ولكن الطلب، جوبه بالرفض. إلى درجة أن الولايات المتحدة الأمريكية اعترضت حتى على تمتع إيران بوضعية ملاحظ.  
  • (29). Frhad Khosrokhavar, « La politique étrangère en Iran : de la révolution à l' « axe du mal », Politique  étrangère, N° 1, 2003, pp, 77-91
  • (30). أيمن السيد شبانة،" السياسة الإيرانية في إفريقيا: آفاق جديدة"، السياسة الدولية، عدد، 160،أبريل2005، ص،40
  • (31). راجع توزيع المسلمين في دول إفريقيا جنوب الصحراء: L'Année stratégique,2001, Ed, Michalon,2000
  •  (32). يتعلق الأمر بقناة "العربية"والمحسوبة إعلاميا على المملكة العربية السعودية
  • (33). لم تصدر أية تصريحات من المسؤولين المغاربة تحذر من الخطر الشيعي، رغم التقارب الحاصل بين المغرب وعدد من الدول الخليجية في مقدمتهم المملكة العربية السعودية.
  • (34). المراقبون لتطور العلاقات الجزائرية - الإيرانية  يرون  أنها لم تكن على ما يرام منذ شهور فقط، بسبب تصريحات لمسئولين إيرانيين كبار أبدوا ارتياحا لإعدام  الرئيس العراق الراحل " صدام حسين" صبيحة عيد الأضحى المبارك، واستنكار مسئولين جزائريين وعلى رأسهم رئيس الحكومة " عبد العزيز بلخادم" لتوقيت تنفيذ حكم الإعدام والتنديد ضمنيا بالدور الإيراني  في بلاد الرافدين. وشنت وسائل الإعلام  الجزائرية  في حينه هجوما عنيفا على إيران استمر أياما عدة، واتهمتها بتحريض الميلشيات العراقية على إبادة أهل السنة وتدمير المساجد، كما أشارت إلى فضيحة " ايرانغايت" وإلى الاتصالات السرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب تحذيرات من نشر للمذهب الشيعي في الجزائر.
  • (35). طلال عتريسي، الجمهورية الصعبة، إيران في تحولاتها الداخلية وسياساتها الإقليمية، دار الساقي، 2006، ص،148-151
  • (36). فهمي هويدي،(بتصرف): العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل- بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع جامعة قطر- مركز دراسات الوحدة العربية- الطبعة الأولى- بيروت-تموز/يليوز 1996-ص:933.
  • (37). محمد ناصر الدين الألباني- المجلد الخامس - -مكتبة المعارف- الرياض-الطبعة الأولى.